منْ "أمطار الصيف" في 2006، و"الرصاص المصبُوب" في عامَيْ 2008 وَ2009، وصُولًا إلى عمليَّة "عامود السحاب" سنةَ 2012، ثمَّ "الجرف الصامد"، في 2014؛ يبدُو أنَّ تاريخ العلاقات بين إسرائيل وغزة، منذُ إخلاء المستوطنين اليهود من القطاع في 2005، صارَ سلسلةً من عملياتٍ عسكريَّة تتكررُ بين حينٍ وآخر. إذْ ما إنْ يكادُ فصلُ عنفٍ ينتهِي حتَّى يكون ثمَّة فصلٌ جديد يستعد للإعلان عن بدايته. على منْ يقعُ الوزرُ فيما يحصل؟ كلٌّ من الطرفين يدافعُ عمَّا يراهُ حقًّا، على نحو يبعثُ المراقبين على الحيرة. حتى أن الارتباك بدا طافحًا على ردود الفعل الغربية. التي تتخذُ صيغتين، تبدي في أولاهما دعمًا شبه ضمني للعملية العسكرية الإسرائيلية الحالية، أو تعمد إلى الموازاة في مواقفها من الطرفين، بكثير من الاحتراز. شيئًا فشيئًا يبدُو أنَّ الإسرائيليين والفلسطينيين قدْ صارُوا أسرى لقانون الثأر المعاصر. إرث قديم يجعلهم ينزلون إلى المواجهة بين الفينة والأخرى، مما يضحِي معه المجتمع الدولي مجردًا من كل مسئولية. لتقريب الصورة وتفادِي المأساة، يبنغي حكيُ قصة أخرى، قدْ تكون معينة على فهم الوضع، مؤداها أن احتلال غزة وبخلاف ما تدعيه إسرائيل، لمْ يبلغ متمه مع انسحاب آخر جندها من إسرائيل، في الحادي عشر من سبتمبر 2011، فالمنظمة الإسرائيليَّة غير الحكوميَّة " Gisha"، نفسها، تؤكد أن إسرائيل لا تزالُ متحكمة في مختلف مناحي حياة الغزاويين، من السجلات المدنية إلى المياه وصولًا إلى المجال الجوي، والمحطة التجارية الوحيدة. الجيشُ الإسرائيلِي يمنعُ كل سكان غزة تقريبا، من السفر، في انتهاكٍ لاتفاقية أوسلو، التي نصت على جعل الضفة الغربية وقطاع غزة منضويتين تحت إطار قضائي واحد. كما أنَّ سكان غزة المحاصرة، لا يملكُون حتى الحق في الولوج إلى المنطقة الممتدة على مسافة من 500 إلى كيلومتر واحد من الحدود مع إسرائيل، يملكُون بها أراضٍ فلاحيَّة، خشيةً تعرضهم لطلقاتٍ رصاص، بشكلٍ أوتوماتيكي. الأنثربلوجِي، جيفْ هالبررْ، الذِي ينتصبُ واحدًا من المنافحِين عن السلام في إسرائيل، يستخدمُ صورةً بلاغيَّة تظهرُ مفارقة الانسحاب الإسرائيلِي من غزة سنة 2005، بتشبيه سكان غزة، بعد انسحاب المستوطنين من القطاع، بالسجناء الذِين يراقبُون معتقلهم، دون أنْ يكونُوا قدْ نالُوا حريتهم، وبرحُوه. لامبالاة من المجتمع الدولي تبعًا للوضع الراهن، فإنَّ أغلب الخبراء في القانون الدولي يخلصُون إلى أنَّ قطاع غزة لا يزالُ خاضعًا للاحتلال. وهو ما تقرُّ به الأمم الأمم المتحدة. ويسائل المحتل الذي يتوجبُ عليه أنْ يضمن سبل عيش من يخضعون لاحتلاه. لكن إسرائيل متنصلة من تلك الالتزامات. ومع دعم الماريشال، عبد الفتاح السيسي، الذي يكنُّ عداءً كبيرًا لحماس، وتواري المجتمع الدولي، ضاق الخناق أكثر على غزة. وفقًا لمكتب الإحصاءات الفلسطيني، وصلَ معدل البطالة بين فلسطينيي غزة، ممن تتراوحُ أعمارهم بين الخامس عشرة و29 سنة، إلى 58 في المائة، خلال الربع الأول من العام. كما أن 70 في المائة من السكان يعتمدُون على توزيع المساعدات الإنسانيَّة كيْ يعيشُوا. اندلاع المواجهات العنيفة في 2006 أوْ في 2008 و2012 وَ2014، كان نتاجًا للحصار الذي يرزحُ تحته الغزاويُّون، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهو وضعٌ لا يرجعُ فقط إلى فوز حماس في الانتخابات في 2006، بل إلى حرب الخليج الأولى في 1991، ففي هذا التاريخ تحديدًا، وقبل بداية العمليات الانتحارية، فقد فلسطينيُّو غزة الحق في التنقل بحريَّة. كل الخطوات التي جرى التفاوض حولها بعد ذلك، كانت منصبةً على الرفع أو التخفيف من الحصار المفروض، من قبيل إعادة فتح معبر رفح مع مصر، أوْ توسيع منطقة الصيد، وكلها مطالب تم تجاهلها، من إسرائيل أو من حليفها المصري، بشكل جزئي أوْ كامل، والمعاهدة الحالية الجاري مناقشتها لن تكون استثناءً في تلك السيرورة. حماس تتحملُ أيضًا من جانبها بعض المسئولية، لأنها خرقت أيضًا اتفاقات لوقف إطلاق النار، عبر صواريخ جوية، فيما بنت مخابئ تحت الأرض، مفتوحة فقط أمام مسئوليها، فيما كان عليها بالأحرى بناء ملاجئ تقاوم القنابل لعموم الناس. زيادة على أنَّ الحركة تحاول بين الفينة والأخرى العودة إلى "المقاومة" متحديَة إسرائيل. مسار ابتزاز السبيل الوحيد للخروج من هذه الدائرة المفرغة، وتهميش حركة حماس على وجه الخصوص، يقوم على إعادة إطلاق مسلسل السلام. لا مسلسل ابتزاز يمليه الطرف الأكثر قوة، كما طبع الجلسات التي تم عقدها طيلة العشرين سنة الماضية. حيث ينبغي التفاوض على قدم المساواة، واعتماد القانون الدولي بمثابة مرجع لا غيره. في الحادي عشر من يوليوز الجاري، قال رئيس الوزراء الإسرائيلِي، بنيامِين نيتنياهُو، على هامش مؤتمر صحفي، خصص لغزة، إنهُ كان يرفضُ تمام الرفض إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة. تصريحه ذاك كان لحظة صراحة نادرة. مرتْ عليها منابر الإعلام الغربية مرور الكرام، وفي غياب أفق "للسلام"، سيكُون بوسع الجيش الإسرائيلِي أنْ يبحث عن تسمية للعملية المقبلة على غزَّة.