بسم الله الرحمن الرحيم (1) أذكّر القارئ الكريم أن موضوع "البيعة" له أهمية كبرى في فهم الفارق الجوهري بين موقف الإسلاميِّين الموالين المشاركين، الذين يمثلهم حزبُ العدالة والتنمية، ومعه حركةُ التوحيد والإصلاح وسائرُ المدافعين عن النظام الملكي بخلفية دينية، وبين موقف الإسلاميِّين المعارضين الثوريِّين، بخلفية دينية أيضا، بقيادة جماعة العدل والإحسان. أمَّا المدافعون الموالون، فيرون أن البيعة أساس في الشرعية الدينية التي يحظى بها النظامُ الملكي-وهو قوامُ دولة المخزن-والتي توجب على الشعب/الرعية السمعَ والطاعة ل"ولي الأمر"، في العسر واليسر، وفي المنشَط والمكرَه، وألا ينازعَ الأمرَ أهلَه. ولأصحاب هذا الاختيار مستنداتُهم من نصوص القرآن والسنة، وكذلك من اجتهادات العلماء وفتاوى الفقهاء، كما لهم لمساتُهم الخاصةُ التي تَظهر، أساسا، في فهم النصوص وتأويلها وتكييفِ مضامينها لتستوعبَ مستجداتِ واقعنا السياسي الحديث. أمّا المعارضون الرافضون، فيرون بطلان "البيعة" القائمة على القهر والإكراه، والتي يُفرض فيها على الناس التسليمُ والخضوع من غير أن يكون لهم في الأمر اختيارٌ ولا رأيٌ ولا مشاركةٌ. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين، مرشدُ جماعة العدل والإحسان، رحمه الله، في رسالة "الإسلام أو الطوفان"، مميزا بين "البيعة" والمبايعة": "البيعةُ منذ يزيد بن معاوية قهرٌ يُنطق عدولَ المسلمين بوعد الطاعة المطلقة. والمبايعةُ التزامٌ من جانبين، عقدٌ بين أحرار يبطُل إن عصى الأميرُ اللهَ ورسولَه. وقد جعلها عمرُ بن عبد العزيز مبايعةً بعد أن كانت بيعة. البيعةُ بدعةٌ وتعَدٍّ واستعباد، والمبايعةُ عقدٌ يزكيه الله ورسوله". ويقول في كتاب "العدل": "ميزةُ الحكم الإسلامي الشرعي أن الطاعةَ واجبةٌ لأولي الأمر منَّا بناءً على بيعةٍ تُلزم الحاكمَ والمحكومَ بأمر الله ورسوله، شرطاها الشورى في الاختيار والحكمُ بما أنزل الله... "تلك الميزةُ في الحكم الإسلامي الشرعي، أعني ميزةَ الشورى والبيعةِ والطاعةِ الواجبةِ لأولي الأمر، هي التي انفتَقَتْ ففسدَ الحكمُ منذ الانقضاض الأموي، وغاب عن أفق المسلمين مدى أربعة عشر قرنا من الطاعة القهرية الشرطان الواجبان في العَقد السياسي حتى أصبحت الطاعةُ إلزاما قهريا محضا، عواملُ القهر فيه القوةُ العنفيةُ التي يتدرع بها في كل زمان ومكان الملوكُ العاضّون والجبريون، ثم العادةُ القرونيةُ التي ألِفَ بمقتضاها الناسُ الخضوعَ للحاكم أباً عن جدّ، ثُم الوهمُ أن في طاعة المسلمين للحاكم المتسلط وفاءً لبيعةٍ هي في ميزان الشرع تزويرٌ محض". ونقرأ في كلامه، رحمه الله، قوةَ النقد ومرارةَ السخرية من طقوس حفل البيعة، حينما يصف هذا الحفلَ، في "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، بأنه وثنِيٌّ "تقام فيه شعيرةُ البيعة المخزنية التي تُلزم كبارَ الشخصيات في البلد بالركوع خمس مرات أمام الصّنم البشري قبل أن يدفعهم الخدمُ المُطَرْبَشون ، ويسارعوا إلى رصّ صفوفِ باقي العبادِ الخاشعين." إنها "طقوس بهلوانية لا تمتّ بأية صلةٍ إلى الميثاق الإسلاميِّ الجليل الذي يُلزم الشعب الحرَّ بطاعة الحاكم، ويُلزم الحاكمَ المنتخبَ بالعدل نحو الرعية. إن الحكم العاضَّ الذي يُلقِي للمسلمين الأمرَ بالركوع لغير الله وصمةُ عار على جبين التاريخ الإسلامي الذي يطبعه الاضطراب." (2) وإلى جانب هذين الاختيارين المتباعدين المتناقضين في موضوع "البيعة"، التي يزعم الموالون أنها أساس الشرعية الدينية للنظام، ويراها المعارضون طقوسا وتقاليد لتكريس دولة الاستبداد باسم الدين، نجد صنفا ثالثا من السياسيِّين، الذين يرون ضرورةَ التخلص من تقاليد دولة المخزن، ومنها البيعةُ وما يتعلق بها من طقوس وممارسات، وتأسيسِ دولة مدنية على أسس ديمقراطية، يحتكم فيها الناسُ، مِن رأسِ الحاكمين إلى قاعدة المحكومين، إلى الدستور والقانون، ويَخضع فيها الجميعُ إلى المتابعة والمحاسبة، بعيدا عن كل أشكال الدولة الثيوقراطية. وهذا الاختيار الثالثُ هو الغالب عند اللادينيّين-وهناك مَن يسمِّيهم بالعَلْمانيِّين- من اليساريّين، الثوريِّين والإصلاحيِّين، ومِن غيرهم من الحداثيِّين المُغَرَّبين، الذين يرون ضرورةَ إبعاد الدين عن شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع والحريات والفنون والآداب. ويمكن أن نلاحظ أن هناك تقاطعا بين هذا الاختيار الثالث وبين اختيار الإسلاميِّين الثوريِّين، وفي مقدمتهم جماعةُ العدل والإحسان، في رفض البيعة كما هي متجلية في ممارسات الدولة المخزنية وطقوسها وتقاليدها، وخاصة في الصورة التي تظهر عليها في حفل الولاء السنوي، هذا الحفل الذي ارتفعت أصواتٌ كثيرة، بعد تولية محمد السادس، وازداد ارتفاعُها، بعد الربيع العربي، منادية بإلغائه بسبب ما يمثله-عند معارضيه- مِن طقوس وتقاليد عَفَّى عليه الزمن، ولِما يكون فيه من ممارسات وإيحاءات وسلوكات تمجّد قيّم الاستبداد، وتمس بالكرامة الإنسانية. وهذا التقاطع بين الاختيارين في الرفض والمعارضة لا ينفي ما وراءه من تناقضٍ بين الاختيارين في المرجعية الإديولوجية، وتباينٍ في معايير النظر والتقدير والتقويم، واختلافٍ في تصور العمل السياسي وما يتعلق به من قضايا الحكم ومسائل الحقوق والحريات. وقد نجد من اللادنيِّين مَنْ يقبل بالبيعة، ولو في صورتها الحالية وما توحي به هذه الصورةُ وترسخُه من قيم وسلوكات تناقض معتقدَهم الإديولوجيَّ، لأن غاية سدِّ الطريق على الإسلاميِّين، والتضييقِ عليهم، ومنعِ خطابهم أن ينتشرَ في الناس، تبرّر عندهم كلَّ الوسائل. فهم مع البيْعة المخزنيّة وإن لم يكن لهم بالدين أيُّ سَبب، ما دام فيها قمعٌ وتضييق وإضعاف للإسلاميِّين. أرجع، بعد هذا الاستطراد، إلى ما عندي من انتقادات على مُستَنَد البيعة في خطاب الإسلاميِّين المشاريكن. (3) شهادةُ أمير من دار المخزن الأمير هو (مولاي هشام)، وأهميةُ شهادته في هذا الموضوع تأتي من وجهين، الأول أنها شهادة من واحد من أبناء العائلة الملكية، والثاني أنها شهادةٌ من أحد الموقِّعين على بيعة محمد السادس. فإذا كان يسهل على الإسلاميِّين الموالين أن ينتقدوا موقفَ جماعة العدل والإحسان من البيعة بأنه موقف يستند إلى اجتهاد فقهي متطرف، ويعكس الاتجاهَ الثوري المعارض الذي تتبناه الجماعة في منهاجها السياسي، وكان يسهل عليهم، أيضا، أن يردّوا على الموقفَ الذي وقفه السيدُ أحمد بن الصديق، في رسالته المفتوحة إلى محمد السادس، في يوليوز 2010 [يمكن قراءة نص الرسالة على الرابط http://www.hespress.com/politique/35135.html]، حينما أعلن أنه يخلع البيعةَ من عنقه، وينقض كلَّ عروة تربطه بالملك، حسب عبارته، بعد أن لخّص الأسبابَ التي فرضت عليه أن ينتهيَ إلى الموقف الذي اتخذه- قلت إذا كان يسهل على الإسلاميّين الموالين أن يردّوا على موقف السيد أحمد بن الصديق بأنه موقف فردي طائش، ويجدوا أكثر من مبرر للطعن عليه، شكلا ومضمونا، فإنه، في رأيي، سيصعب عليهم أن يجدوا مبررات معقولةً ومقبولة لنقض شهادة الأمير (مولاي هشام) في مسألة البيعة، التي كان من الموقعين عليها، ومن الشهود الذي حضروا مراسيم التوقيع الذي تم بقلمه، كما يحكي في يومياته، التي صدرت في أبريل 2014. وشهادةُ الأمير في موضوع البيعة لا يمكن للمحلل الفاحص أن يعزلها عن موقفه الأساس من نظام الحكم بكامله. فهو يرى أن مشكل الدولة المغربية، في جوهره، هو استمرار الملكية متلبِّسةً بالنظام المخزني. وحلُّ هذا المشكل، عنده، هو التخلص من المخزن، لأنه لا مستقبل للنظام الملكي إلا من هذا الطريق. وتداخلُ النظام الملكي بالنظام المخزني هو الذي جعل البيعةَ وما يجري معها من طقوس وممارسات عبارةً عن تقليد لا روح فيها، يكرس الاستبدادَ والبعدَ عن قيم العصر، وفي مقدمتها قيمُ الحرية والديمقراطية. وأنا هنا لست معنيا بعرض التفاصيل التي أوردها الأمير في يومياته، وإنما الغرض في هذا المقالة أن نعرفَ ملخص شهادة الأمير في مسألة البيعة. وملخص هذه الشهادة في يوميات الأمير، أن البيعة، التي هي في أصلها الإسلامي توافق تعاقدي بين الحاكم/أمير المؤمنين وبين المحكومين ممثَّلِين بالعلماء والأعيان وكبار رجالات الدولة وغيرهم من ذوي الاعتبار والنفوذ، تحولت اليوم إلى هيكل بلا روح، حيث لم يعد هناك مشاورات ولا تفاهمات ولا توافقات قبل توقيع العقد. وأكتفي هنا بإيراد جملةٍ من كلام الأمير، في يومياته، في وصف مشهد التوقيع على عقد البيعة لمحمد السادس، تلخص لنا روحَ مآخذه على النظام المخزني، فضلا عن نظرته الساخرة إلى هذا التوقيع، الذي هو، في نظره، شكلٌ فارغ من أي معنى؛ يقول الأمير في جملته، ص215: "عَقْد البيعة كان موعدا كبيرا للأخذ والعطاء، فأصبحَ مناسبة مُفرغَة من أي معنى. فلم تعد هناك مشاورات ومفاوضات تسبق توقيعَ العقد، بل تقلّصت المناسبة إلى إطلاق الصفّارة، ليتمَّ التوقيع على عقْد الخضوع بلا نقاش سابق". وبعد، فهذا واحدٌ من أبناء دار المخزن، وأحد الموقعين على عَقْد بيعة محمد السادس، يقول لنا، بلا تلَجْلُج ولا تَغَمْغُم، إن هذه البيعةَ هي هيكل بلا روح، وأن الموقعِين عليها إنما اسْتُدْعُوا ليوقّعوا على الإذعان والانقياد بلا نقاش. فماذا يقول الإسلاميّون الموالون في شهادة هذا الأمير المتمرّد؟ ألا تُثبت هذه الشهادةُ أن الموقعِين على عَقْد البيعة، ومنهم الدكتورُ عبد الكريم الخطيب، رحمه الله، الذي وقّع باسم حزب العدالة والتنمية، إنما فعلوا استجابةً لصّفّارة القصر، ولم يكن لهم في الأمر رأيٌ ولا اختيار. فقد استجابوا لأمرِ الصَّافر كما يستجيب المرؤوس لرئيسه؟ وهل كان يملك أحدُهم أن يفتح فمَه باعتراض، أو نقاش، أو رفض، أو غير هذا من أشكال إبداء الرأي؟ لم يكونوا يملكون إلا الإذعانَ، لأن البيعة، في التقليد المخزني، فقَدت معناها الأصلي الشرعي التعاقدي، فتحولت إلى ممارسةٍ استبدادية تُكرس سلطة المبايَع(بفتح الياء) وخضوعَ المبايِع(بكسر الياء). وللكلام تتمة في مقال قادمة، إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين