بسم الله الرحمن الرحيم من المناسب أن نقرر في البدء أنها فلسفة لا ترتبط بمثالية حالمة،ولا بترف فكري،ولا بنظر ليس تحته عمل،وإنما هي فلسفة تمثل منهاج عمل يرسخ وظيفة"البيان" ويتفادى محاذير الكتمان وتحنيط الدين وتزوير حقائقه ، ويتحلى بالواقعية مما يقتضي مراعاة الخصوصية المغربية من حيث استحضار عدة أمور: 1.استقلال البلاد المبكر عن مركز الدولة الإسلامية السلطانية وهو استقلال قام على أساس الهروب من بيئة ظالمة لإيجاد بيئة عادلة، فغير خاف على أحد الصراع المرير الذي دار بين العباسيين وبني علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذين كانوا يمثلون ملاذا- من الخطإ إضفاء صفة مذهبية ما عليه- يحتمي به الناس عندما كان تشتد عليهم وطأة القمع والقهر ،ففي عهد أبي جعفر المنصور خلع طاعته محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وغلب على مكة والمدينة وبايعه أهلها،وعندما أُكرهوا على بيعة أبي جعفر كانوا يقولون للإمام مالك- رحمه الله- :قد مضت بيعتنا لهذا الرجل يعنون أبا جعفر المنصور،فكان الإمام يجيبهم إجابة سياسية ملفوفة في رأي فقهي حول حكم طلاق المكره:طلاق المكره لا يجوز،لأن بني العباس كانوا يُحلِّفون الناس بطلاق زوجاتهم إذا لم يُوفوا بالبيعة،ونال الإمام مالكا بلاء كبير بسبب هذه الفتوى السياسية،فضرب وانخلعت كتفه،إذن فلنمسك هذا الحضور المالكي القوي بالوقوف في صف المعارضة للحكم المتغلب لبني العباس،وفي لحظة تاريخية مهمة ترتبط ارتباطا وثيقا بحركة إدريس الأكبر التي سنتحدث عنها بعد حين،وفي سنة 145ه قبض على محمد بن عبد الله وقتل،وأكمل المشوار أخوه إبراهيم بن عبد الله الذي خرج بالبصرة وخرج معه مجموعة من الفقهاء وأهل العلم- كما قال ابن سعد في الطبقات الكبرى- فقتل هو أيضا في نفس العام،ثم تبعهم حسين بن علي بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فخرج على بني العباس والتقاهم في معركة فخ في سنة 169ه، وخرج معه إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب،فلما قتل حسين بن علي هرب إدريس قاصدا بلاد المغرب سنة 172ه إلى أن وصل مدينة وليلي التي كان يحكمها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي الذي يرجع له الفضل في جمع الأمازيغ على تقديم طاعة طوعية لكنها مشروطة لإدريس بن عبد الله،قال صاحب "الاستقصا":"لما استقر إدريس بن عبد الله بمدينة وليلي عند كبيرها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي أقام ستة أشهر فلما دخل شهر رمضان من السنة جمع ابن عبد الحميد عشيرته من أوربة وعرفهم بنسب إدريس وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقرر لهم فضله ودينه وعلمه واجتماع خصال الخير فيه،فقالوا :الحمد لله الذي أ كرمنا به وشرفنا بجواره،وهو سيدنا ونحن العبيد فما تريد منا،قال:تبايعونه،قالوا:ما منا من يتوقف عن بيعته فبايعوه...فاستتب أمره وتمكن سلطانه وقويت شوكته"1 وأثمرت دعوة إدريس بعد ذلك إنشاء دولة قامت على: - أساس بيعة اختيارية لم يسع إليها بل عُرضت عليه وأُعطيها لاستجماعه شروط القيادة:الفضل والدين والعلم والأخلاق. - أساس خلع طاعة قيادة ظالمة مستبدة - أساس شرف النسب والاعتزاء إلى شجرة النبي صلى الله عليه وسلم والعجيب أن مرجعية الدعوة والدولة الإدريسية تتنازعها الجهات الحاكمة التي ترى فيها شرعية تاريخية قائمة على البيعة،وجهات متشيعة تضفي صفة المذهبية الشيعية على الدولة المغربية منذ ظهورها،دون أن تُفصِّل القول في أي تشيع تقصده،هل التشيع الإمامي الاثناعشري الذي لزم أئمته منازلهم وحلقاتهم العلمية وكانوا أحلاس بيوتهم ولم يخرجوا على حاكم،أم التشيع الزيدي الذي عرف بالدعوة إلى الخروج على حكام الجور ولم يتورط في سب الخلفاء الثلاثة- رضي الله عنهم- ،وتدقيق النظر في بيان البيعة الذي تحدث به المولى إدريس كفيل بإماطة اللثام عن مجموعة من الحقائق،يقول:" بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين الذي جعل النصر لمن أطاعه، وعاقبة السوء لمن عانده، ولا إله إلا الله المتفرد بالوحدانية. وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه وآله الطيبين، أما بعد: فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، والى العدل في الرعية والقسم بالسوية ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم وإحياء السنة وإماتة البدع وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد.. اعلموا يا معاشر البربر أني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد الخائف الموتور الذي كثر واطره وقل ناصره وقتل إخوته وأبوه وجده وأهلوه، فأجيبوا داعي الله عز وجل إذ يقول ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه من أولياء أولئك في ضلال مبين). أعاذنا الله وإياكم من الضلال وهدانا إلى سبيل الرشاد، وأنا إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)، هذه دعوتي العادلة غير الجائرة فمن أجابني فله مالي وعليه ما عليَّ، ومن أبى فحظه أخطأ وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة، إني لم أسفك دماً ولا استحللت محرماً ولا مالاً وأستشهدك يا أكبر الشاهدين وأستشهد جبريل وميكائيل إني أول من أجاب وأناب، فلبيك اللهم لبيك مزجي الجبال سرابا بعد أن كانت صماً صلاباً، وأسألك النصر لولد نبيك إنك على كل شيء قادر وصلى الله على محمد وآله وسلم." وهذه جملة أمور يمكن استفادتها من النص: - لا يربط البيان البيعة بأي نص أو وصية - تأسيس الدولة على أساس دعوة دينية تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والانتصار للمظلوم على الظالم - إثبات مظلومية أهل البيت والدعوة للنصرة - المرجعية العليا للكتاب والسنة،من غير أن يشير إلى مرجعية أخرى يمكن أن تعتبر استمرارا للرسالة ومكملة لها. ومن الخطأ اعتبار"إمارة المومنين"خصوصية مغربية خالصة،والحقيقة أنها أبعد ما تكون عن "التجربة العمرية الفاروقية" ولكنها من حيث التنزيل لا تتعدى ادعاء اللقب والارتباط بالدولة السلطانية كما عرفتها التجربة السياسية للأمة الإسلامية بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة،ولكن داخل هذا النظام السلطاني بالمغرب كانت هناك حركية سياسية ودينية بمبادرة من الناس أحيانا،ومن العلماء أحيانا أخرى،ومن الخطأ أيضا تكلف إبراز الانسجام التام بين نظام الإمارة وباقي مكونات المجتمع ونعت التاريخ المغربي بالسكونية واتهام المعارضة الإسلامية بتعكير صفو ذلك الانسجام والتفرق عن الأمير"الشرعي" ،والذي يعرفه كل أحد هو أن تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة على حكم المغرب هو تاريخ "خروج" بامتياز؛فإدريس الأول خلع الطاعة العباسية وهي الطاعة الواجبة إذا طبقنا مقاييس "المخزن الديني"،والمرابطون خلعوا الطاعة الإدريسية،والموحدون خلعوا الطاعة المرابطية،والمرينيون خلعوا الطاعة الموحدية،والسعديون خلعوا الطاعة المرينية،والوطاسيون خلعوا الطاعة السعدية،وأخيرا وليس آخرا العلويون خلعوا الطاعة الوطاسية،وينحل الإشكال أيضا بضبط العلاقة بين الدعوة والدولة،ألا ترى أن بدايات جل الدول المتعاقبة على حكم المغرب تنهض للطلب بموجب دعوة دينية يتزعمها العلماء حتى إذا قامت اشتغلوا بتسيير دواليب الدولة ثم يوزع الحكم بعد موت المؤسس على أولاده لتبدأ مسيرة التراجع والضعف والتقهقر فالاضمحلال ،مما يستدعي البحث عن العلة الخفية التي يدور عليها ضعف الدول وقوتها،وأحسب أنها هي علة"توريث الحكم" التي تقتل المبادرات وتشل الحركة وتحرم الأمة من طاقاتها كلها. 2.التعلق بأهل البيت وهو تعلق كان المغاربة يميزون فيه بين شيئين: بين الارتباط العاطفي الوجداني وبين اتخاذ ذلك التعلق أساسا للتمذهب العقدي والسياسي،وهذا التمييز كان حاضرا منذ نشوء الدولة المغربية في صيغتها الإدريسية،إذ أعطيت البيعة الطوعية من القبائل الأمازيغية للمولى إدريس الأول من غير أن يرد إلى ذهنهم أن ثمة نص أو وصية تفرض عليهم تسليم أمر الحكم لأهل البيت،وإنما كان ذلك منهم تشريفا لشجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمعوا حديثة في الرواية المعروفة:" أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِى بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِى لِحُبِّى "،وفي الرواية الأخرى:"أُذَكركم الله في أهل بيتي" وفي الرواية الأخرى:" أَدِّبوا أولادَكم على ثلاثِ خِصَالٍ حبِّ نبيكم وحبِّ أهل بيته وقراءةِ القرآن فإن حملة القرآن فى ظل الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه "،هذا بالإضافة إلى أن إدريس الأول كان ينتمي إلى الفرع الحسني من أهل البيت بينما تحصر الشيعة الجعفرية الاثنا عشرية الإمامة في الفرع الحسيني،وما أبعده عن الصواب الرأي القائل بأن التشيع هو الأصل في المغرب،وهو رأي ينظر إلى السابقة الإدريسية هذه بلا تثبت ولا تفصيل ولا تدقيق،ولو نظرنا إلى سابق تاريخ إيران المذهبي لقلنا إن الأصل في إيران هو التسنن لا التشيع. 3.الخضوع لحكم وراثي يتذرع بالدين لإحراز الشرعية واكتساب المشروعية ولقد تم الإخضاع بالترغيب والترهيب، واعتُبر المعارضون المشترِطون مجرد مُشوِّشين ومُشاغبين،فهل فعلا كانوا كذلك؟ إن نماذج العلماء المشترِطين لم تكن حالات معزولة وشاذة في تاريخ المغرب ،بل أفضت السجالات والجدالات العلمية بين المشترطين في البيعة وغير المشترطين إلى تأسيس فقه سياسي يبحث في الإمامة وشروطها، كما نبه على ذلك- نظما- الشيخ محمد التهارتي فقال: نصب الإمام على التحقيق أوجبه /// كل الطرائق بالنهي الذي أثرا شروطه سافرات عن محاسنها /// خمس عشر يخلن عند بعض جبرا عاقدها أهل حل ثم عقد إذا /// رأوا شروطا به بالاختيار سرى وقد رضوه لدين مع شواهد في /// حال الجمع فذاك الفن قد ذكرا لا بالوراثة فاتق نهج شرعنا /// بل بالرضا والسؤد فاقتف الأثرا لا بالتغليب قهرا ولا سفها /// ولا لدنيا ولا فخرا ولا بطرا ولعل أشهر جدال دار بين عالمين حول الاشتراط في البيعة أو عدم الاشتراط هو ذاك الذي جرى بين عالمين مغربيين هما يحيى الحاحي وأبي مهدي عيسى السكتاني ،فالأول كان يقول "بالبيعة المشروطة"بينما كان الثاني يقول "بالبيعة المطلقة" بلا قيد ولا شرط معللا رأيه بأسباب يمكن إدخال جلِّها فيما أصبح يسمى "الحفاظ على النظام العام". ويؤدي اعتبار المشترطين مشوشين وأدعياء إلى إلصاق وصف التشويش أولا بمؤسس المذهب الإمام مالك وتلميذه يحيى بن يحيى الليثي،وبعلماء كبار آخرين كالقاضي عياض والونشريسي ،والحقيقة التي لا غبار عليها هي أن العلماء العاملين المُشترِطين لم يكن يظهر لهم "الموجِب الشرعي" في موافقة هوى الحاكم وسياسته،وذلك "الموجب الشرعي" هو العلة التي كان يدور عليها الحكم وجودا وعدما كما يقول الأصوليون،ولتمسكه بالموجِب الشرعي تحمل العلامة عبد الواحد الوانشريسي المحنة التي أوقعها به السلطان السعدي محمد الشيخ،وهي حقيقة لا ينفع في حجبها اللعب بالكلمات والقول إن سبب امتناعه يدل على تمسكه المطلق بالبيعة. أما القاضي عياض فموقفه من بيعة عبد المومن الموحدي معروف مشهور، أسسه على"موجِب شرعي" يقول ابن خلدون في "العبر":"...واستمر عبد المومن على حاله فنازل سبتة وامتنعت عليه وتولى كبر دفاعه عنها القاضي عياض الشهير الذكر كان رئيسها يومئذ بدينه وأبوته ومنصبه ولذلك سَخِطته الدولة آخر الأيام حتى مات مغربا عن سبتة بتادلا مُستعمَلا في خطة القضاء بالبادية"2 ويعلل الناصري رأي القاضي فيقول:"واعلم أن ما صدر من القاضي عياض رحمه الله في جانب الموحدين دليل على أنه كان يرى أن لا حق لهم في الأمر والإمامة وإنما هم متغلبون"3 وبوضوح كامل يُقََيم ذات الموقف فيقول"فالحاصل أن مافعله القاضي عياض أولا وثانيا وثالثا( أي إنه امتنع عن المبايعة ثم لما قويت شوكة عبد المومن بايع،ولما ضعفت شوكته خلع عياض بيعته) كله صواب موافق للحكم الشرعي"4 . الولاء للحق ولا شيء غيره،هو عنوان وأساس العلاقة بين الحاكم والعالم ،وعلى هذا تتابعت مواقف كثير من العلماء طيلة تاريخ المغرب، ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن من قال من العلماء – في العهد السعدي مثلا- بالطاعة المطلقة ،إنما قال ذلك صبرا على العدوان الداخلي(الاستبداد) لصد العدوان الخارجي الذي كان يتمثل آنئذ في التوسع الإيبيري واحتلال السواحل المغربية،وعزز العلماء مكانتهم لما كانوا في طليعة المقاومة تعبئة واستنهاضا ومشاركة واستشهادا ،ويكفي تدليلا على ذلك ما وقع للشيخ أبي عبد الله محمد بن علي الأغصاوي الذي قتله محمد الشيخ المامون سنة 1613م لما أبى أن يفتيه بجواز تسليم مدينة العرائش للإسبان،فقتله كما قتل غيره لتمهيد المُلك باعتراف محمد الشيخ نفسه،إذ قال:"الآن تمهد لنا المُلك في المغرب بعد قتلنا هؤلاء الثلاثة :الونشريسي والزقاق بفاس وحرزوز بمكناسة،فإنهم كانوا يقطعون أمعاءنا على المنابر ويُوقِدون علينا نارالفتنة عند الأكابر" وهؤلاء الثلاثة لم يكونوا نكرة ولا أدعياء ولا مشوشين،أما الونشريسي فقال فيه ابن عسكر:"انه الفقيه العلامة،البحر الفهامة،صاحب القلم الفصيح ،واللسان الصريح،انتهت إليه رياسة العلم،وجمع بين الخطط الثلاثة الفتيا والقضاء والتدريس"5،وقال عن أبي محمد عبد الوهاب الزقاق:"كان هذا الرجل خزانة عظيمة من خزائن العلم،له الشأن الذي لا يدرك،كان كبير الهمة ،غزير العلم،تولى خطة القضاء والفتيا بمدينة فاس"6،وقال عن أبي علي الحسن حرزوز المكناسي"كان رحمه الله فقيها أديبا كاتبا فصيحا بليغا،لم ير المغرب خطيبا أفصح منه،ولم يكرر خطبه قط...رحل إلى المشرق ولقي به المشايخ وأخذ عنهم،كان من الفقهاء الجلة الأعيان"7 حتى ابن عسكر المؤرخ نفسه لم يسلَم من الأذى فيقول واصفا ما لحقه من ترحيل له غلىيد قائد عبد الله الغالب السعدي موسى بن مخلوف الجزولي:"كان أكبر مهماته- أي القائد- السعي في إخراجنا من تلك البلاد وترحيلنا عنها ظنا منه أنه لا يجد الفسحة لما يريده إلا مع عدم وجودي هنالك،فبعث إلي بعرضه،فقلت له:كيف يمكن الرحيل من داري ومِلكي بلا سبب؟فقال:البلاد بلادي،ورأسان لا يجتمعان في شاشية واحدة،فقلت له:أنا فقيه وأنت أمير فلا جامع بيني وبينك"8. 4.الاستقرار في العقيدة والكلام على مبان أشعرية،وفي الفقه على مبان مالكية وفي التربية والسلوك على مبان تصوفية جنيدية:بأي معنى إذا كان الفقه المالكي لا يثير-عموما- أي إشكال، فإن تكرار الإحالة على المذهب المالكي كلما طلب إلى "الشعب العزيز" بذل طاعة مطلقة يكاد يؤول بالفقه المالكي إلى "فقه مَلَكِي" يتمحور حول قضايا ومسائل الإمارة،وفيما مضى نبه على هذا التحول العلامة محمد الحجوي الفاسي- بقوله:" ...وقتنا هذا الذي صار الفقه إلى ما هو عليه الآن،بل صار إلى فقهين،وإن شئت فقل ثلاثة:فقه المالكية الأصلي المذكور في الموطأ والمدونة وغيرهما،وفقه العمليات وهو ما حكم به القضاة المقلدون لقول ضعيف مخالفين للراجح والمشهور لأمر اقتضاه ثم ازداد الآن فقه آخر هو ما يتأسس بالأوامر المولوية والظهائر السلطانية ولا يسمى فقها في عرف الشرع لعدم وجود شروطه"9. إن الذي يثير عدة إشكالات هو التركيز على العقيدة الأشعرية: - من حيث مفهومها - من حيث تنزيلها فعامة المغاربة يعرفون العقيدة المتصلة بالإسلام وقواعده الخمسة وبالإيمان وأركانه الستة،بالتعليم الديني الأول وبالبديهة الفطرية بعيدا عن المجادلات الكلامية وما ارتبط بها من أحداث تاريخية،وبعيدا عن التوظيفات السياسية التي قد تصل إلى حد اتهام المعارضين بمحاولة زعزعة عقيدة المسلم،والحق أن من أكبر مزعزعات العقيدة: - الحرمان من الحرية واستعباد الناس وإخضاعهم باسم الطاعة المطلقة وتخويفهم من الميتة الجاهلية،وإحلال الخوف من المخلوق محل خشية الخالق. - التضييق على الناس في أرزاقهم،واحتكار ثرواتهم،فينضاف السطو على الثروات إلى السطو على الألقاب،فأي عقيدة سليمة ستكون عند مُعطَّل يحمل هم الرزق الذي يفتت الأكباد بحيث لا تكفي الوعود المعسولة في تغييب ذلك الهم أو طمره ففي" أذن الجائع لا يسلك إلا صوت يبشر بالخبز،وفي وعي المقهور المحقور لا يتضح إلا برهان الحرية "10،وبدون حرية ولا عدل يجد المغربي وتجد المغربية نفسيهما أمام بنية عقدية هشة قابلة للزعزعة والاختراق. إن البناء العقائدي يقتضي خطة تكاملية لا تفصل الاجتماعي والسياسي عن الديني وإلا آل الأمر إلى تحويل الدين إلى عامل تخدير وتسكين،وقبول الدنية طوعا لا كرها،وتبرير القعود والاستسلام،وكان الأجدى هو التوجه إلى عدم إنتاج نمط النقاش السلفي البيزنطي حول"العقيدة" ،إلا أن الفرق هذه المرة هو صدور نعوت التبديع وأحكام التكفير الديني والسياسي من الدولة،فتحضر المقاربات الأمنية وتتوارى المقاربات التربوية والعلمية التي تُشرك جميع مكونات وفعاليات المجتمع،وكل هذا يُذكِّر ببدايات علم الكلام ومآلاته،فبعد أن بدأ مدافعا عن العقيدة والخصوصية الإسلامية في وجه الثقافات الدخيلة لأهل الحضارات التي دخلت الإسلام،وفي وجه انحرافات وتحريفات الغالين وانتحالات المبطلين وتأويلات الجاهلين،آل إلى ترف فكري وأيديولوجية للدولة،فنكلت بالمخالفين ونال بسبب هذا التنكيل أذى عظيم أحد أكبر العلماء هو الإمام أحمد الذي التفت حوله الجماهير التي لم تكن تثق فيما يخرج من قصر الحاكم،وتهيأ للكلام من سطوة هذا الحاكم ما عمَّق عزلته وانحرافه،لأنه كان يسمح بتضخم القول في صفات الله ولا يسمح بالحديث عن شرعية الحاكم السياسية. أما ما يرتبط بالتصوف فيتعين أولا الخروج من الخلاف المتصل بالاسم فنستعمل المصطلح النبوي "الإحسان" فيكون التصوف الحق هو السعي إلى حيازة المرتبة العليا في الدين أي مرتبة "الإحسان" الذي هو "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وثانيا ملاحظة التغير الذي طال جوهره الأخلاقي،وأحاله إلى مجرد طقوس ومظاهر وطرقية وتبرك ودروشة واعتزال الشأن العام للناس ،وقد رام الكثير من القائمين على السياسة الرسمية استغلال المواجيد القلبية لغرس التلذذ بالخضوع للخلق لا للخالق بشكل يحمل على الاعتقاد أن أولئك السياسيين يستلهمون الفلسفة النفعية البراجماتية كما قعدها "وليم جيمس" الذي حدد معيار الحقيقة بقوله " الفكرة صادقة عندما تكون مفيدة،ومعنى ذلك أن النفع والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة ما أو رفضها " ،كما أراد"جيمس" من الدين أن يمدنا بالمنافع التالية: الراحة والهدوء والسكينة والطمأنينة والسلام والاغتباط ،وعلى نفس المنوال علقت سياسة الشأن الديني في المغرب تحقق الأمن الروحي على مجرد التعلق بالنظام السياسي كيفما كان،مما يعني أنهم يتوسلون بالتصوف القاعد والمنعزل عن الشأن العام لترسيخ مشاعر ومسالك التقبل والتسليم والهروب والانسحاب وعافية الأحوال والمقامات ،جاء في دليل الإمام والخطيب والواعظ:" فبوجود إمارة المومنين يشعر المواطن المغربي بأمنه الروحي بسبب ما يجد من ضمان لممارسة حقوقه الدينية،والتعبير عن مواجيده الإيمانية ...وبذلك تتنزل السكينة على القلوب لأنها تشعر أن عقيدتها في حمى أمير المومنين"11 والأمن الروحي "مصطلح يعني أن يعيش الناس فيما يتعلق بأمور دينهم اعتقادا وممارسة في راحة واطمئنان لما هم عليه،بالحيلولة بينهم وبين كل ما يستهدفهم للتشويش عليهم"12،وتطلب تلك السياسة إلى العلماء أن يَلزَموا الحدود المرسومة ليغرسوا "الطمأنينة بدون مخاطرة بالنفس أو مجازفة بالدين، أي تجنب طائلة الإلقاء بالنفس إلى التهلكة والتهميش والشذوذ أو الصدام مع اختيارات الجماعة"،ولا حديث عن القاعدة الاجتماعية المعاشية للأمن الروحي،وربنا سبحانه وتعالى أناط تحقق الأمن بشرطين: الإيمان والعدل ،فقال :" الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"13. 6.نازلة الاستعمار لقد ارتبطت هواجس العصرنة والتحديث بنازلة الاستعمار التي أفرزت الدولة القطرية،وأبعدت الإسلام عن ساحة التشريع،ومكنت لعلمانية تتقنع بالدين،ويرفع الحاكمون بموجبها شعارات الإسلام إذا تعلق الأمر بالتبرير،وشعارات الحداثة واللبرالية إذا تعلق الأمر بالتدبير،مما يمثل عقبة لأي مجلس علمائي منتخب لا يتيسر له اقتحامها إلا باجتهاد مجدد ومنفتح على الآفاق الإنسانية،ومنطلق من الإسلام الذي يسع الأفهام والمذاهب وهو أكبر منها وأكبر من أن يظل أسيرا لملابساتها التاريخية. إضاءات على المسطرة ولا تستغني فلسفة المجلس العلمائي المنتخب عن مسطرة فاعلة وتشاورية تستلهم الأفكار التالية: - المرور عبر دورات تصفية - اعتماد الأساليب العصرية في التقييم - فرز مجالات الاجتهاد - تحديد المسائل المستجدة التي تتطلب الاجتهاد - تحديد الفراغات التشريعية - الانتخاب يهم فئات المجتمع كله ولا يختص بأهل السلك الديني أو المعرفي الدينية - اعتماد الفعالية الميدانية كمعيار في الانتخاب - اعتماد معيار الاندماج في الشعب - جعل انتخاب العلماء جزءا من انتخاب ممثلي الأمة - عدم فصل انتخاب المجلس العلمائي عن الانتخاب في دوائر أخرى:دائرة الوعاظ ودائرة الأئمة ودائرة الخطباء - اعتماد معيار الأغلبية المطلقة في حيازة الأصوات - إرساء علاقات تكاملية بين المؤسسات الجامعية والمؤسسة العلمائية - العلماء المتخصصون في العلوم الدقيقة والذين يرشحون للاشتراك في الاجتهاد الجماعي يشترط أن يكون لهم إلمام بالثقافة الإسلامية نظرا،وإنتاج معتبر في أبواب الدراسات المقارنة بين مفاهيم الشرع والقانون،والتطور العلومي. - مادة تكوين تمكن من خلق مؤسسة علمائية منسجمة لا ترتهن للأفهام الجامدة الحرفية،ولا للأفهام القافزة على الواقع،ولا للأفهام التي لا يهمها إلا الارتزاق بالعلم والتزلف إلى ذوي السلطة والحكم. - تمتين أواصر العلاقة مع المؤسسات العلمائية في العالم للاطلاع على تجارب أخرى. إن الشكل الذي تشتغل به المؤسسة العلمية الرسمية شكل عتيق لم يعد يستجيب للتطورات المتلاحقة ولا لطموحات الشباب الذي يصنع التغيير في هذه الأزمنة،ما لم ترفع عنه الوصاية ليشتغل بكل حرية لا يستحضر إلا رقابة من هو على كل شيء رقيب سبحانه،لتقدم تلك المؤسسة كشف حساب أمام الشعب قبل أن تقدمه يوم الحساب يوم يعرض الناس على رب العالمين. الهوامش 1 الاستقصا ج1 ص 108 2 العبر،ابن خلدون 6/230 3 الاستقصا 1/254 4 م.ن 5 ابن عسكر،دوحة الناشر،ص 52 6 م.ن ص 55 7 م.ن 8 ابن عسكر:دوحة الناشر،ص38 9 الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي،2/192 10 عبد السلام ياسين،الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية،ص 12 11 دليل الإمام والخطيب والواعظ.ص 38 12 م.ن ص 111 13 الأنعام/82