" البيعة" هي إحدى مصادر شرعية النظام السياسي بالمغرب ، بل أهم مصادره، و بمقتضاها يحكم الملك و يتحكم في كل مجالات الحياة، فهو المصدر الوحيد للشرعية و منبع السلطات ، كل السلطات ، و هو ، أي الملك غير خاضع لأية محاسبة و لا تمتد الرقابة القضائية و لا السياسية إلى ما يصدر عنه من قوانين في شكل ظهائر كما أن خطاباته لا تكون موضع أي نقاش. فماذا تعني البيعة، و هل هي حقا عقد بين طرفين على نفس المستوى؟ البيعة عقد مكتوب بين طرفين بمحضر شاهدين عدليين يضمن تبادلا بينهما : طرف يعطي السلطة و هم أهل الحل و العقد، و طرف يعطي النفوذ و الحماية و هو السلطان و البيعة مأخوذة من نظام الخلافة الإسلامية، و التي تحولت بعد ثلاثين سنة من وفاة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم،لتتحول حكما لا يستند على الشورى بل يحتمي بالسيف و القرآن لديه مصدر من مصادر الإخضاع. و هذا لا يعني أن نظام الحكم في المغرب ورث عن نظام الخلافة كل شيء، بل لم يستق منه إلا ما يصلح أداةا لإشاعة الخضوع فالمغرب و معه الأمة الإسلامية جمعاء تأثر نظام الحكم فيه بالمجتمعات العجمية التي التحقت بالإسلام عهد الفتوحات. لقد تحلى نظام الحكم الإسلامي بلبوس القيصرية و الهرقلية و الكسروية و الروم و البزنطيون، و المغرب انتحل من كل ذلك خليطا أدى إلى منظومة من القيم أعلاها البقاء في الحكم و بجميع الوسائل. فنظام الحكم بالمغرب أخذ من نظام الخلافة مبدأ " البيعة " و من أباطرة الروم و البزنطيين هبت رياح مؤسسة ثوريت الحكم ، و من الروم كذلك و فارس أخذ القساوة و الشدة ، مع إضافة بسيطة و هي أن القسوة تمارس باسم القرآن و استجابة لآيات الإخضاع و الخضوع لأولي الأمر، و الأحاديث التي تكفر كل داعية للحكم ماعدا السلطان. و عليه "فالبيعة " لا تعني أن الحاكم و المحكوم طرفان متساويان يخططان واجبات و التزامات كل طرف أمام الآخر، بل تعني أن الرعية بعد إمضاء أهل " الحل و العقد " للبيعة تتحول إلى " وديعة " في يد السلطان يفعل بها ما يراه صالحا. لا ندية بين الحاكم و المحكوم و لا مساواة و لكن توقيع لالتزام عام بالطاعة دون مقابل و يكفي أن نعلم أن مضامين البيعة على مر القرون متشابهة المضمون. فهي تبدأ بحمد الخالق و الصلاة على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم، ثم تنص على ضرورة وجود الإمام مشفوعة بالآيات و الأحاديت، ثم يقدم الإمام المرشح، فذكر أطراف البيعة و التزامات المبايعين بالطاعة التامة ثم الدعاء للسلطان بالتوفيق، فتاريخ إمضاء البيعة و أسماء المبايعين و قد يرد فيها التزام الإمام بالعدل و الإنصاف و الرفق بالرعية. لا ذكر إذن لالتزامات المرشح للإمامة و لا تفصيل لاختصاصاته غير عبارات عامة غامضة. إن التاريخ الإسلامي، و منه تاريخ المغرب، لم يعرف محاولات جادة تسعى إلى الحد من جبروت الخليفة أو تقنين سلطاته، و الدليل هو الغياب التام للتعاقدية في الحكم و هذا واضح من نصوص البيعة كما سبق الذكر. بمقتضى البيعة يصبح الإمام مصدر كل السلطات و محور النظام السياسي بكامله، لا يمكن تصور خضوعه لأي مراقبة، فهو أعلى من الجميع. و البيعة أهم ما يوظفه النظام السياسي لتبرير وجوده و بقاءه و استمراره، و لتبرير السلطة المطلقة التي يحوزها الملك - أمير المؤمنين، ولبقاءه بعيدا عن أية محاسبة، فهو سلطة منبع كل السلطات وفوق كل السلطات. اكثر من ذلك يوظف الدين - بواسطة الفقهاء السائرين في ركب السلطان – لإكمال ما تبدأه البيعة. فالمسلم يعتبر خارج دائرة الإسلام إن تحررت رقبته من أية بيعة أو مات و ليست له بيعة معقودة للسلطان. هدف البيعة ضمان انحناء الكل للإمام، و ما لم يفعله الاقتناع يقوم به السيف.إذ البيعة هي الفاصل بين دار الإسلام و دار الكفر. لأجل هذا يحتل الملك في النظام السياسي المركز الأوحد و المحور الأوحد، كل السلط بيده ما دام الممثل الأسمى للأمة. فالدستور ليس سوى صهر قانوني للبيعة و ما ينتج عنها، في قالب قانوني، كما أن للملك حق التدخل في كل ما لم يرد به نص ، ويكفي أن نعلم بأن كل القوانين تصدر بصفة ظهائر ملكية. البيعة أهم عنصر في النظام السياسي المغربي، و لا يمكن تصور السيادة الشعبية مع وجود الملك، فهو مصدر السيادة و ممثلها الأعلى و تطبيقا لها ما نرى من مكانة للملك، فكل الفاعلين السياسيين مفتقدون للمبادرة، وقبل الإقدام على اتخاذ القرارات مهما كانت أهميتها، يراعون وجهة نظر القصر. لأجل هذا نرى رئيس الحكومة على اتصال دائم بالقصر رغم أن له اختصاصات لا يمكنه معها استشارة أحد، ذلك أن اتخاذ القرار أن كان ممكنا استنادا على الدستور، فإنه لا شيء يضمن تنفيذه إلا القصر. البيعة إذن غطاء ديني من وراءه يهدف الملك إلى تبرير تجميع السلط ،و تبرير لمكانته فوق كل السلط و تبرير لاتخاذ أي تدبير في أي قطاع في أي وقت يراه مناسبا. إن جوهر النظام السياسي جهاز عتيق ضارب في القدم، ضارب في التغلغل بين ثنايا المجتمع المدني منه و السياسي، هذا الجهاز هو " المخزن" الذي لا يتردد في توظيف أي شيء لضمان بقاءه و استقراره و أمن ما يحيط به. فهو يستقي من نظام الخلافة الإسلامية ما يناسبه و يدع ما لا يناسبه، يستقي البيعة، لكن بمفهومه الخاص، هي لديه ليست عقدا يجعله ندا مقابل ند هو الرعية، لكنها لديه هي التسليم المطلق و الخضوع التام. و لمزيد من توضيح الأمور، فالمخزن ليست مفهوما دينيا نابعا من الإسلام و مؤطرا بالدين، بل هو كما يقول الطوزي، احد مهندسي الدستور الحالي " مفهوم دنيوي من دون شحنة دينية و مفتقد لأية صفة أخلاقية سامية... همه الوحيد هو الحفاظ على الأمن و الاستقرار" ،" و هي مهمات تستوجب إستعمال القوة بشكل مستمر، و ترك الأخلاق و العواطف جنبا". البيعة إذن عقد خضوع و طاعة، تفسيرها يتم على ضوء منطق القوة.