الكلب كالإنسان ؛ من حيث إنه مخلوق إلهي ، فهو خلق من مخلوقات الخالق ، يخلقه الله تعالى كما يريد جل شأنه لا كما يرغب الكلب ، ويختار له من اللون ؛ ما يراه مناسبا ، وكل لون اختاره الله لمخلوقه فهو جميل ، لأن الله جميل يحب الجمالة . فالكلب هو أفضل صديق للإنسان ، وذلك لما وهبه الله من قوة الذاكرة ، واتقاد الذهن لمعرفة صاحبه ولو بعد فراق طويل ، ويضرب به المثل في الوفاء ... واللون الأسود هو أحد الألوان التي يمكن ملاحظتها في الطبيعة ، كالأبيض والأسمر وغيرهما والحقيقة التي لا غضاضة من الاعتراف بها هنا ، مفادها : منذ العصر القديم كان الناس ينظرون إلى اللون الأسود - في كل شي - نظرة تشاؤمية ازدرائية دونية ... فكان السواد باختصار هو الشر كل الشر بكل ما تحمله الكلمة من معان. عنترة بن شداد ، أو قل ابن ربيبة ، وما أدراك ما عنترة ، فارس عبس وشاعرها، وحامي حماها ، ما اجتمع الشعر والشجاعة في صدر أحد مثله ، أشجع من عنترة !، إنه الشاعر الثائر المناضل. ومع ذلك كله ، لم يسلم من لسعات قومه ، فقد كانوا يعيرونه بسواد لونه ، ويعيبونه بذلك ، ويمنعونه من الحضور في الجمع العام ، يقول : يعيبونَ لوني بالسواد وإنما فعالهم بالخبث أسودُ من جلدي . ويقول : يُنادونَني في السِلمِ يا اِبنَ زَبيبَةٍ=وَعِندَ اصطِدامِ الخَيلِ يا اِبنَ الأَطايِبِ وَلَولا الهَوى ما ذَلَّ مِثلي لِمِثلِهِم=وَلا خَضَعَت أُسدُ الفَلا لِلثَعالِبِ . وكان شاعرنا يعيش في مجتمع يحتقر اللون الأسود كل احتقار ، ويعتبرونه لونا خاصا للعبيد ؛ وأراذل القوم ، ولم يمنع ذلك شاعرنا من التفاخر والتباهي بسواده ، يقول : سَوادي بياضٌ حينَ تبْدُو شَمائلي وفعلي على الأنسابِ يزهو ويفخرُ ودر الله دره حين يقول : لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب يوم النزال إذا ما فاتني النسب ولم يمنعوه من الزواج بابنة عمه عبلة إلا لسواده جلده ، وإلا فما فارس كعنترة يرد ، فقد كان فارسا لا يجارى ، وشاعرا لا يبارى ، كان يخوض حمحمة المعارك ، ويضيئ أضواء القوافي ؛ آملا أن ترضى ابنة مالك بلونه ، وتبرد لهيب الغضب بعذب القبول ، يقول : لعل عبلة تمسي وهي راضية على سوادي وتمحو صورة الغضب . هذه الصورة النمطية الحجرية ظلت راسخة في العقول البشرية ، حتى في العصر الإسلامي ، بل في العصر النبوي نجد نماذج من ذلك ، ألم يعير أبا ذر الغفاري من هو خير منه ؛ وأقدم إلى اعتناق الحق ، أول مؤذن في الإسلام ، حين ناداه بين الملإ ب " يا ابن السوداء ، يا ابن السوداء!!. ألمْ يأتِ ذلك الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا كئيبا متهما زوجته في شرفها ، لأنها وضعت غلاما أسودا !!.. وفي فتح مكة لما صعد بلال الكعبة للآذان ، إذا بهمسات ترتفع غيظا وحقدا ، قال ابن أسيد عتاب ، وهو يعلق على آذان ابن رباح " لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ !!. وقال رجل لابن هشام متعجبا " ألا ترى هذا العبد أين صعد " !! . ما ذنب كافور الاخشيدي حتى يسل الشاعر أحمد المتنبي سيف الهجاء عليه ، بعد أن أجاره وأكرمه ، وكساه برداء الدهم والدينار ، فكان جزاءه قصيدة نارية ، غدت من أحب القصائد إلى العرب ، لقد حفظتُ القصيدةَ أيام كنت في إحدى المحاظر الشنقيطية ، دون أن أعرف قائلها ، لكثرة ما كان يرددها الطلاب ، وخاصة قوله : لا تشري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد وأن ذا الأسود المثقوب مشقره تطيعه ذي العضاريط الرعاديد . كم ظلمت كتب التاريخ الملك النجاشي ، وغفلت عن دوره الهام في ترسيخ جذور الاسلام ، فلو لم يستقبل المسلمين المهاجرين الذين لجأوا إليه لأبيدوا عن بكرة أبيهم ! . وكل ما سلف ، نماذج حية تدل على أن اللون الأسود منذ العهد القديم إلى يومنا هذا ، كان ولا يزال في المنظور البشري عارا يجد غسله بماء البحر، لأنه لون العبيد ، الذين لم يخلقوا إلا لخدمة البيضان ، فكأن الله أخطأ – تعالى جل شأنه – حين خلق هذا اللون ، وكسا به بعض خلقه ، قل أأنتم أعلم أم الله !!. والذي يهمني في هذه النظرة السريعة هو الوقوف مع هذا الحديث الذي رواه مسلم ، بأن الكلب الأسود شيطان ... هذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم إلا أنني أستبعد صحته ، ونسبته إلى النبي الكريم العدل الذي جاء ليحارب العنصرية والقبلية ، لضعف معناه ، ووهن فحواه ، فلا مفر من تنقيح اللب لإعصار المعنى الحقيقي المعنى به في هذا لحديث ، - هذا إن صح - ، ولا يكفي الجزم بصحته بمجرد وروده في صحيح مسلم ، فالثقة قد يخطئ ، فهذه العين قد تريك السراب شرابا ، والأذن تسمعك الخطأ صوابا . الكلب كلب ، سواء الأسود منه أو الأبيض أو الأسمر ، فلا فرق بين أجناس الكلاب . فإن قلت إن الأسود أكثر تمردا ، قلت هذا غير دقيق ، لأنه يحتاج إلى استقراء العلمي الواقعي لإثبات هذه الدعوى ، والتي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت . إذا سلمنا جدلا بأن الكلب الأسود شيطان ، فما الذي أخرجه من الكلبية ، وهو الأصل إلى الشيطانية ؟ ألأنه أسود اللون ؟! ما الفرق بين الكلب الأسود والأبيض والأسمر ، وكلها كلاب إنما اختلفت في اللون فقط ، وإذا قلت : إن الشيطان يتمثل بالكلب الأسود والقط الأسود ، قلت فما الذي يمنعه من التمثل بالكلب الأبيض و القط الأبيض ، أم أن الشياطين تخاف من البياض ، ولا تتجرأ إلا على السواد ، إن هذا لشئ عجاب !. فالشيطان قادر على التمثل بأي صورة شاءت ، أبيضا ، أسودا ، أحمرا . وفي رواية أخرى لمسلم أيضا ، أن الكلب الأسود يقطع الصلاة ، غالب الظن ، – والعلم عند الله العليم – أن الراوي أسقط لفظ :" والأبيض "، أو هو الذي أضاف لفظ الأسود ، فيكون أصل الحديث ، يقطع الصلاة " الكلب " دون ذكر اللون الأسود ، وهذا هو الأقرب إلى العقل والمنطق ، فإذا كان الكلب الأسود يقطع الصلاة ، فلا ريب أن الأبيض أيضا يقطعها ، إذ لا فرق بين الكلبين ، فكلاهما تندرج تحت جنس الكلاب. ولقد أقام الشراح مسرحية هزلية لدى شرحهم لهذا الحديث ، وعللوا بتعليلات جحاوية ، من ذلك قولهم : إن كلب الأسود شيطان الكلاب ، و أكثر الكلاب تمردا ، وقال بعضهم : إنه أخبث الكلاب يقتل على كل حال ... ومن العجائب والعجائب جمة ، أن يفتي بعض الفقهاء والعلماء بجواز قتل الكلب الأسود ، والعلة " إنه أسود خبيث متمرد ، يتمثل به الشيطان "! ..بالله عليكم ما هي جريمة الكلب الأسود ؟ بأي ذنب يقتل ، أ لأنه أسود ، فالله تعالى هو الذي اختار له هذا اللون ، فلم يعاقب عليه ؟ . فإن من حق الكلب الأسود أن يعيش العمر الذي قدره الله له ، فلا يجوز قتله ولا التعدي عليه ، فهو كالبيض والأسمر ، فالتمرد صفة لازمة للكلاب ، فكم من كلب أبيض أشد تمردا من الكلب الأسود ، والعكس صحيح ، فلم يقتل هذا ويترك هذا .. متى صار اللون ذنبا يعاقب عليه؟!. وهذه الصورة الخرافية انطبعت على أذهان كثير من بغاث الناس ، وانتشرت في المجتمعات ، وخاصة العربية ، وصار المعبرون يفسرون رؤية السواد بالشر ، والحيوان الأسود بالسحر أو بالشيطان ، فكأن الشيطان لا يتمثل أبدا إلا بالسواد . فإذا عُبرتْ رؤية السواد بالشر ، فما تأويل من رأى كلبا أسمرا ، أو قطة بيضاء ، أو حية خضراء في المنام ؟ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون !!!. ترى ؛ ما هي العلاقة الودية التي تربط بين الشيطان والسواد ، فلو سرنا على درب هذه الخزعبلات والترهات ، فسيخرج إلينا جحا يوما ليقول " إن أصل الإنسان الأسود من الشيطان ، لأنه أشد جلدا ، وأقل عقلا ، وأكثر تمردا ، وأضيق يدا ، وأقبح خلقا ، وسيروي في ذلك حديثا من الصحيحين ، ليؤكد وجود الصيد في جوف الفرا !!... - ماتابان ، بوسطن – الولاياتالمتحدةالأمريكية . [email protected]