تُعرف مكناس بمآثرها التاريخية من قبيل المدرسة البوعنانية وباب المنصور لعلج وصهريج السواني، وبأشجار زيتونها وحقول عنبها، وكذلك بمهرجاناتها الوطنية. غير أنها صارت تُعرف كذلك في الأشهر الأخيرة، بأحد الملفات العقارية المتنازع عليها بين جزء كبير من الساكنة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. يتعلق الأمر بقضية منطقة "سيدي بوزكري" التي تعتبر من المناطق الأكثر اكتظاظاً بالساكنة في العاصمة الإسماعيلية، والتي تضم عدداً من الاحياء كحي الإنارة، دوار موسى، حي الوحدة، حي الأطلس..، قد تتلخص القضية في أرض ممتدة تدعي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ملكيتها ويتحدث حفدة هذا الولي أنها تعود لهم، لكنها تخفي كذلك الكثير من التفاصيل في أرض ممتدة تأوي حوالي مئة ألف نسمة. تقول المحافظة العقارية إن مساحة هذه الأرض لا تتجاوز 436 هكتاراً، بينما يشير حفدة سيدي بوزكري، في تصريحات سابقة لهسبريس إلى أن المساحة الأصلية تصل إلى 596 هكتارا. سُميت بلقب ولي صالح عاش في عهد السلطان مولاي إسماعيل، تقول الروايات المتداولة هنا بمكناس إن السلطان منحها له لمكانته العلمية. بعد فرض الحماية الفرنسية على المغرب في المنتصف الأول من القرن الماضي، استحوذت قواته العسكرية على جزء من هذه المنطقة، غير أنها فوتتها بعد رحيلها للمغرب الذي أقام بها ثكنة عسكرية، أما نشاط بقية الأراضي فقد تمحور حول الفلاحة، حيث كان حفدة "سيدي بوزكري" يكترون الأرض للفلاحين الذين يبنون فيها منازلهم. بدأت فصول النزاع سنة 1976 بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وحفدة سيدي بوزكري حين تدخلت الأولى من أجل تدبير الأرض، وطلبت من السكان التعامل معها لوحدها، بعدما قامت بتحفيظ المنطقة على أنها "حبوس". قرار لم يعجب حفدة الوالي الذين طالبوا الساكنة بالتعامل معهم لوحدهم، واعتبروا أن الأرض لم تدخل أبدا في هذا التصنيف وأنها ملكية خاصة بالأسرة. بعد 15 سنة من النزاع، حكمت محكمة النقض لصالح وزارة الأوقاف بعدما كان الحكم الابتدائي والاستئنافي لصالح حفدة الولي، لتبدأ فصول جديدة من النزاع، وهذه المرة بين الوزارة المذكورة والساكنة المتواجدة بالمنطقة. تتنوع الطرق التي سكنت بها الأسر في هذه المنطقة، إلا أنها تشترك في أنها أتت بشكل واضح في ظروف يطبعها الفوضى، هناك من اشترى من عند حفدة الولي، هناك من لا زال يكتري من عندهم، وهناك من اشترى من عند من كان يكتري. في وقت حاولت فيه الوزارة إغراء السكان بالتعامل معها عبر كراء الأرض لمدة طويلة بأثمنة رمزية حسب ما قاله لنا أعضاء من ودادية أنشأها الساكنة للدفاع عنهم. ويمضي الأعضاء الذين التقت بهم هسبريس بمكناس، في الحديث عن سيرورة النزاع، ففي سنة 2011 التي عرفت احتجاجات وطنية غير مسبوقة وشهدت دستورا جديداً للمملكة، تعاملت السلطة بكثير من المرونة مع مواطني المنطقة، بل وسمحت لهم ببناء منازلهم حتى مع مشكل المِلكية، إلا أن الوضع أخذ منحنى آخر بعد سنة 2011، حيث بدأت الوزارة برفع الدعاوى القضائية على البعض منهم. يتحدث الأعضاء هنا أن الوزارة راسلت من يتواجد في المناطق التي تعرف رواجا تجارياً، وقد توصلت حاليا ثماني أسر بدعاوى الإفراغ، ويؤكد أعضاء الودادية أن الوزارة تعتمد هنا على وثائق قديمة تعتبر المنطقة مجرد أراضٍ فلاحية، في حين أن الواقع الحالي يُبيّن كيف تحولت "سيدي بوزكري" إلى منطقة مأهولة. وقدم أعضاء الودادية حالة أحد السكان الذي وقع عقد كراء مع نظارة وزارة الأوقاف بالمدينة في مدة تصل إلى سنتين قابلة للتجديد، إلا أن النظارة طلبت منه الإفراغ بعد انقضاء السنتين. وهو ما قد يتكرر في حال ما قرر سكان آخرين التوقيع مع الوزارة، رغم أن الغالبية منهم، يؤكد أعضاء الودادية، لن يقبلوا أبدا بحل الكراء، وأن الحل الأمثل في نظرهم هو التمليك، أي إعادة شراء الأرض من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بأثمنة تتفهم وضعية ساكنة سبق لها أن اشترت الأراضي ذاتها في وقت سابق. وقد أدت الاعتصامات والاحتجاجات المتكررة على الدعاوى التي ترفعها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى اعتقال مجموعة من قياديي الاحتجاج إبان زيارة الأميرة سلمى لفاس، توبع ثلاثة منهم: واحد في حالة سراح، واثنين بمحاولة إضرام النار والتجمهر غير المرخص والعصيان وإهانة موظف عمومي. تصف الوزارة الأراضي التي رفعت دعاوى على الساكنين فيها ب"الوقف العام المحتل"، فإحدى مراسلات محامي وزارة الأوقاف إلى رئيس المحكمة الابتدائية ضد تاجريْن من المنطقة، تشير إلى أن أراضي الأوقاف ب"سيدي بوزكري" تعرضت للترامي والتعدي من طرف مجموعة من الأشخاص، وأن هذه الأراضي لها حُرمتها الشرعية والقانونية ولا يمكن تفويتها والوصاية عليها نظرا لارتباطها بخدمة الجانب الديني والخيري. نهاية أبريل الماضي، وأثناء تدخل له بمجلس النواب، قال وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، إن الوزارة تحرص على إيجاد حل يراعي السياق الاجتماعي لساكنة المنطقة، إلا أنه أكد رفض الوزارة تمليك الأرض لأي شخص بحجة الوضع الاجتماعي. وميّز الوزير في هذا السياق بين ثلاث فئات من ساكنة المنطقة:" فئة أولى يبيعون أراض لا يملكونها، وفئة ثانية تتمثل في ساكنة عادية، وثالثة تتعلق بأصحاب المحلات التجارية"، مشيراً إلى أن إجراءات الإفراغ التي قامت بها الوزارة عن طريق القضاء تخص الفئة الأولى، ومعتبراً أن الوزارة اقترحت على أصحاب المحلات التجارية حل المشكل عبر الكراء أو نظام المعاوضة. ويظهر أن كرة الثلج في هذا الملف الذي يجمع ثلاثة أطراف ستستمر في الكبر، فبين السكان الذين يصرون على حل التمليك، ووزارة الأوقاف التي تعتبر أن الأراضي ملك لها تم احتلالها، وحفدة سيدي بوزكري الذين يطالبون الوزارة برفع يدها عن ما يصفونها بأرضهم، تبقى "سيدي بوزكري" المتواجدة شرق مكناس، في حالة من الترقب والانتظار، فالأطراف الثلاثة على وعي أن المنطقة تشكل جزءاً مهماً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للعاصمة الإسماعيلية، لا سيما وأنها تضم عدداً من المعامل الصناعية والشركات، وبالتالي فأي نتيجة ينتهي بها النزاع، لن تكون تداعياتها محدودة في الزمان والمكان.