جَعَلَ قبائلَ مكسيكيّةَ تَنْتَعِل عَلَى حِسَاب الشّرِكَات السّينمَائيّة الأَجْنَبيّة ما فتئت الدّراسات المتخصّصة تَتْرَى وتَتَوَالىَ حول أعمال الكاتب والقاصّ والرّوائي المكسيكي الذائع الصّيت خوان رولفو (1918-1986) ،هذا ما تؤكّده مختلف الدراسات والكتب التي تنشر حوله بين الفينة والأخرى ليس فى بلدان أمريكا اللاّتينية وحسب ، بل فى مختلف أنحاء العالم ، وحول أعماله الأدبية ، وإبداعاته على قلّتها،التي فاجأت القرّاء، والنقّاد، وكبارالكتّاب من مختلف الاجناس ، فضلا عن جوانب غير معروفة بما فيه الكفاية من حياة هذا المبدع القصيرة ، كإنشغاله بالسّينما،وهوَسه بها، والكتابة لها، وإخراج بعض أعماله الأدبية الناجحة سينمائياً،وسواها من المواقف التي طبعت مسيرته الإبداعية ،والحياتية، ومعاناته كفنّان وكاتب ملتزم بقضايا عصره، وظروفه ،وهذا ما كانت قد أكّدته الناقدة المكسيكية " إيفيت خيمينيث باييس" فى كتاب قيّم لها تحت عنوان " خوان رولفو بين القفر والآمال" . تقول الكاتبة عند تقديم كتابها : " إننا مَدِينون بالكثير لرولفو ، حتى وإن كُتب عنه ،وعن حياته الشّئ الكثير ، بل إنني أعتقد جازمة أنّ الحوار الذي كان قائما بين القارئ والمؤلف لم يكتمل، ولم ينضج بعد، على الرّغم من مرور سنين طويلة على رحيل هذا الكاتب الفذّ ّالفريد". رُولفو مُعاصِرنا وتشير الكاتبة أنه من أهداف كتابها عن رولفو كان هو الغوْص بعمق فى أعمال هذا الكاتب المحيّر المعاصر لنا بإستمرار ،ومحاولة إكتشاف جوانب عبقريته، وإبراز مدى التلاؤم، والتماسك القائمين بين النصّ والخطاب الفتوغرافي عنده، وهو ما يقوم به النقّاد والدارسون المتخصّصون فى الكتابات المكسيكية المعاصرة بشكل خاص، والأمريكية اللاّتينية على وجه العموم. وكان الناقد المكسيكي " أدولفو غوستافو" قد إعتبر هذا الكتاب عن رولفو بأنّه مثال حيّ للإرادة المحبّة والمُعْجبة بأعمال هذا المبدع الكبير، وعليه لم تألُ الكاتبة جهداً ،ولم تدّخر وسعاًي من أجل الدخول، والغوص فى نصوص رولفو وتحليلها ،وتقصّي الحقائق التاريخية الواردة فيها ،وتورد الكاتبة فى كتابها أخبارا ومعلومات وافية ، وتقدّم قائمة من الشخصيات التي يتعرّض لها رولفو فى أعماله ، ولكن أهمّ ما قامت به المؤلفة فى هذا الكتاب حسنها للإصغاء ، وإستغلالها للعنصر الشفوي فى رواياته وقصصه، وهو عنصر جديد ، وبذلك تتجشّم الكاتبة مشقّة وعناء تحليل الرّمزية الأدبية العميقة، والبعيدة الغورعند رولفو على الرّغم من تعدّد مشاربها، وتنوّع ثرائها . وحسب الناقد" إيديث نيجرين"،لم يترك هذا الكتاب صغيرة ،ولا كبيرة إلاّ وسلّط عليها الأضواء بما فيه التحليل اللغوي، والإستعانة بالمعطيات الأنثروبولوجية، والتاريخية، والفلسفية، وتقوم الباحثة بشكل مواز بمراجعة وإستحضار مختلف ما ذهب إليه المتخصّصون من آراء ، وتحاليل بشأن أعمال رولفو ،كما أنها تذكر عنايته وهوَسه بالأساطير ، وبالإشارات السابقة للوجود الإسباني أو الكولومبي فى بلاده ، حيث تؤكّد الكاتبة أنّ كتابات رولفو تفتح آفاقا بعيدة، وتقترح بدائل جديدة للتعبير بإستعمالها للبعد الشعبي، والتراثي، واللّغوي، والتاريخي عند رولفو . وتختم الباحثة " إيفيت خيمينيث " عرضها مشيرة أنّ رولفو قد خلّف لنا أدبا رفيعا يقوم على وعي عميق بالصّلة المركّبة ،والمعقّدة للإنسان مع الطبيعة ، وأنه يدخل العالم بواسطة حسّ أسطوري، وتاريخي، وإنساني. خوان رولفو والسّينما ومعروف أنّ " خوان رولفو" يُعتبر من أجود كتّاب القصّة القصيرة فى أمريكا اللاتينية فى العصر الحديث،وعندما عملت السينما المكسيكية على إخراج بعض أعماله الإبداعية عانت من مشاكل كثيرة وخطيرة، وهو شعور مثقل بظلّ هذه الأعمال التي تعاملت معها السينما ، بل لقد شارك رولفو فى ذلك فى بعض الأحيان خاصة فى قصّته المعروفة " الدّيك الذهبي" التي كتبها خصّيصا للسينما ،كما أنّ أشهر رواية كتبها رولفو والتي تعتبر ذرّة وذروة أعماله الأدبية والإبداعية وهي " بيدرو بارامو" قد نقلت كذلك إلى السينما بواسطة المخرج المكسيكي " كارلوس فيلو" بعد أن أعدّهها للسّينما كلّ من الرّوائي المكسيكي الكبير الراحل " كارلوس فوينتيس" ،والروائي الكولومبي الراحل كذلك أخيرا "غابرييل غارسيا مركيز" ، ونظرا لقيمة هذا العمل الأدبي الرّولفي الرّائع فإنّ التجربة قد حازت إعجاب النقد، وكانت جيّدة . كما أخرج نفس هذا العمل الأدبي مخرج مكسيكي آخر فى مناسبة أخرى وهو " خوسّيه بولانيوس"إلاّ أنّ هذه التجربة السينمائية الأخيرة لم ترق إلى مستوى الشريط السابق. الصّدف والمفارقات القدَريّة ومن الأعمال الأدبية التي أخرجتها السينما كذلك لرولفو " الوَصْفة السريّة" وهو شريط متوسّط الطول أنجز عام 1965 للمخرج " رروبين غاميث" الذي أحرز بهذا الشريط على جائزة سينمائية هامّة على مستوى بلدان أمريكا اللاتينية ، ثم هناك شريط قصير آخر بعنوان " الغنيمة" للمخرج " أنطونيو رينو " فضلا عن شريط جامعي أكاديمي للمخرج " منيث فاليس" يتضمّن قصّتين معروفتين لرولفو كذلك وهما :"قل لهم ألاّ يقتلوني" و" تاليا"، فضلا عن فصل من قصّته المعروفة " بيدرو بارامو" . ونلتقي فى هذه الأعمال ،كما فى جلّ أعمال رولفو مع مفارقات الأقدار، والصّدف، والرّيبة، والتصوّف، ،والأساطيرالشعبية، والسّحر، والطلاسم، والتصرّف البشري حيال مسألة إحساسه المفرط بضرورة حفاظه،وصونه، وذوده عن كرامته وشرفه حتى وإن كانت معظم شخصياته تعيش نوعا من القلق، والتشويش الداخلي ،وشعورها بالإحباط . وتشير الناقدة " باتريسيا جبرا" أنّ شخصياته " شخصيات محظوظة فى لعب القمار والميسر، إلاّ أنها ذات حظّ سيّئ فى المسائل العاطفية ، ففي " بيدرو بارامو" نرى كيف تهوي إمبراطوريته بسبب حبّه لسوسانا سان خوان ، وهكذا فعواطفه تحول بينه وبين أيّ شكل من أشكال السّلطة ، وهذا الصّراع قد تعرّض له رولفو فى قصّته " الدّيك الذهبي" التي نقلها إلى السينما عام 1964 المخرج المكسيكي " روبرتو غافالدون"والتي إعتبرت من أعظم الافلام التي أنتجت فى المكسيك فى العصر الذهبي للسّينما المكسيكية ، ويعالج هذا الشريط مأساة المواطن المكسيكي التقليدي، وصراعه من أجل التغلّب على مشاكل الحياة العصرية، وهو من الأفلام التي جسّدت الواقعية السّحرية التي إشتهر بها الأدب الأمريكي اللاتيني، والتي يُعتبر خوان رولفو أحدَ أقطابها البارزين. وأمّا المخرج " أرتوري ريستين" فى فيلم " إمبراطورية الكنز" وهي الصيغة الثانية لقصّة " الدّيك الذهبي" لرولفو فلم يحالفه الحظ فى هذا العمل الذي كان قد تحمّس له كثيرا الكاتب والمخرج على حدّ سواء . إعجابه بالفنّ السّابع ويشير الناقد السينمائي " غوستافو غارسيا" : " أنّ رولفو كان من كبارالمعجبين بالسينما ، وكانت لديه نظرة جيّدة، وعميقة حول الفنون السينمائية بشكل عام ، ويُحكَى أنّ رولفو عندما إشتغل فى فترة مّا من حياته فى السينما، كان حريصا على عدم الإنتقاص من قيمة بلده المكسيك، خاصّة فى الأفلام الأمريكية التي كانت تصوّر على أرضه، فإذا رأى مثلا شابّا مكسيكيا يشارك فى شريط وهو حافي القدمين، كان يأمر بوقف التصوير فورا لأنّ ذلك كان يسيئ إلى المكسيك فى نظره ،وبهذه الطريقة كان رولفو سببا فى جعل قبائل عديدة تنتعل على حساب الشركات السينمائية الأجنبية، حتى و إن كان موضوع الأفلام يعالج قضية هنود المايا ،ويضيف الناقد "غوستافو غارسيا " كذلك : " أنّ رولفو كان يتسلّى كثيرا وهو يقوم بهذا االعمل ، وكان يقف فى وجه العديد من المخرجين الأجانب الذين يسيئون لبلاده بشكل أو بآخر.ويعيد التاريخ نفسه،إذ بعد سنين طويلة نجد قد حذت حذوه- على أيامنا - المطربة الكولومبية المعروفة شاكيرا (من والد لبناني وأمّ كولومبية) التي أنشأت عام 1997 مؤسّسة أطلقت عليها إسم " الأقدام الحافية" تقدّم من خلالها المساعدات للأطفال المعوزين فى بلدها كولومبيا، وفى مختلف أنحاء المعمور ( حيث تقتني لهم أحذية، وأردية، وملابس، و توفّر لهم التربية والتعليم إلخ)، ونظير عملها الخيري هذا عيّنت عام 2003 سفيرة للنوايا الحسنة من طرف اليونسيف . ويشير الناقد "غوستافو غارسيا" أنه من المخاطر والصّعوبات التي تواجه المشتغل بالسينما هي نصوص رولفو نفسه ،ونثره بالذات فهو جذّاب، ومغر، وتلميحي يحفل بتعدّد الدّلالات والإشارات والإيماءات ، فنثره لا يخبرنا بالضبط كيف كان بيدرو بارامو، أو كامالا ممّا يدفع القارئ إلى التركيز بشدّة أوّلا فيما يقرأه ثمّ يجعله يتخيّل الأشياء والشخصيات بطريقته الخاصة حسب تكوينه، وذوقه ممّا يجعل عمل السينمائيين فى هذا المجال مناورة خطرة وصعبة. كما أنّ لغة رولفو على العموم هي لغة مكثفة وموحية وموفية ليس فى مقدورأيّ كان أن يتعامل معها أو ينطقها كما ينبغي ، ويضيف الناقد غوستافو مشيرا كذلك فى هذا الصدد، أنه كان على بعض المخرجين أن ينصتوا فى االبداية إلى أسطوانة مسجّل عليها بعض أعمال رولفو حتى يمكنهم الإقتراب والدنوّ من الطريقة الصحيحة التي عليهم إملاؤهاعلى الممثلين وكيفية نطق الكلمات . ويرى غوستافو أنه لا يمكن أن يتخيّل إنتاجا أو إخراجا سينمائيا وفيّا لأعمال رولفو، إلاّ أنّه يقول فى هذا القبيل ، ومع ذلك يينبغي لنا ألاّ نتراجع عن تناولنا لأيّ عمل من أعمال رولفو أو سوه من الأدباء الكبار، فالسينما لا ينبغي لها أن تركع أمام الأدب . ظلّ العمل الأدبي ويرى الناقد السينمائي " خوليو إتيين" من جهته أنّ إخراج أعمال رولفو الأدبية كان يعني بإستمرار مشروع مغامرة تنطوي على قدر كبير من الطموح والمغامرة، إذ ليس من السّهولة واليسر بمكان، تصوير وتجسيم خيالاته خاصة فى قصصه ذات الطابع السّحري الواقعي والتناوشي ،وإستعمال أزمنته بواسطة اللغة ، فمعظم الأعمال السينمائية التي تعرّضت لقصص رولفو تشعر بثقل ظلّ عمل أدبي كبير عليها .والواقع ، يضيف الناقد، أنّ سبب صعوبة نقل أعمال رولفو الأدبية إلى السينما يرجع لنوعية التركيب اللغوي عنده ، فأدبه يرغم على التأمّل، وإعمال النظر فيما يجري، ويحدث فى العالم الخرافي الذي خلقه رولفو ممّا يجعلنا نستمتع بأحلى وأعلى أشكال الإبداع الأدبي عنده، فى حين لا تقدّم السينما لنا هذه الإمكانيات بسبب السّرعة التي تتمّ وتجري بها الأحداث والصور.وهذا ما حدث مع العديد من الأعمال الأدبية الكبرى لكتّاب عالميين مرموقين آخرين. * عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا)