المقهى والخليلة صنفان ,أو وجهان, الفرق بينهما, المقهى تنشط حركة اللسانيات, والخليلة توقظ مشاعر عاطفية, ورغم ذلك , يظل المقهى فضاء للترويح والملهى, ومقام الدردشة, ولهذا كنت ولا زلت لا أرى مانعا من زيارتي له, لآخذ قسطا من ثقافته. حجم صغر المدينة سبب هذه الحالة, لذلك كان علي أن أختار مقهى يليق بطبيعتي , قبل أن اختار نوع رفاقي . تَقوّتْ علاقتي بالنادل على الأخص, يعرف توقيتي, وطاولتي ,و أشكال بذلتي , حتى فقرات الصحيفة التي أتصفحها. أوقات تواجدي بالمقهى.. المساء.. أجمع كل أتعاب النهار, وأرمي ببعضها على عتبته, وألقي بجسدي المنهوك على كرسي يتحمل فضولي, وحول طاولة تتسع لقلم وورقة, ورغيف وشاي. تدريجيا .. بدأت أتعود على ما تلتقطه أذناي من وافدي وزوار المقهى, وجمعت رصيدا من لغة السَّوْقَة, حرفيين و مقاولين, من طالب علم و معرفة, ومن متحنك في الصناعة والتجارة. غالبا ما كنت أستغني عن قراءة ما كنت أحمله معي من ورق, وأطلق العنان الى تجاذب أحاديث, متعددة الألفاظ والمترادفات عن يميني و شمالي , تُبدّدُ يأسي و قنوطي, بينما كنت أعتبرها دردشات استهلاكية, فيما كان تواجد عبقرية بين الحين والآخر , تحسبها كجلمود وما هي بجلمود, فيمسي المجمع كمائدة من الخضروات الشهية,يتدخل الحكواتي مرة , وآخر يسأل عن حكمتها , وفي الجانب الآخر تسمع صانعا أو تاجرا, أو فلاحا يدقق مع جاره في موسم فلاحي,وحين يشتد الحديث , ويبلغ محله, يحضر الكلام عن نفايات المدينة , والمستجدات من الفوضى والجريمة, وتطرح افتراضات سلبية أو ايجابية عن مسؤولين لا تخلق دغينة في النفس. بين اليوم والآخر, كان يلتحق بي صديق حميم,يحمل بصدره من ركام الحب كطائر النورس, كنت ,ولا زلت أعتبره قلعة فوق قلة, لما يسديه من حميمية اتجاه كل من عرفه أو لا يعرفه, عاشق و غيور على مدينته, لا تفوته زوبعة , أو نسمة أو هيجان تعبر طريقه, إلا ووجدت محلها في دماغه, حتى أني أضحيت أمازحه , بموثق تواريخ المدينة. يدخل المقهى وتحت إبطه مختارات من صحف اليوم, وبعض الموضوعات, غالبا ما تكون من مقالاته, أو لصديق, فيقوم بنسخها على حسابه ليسلمها الى صاحبها دون مقابل. وأعترف اني تسلمت منه العديد من الصحف تحمل أعمالي أو مقالاتي , كان حريصا على اقتنائها , عربونا لصداقتنا. كنا نجلس ساعات قصيرة , ننشغل بسرد حالات اجتماعية, ومرة نأخذ بتلابيب هاجس الثقافة, ندخل رداهات, ونخرج منها, لكل رأيه الخاص. وعن حسن نية.. وذات يوم قبل أن يودعني, طلب مني أن نغير مقهى بمقهى آخرفي الأيام المقبلة, حققت في أساريره التي أعرفها لا تنحاز, إلا في حالات. لم أسأله لما ? حسبته يمازحني.. لذلك لم اُحْرَ الرّد. لم يدخر صديقي عبد القادر أي مجهود.. قال : أنه مجمع أساتذة ومثقفين من عيار آخر, لكنه ليس توأم كما تتخيل. هذه آخر جملة تبادلها معي. ادركت منها انه يريد أن يصعد بي سلما يفضي الى فناء أرحب. معروف على صديقي أنه دائما يسعى لتهاطل الأخبار والمعلومات, كما أنه لا يبخل بها, وان كانت حبة من رمل. سررت جدا, كمسرة طفل سينتقل من قسم الى قسم,سأعيد من خلالها ترويض ذاكرتي على بعض ذكريات الصبا. سأستمتع بدروس المحاذثة ,وكيفية اللعب مع اصدقائي, وكيف أزرع حبة قمح, وأغرس نخلة, واصحح أخطائي اللغوية , وأرتوي برأي كاتب, أو استمتع بسماع قصيدة شعرية. كل الأماني لم تفض لإشباع ما تخيلته , المقهى بدا معسكرا نائيا عن طبيعتي, وكأني غيرت مضجعي وسطه . قامات , وتعدد رابطة العنق تعانق الرؤوس , احياناً تزيغ نظراتها , فتجتال بما حولها, لا يعرف إشارتها سوى النادل الذي تعود على استغاثتهم حثيثاً . لا ألوم أحدا , لامسني عذرهم, لديهم ما هو أهم من دروس المحادثة ووصف الفراشة, وإطعام المساكين.. فحين يدخل التلميذ حجرة الدرس يحمل سكينا تحت قميصه ,ويساله استاذه أو معلمه , مابيدك يا...... ويرد الطالب او التلميذ : خنجر أستعمله عوض المسطرة, ويصفع التلميذ معلمه في ساحة اللعب , ويتحرش على طالبات قسمه, ويهددهن أنه من جماعة اتشرميل, ماذا بقي من حديث المعلم, سوى ألإنخراط في صالون الكاراطي وجودو وتي كواند, وأن تتنازل وزارة التعليم والتربية عن شروطها التقليدية , لأن مدرسة تكوين الأطر التعليمية والتربوية , لم تعد تفيد أمام هذا الطوفان من الاجرام , وترويج السلاح الأبيض بين الشباب, ناهيك عن المخدرات والمسكنات. كان الوقت عشاء , تعجلت أمري في الحين حتى لا يعرف داء السكري محل إقامته بداخل أضلعي,وطلبت من صديقي عبد القادر بن قدور حين تشخص لي الأمر , نسخة من مقالاته النضالية الى موعد آخر.. لكن .. عند سدرة المنتهى بمدينتنا .