مقدمة: على الرغم أن الدين والأخلاق يشجبان السلوكات العنصرية لدى جميع الشعوب والثقافات، فضلا عن العقوبات التي تقررها القوانين الحديثة لأشكال محددة من هذه السلوكات العنصرية، إلا أنه، مع ذلك، يمكن القول إن السلوكان العنصرية حاضرة دائما وممارسة لدى كل الشعوب والمجتمعات بشكل أو آخر. وإذا كانت مثل هذه السلوكات العنصرية معروفة لدى القبائل العربية في الجاهلية، كما يظهر ذلك في الهجاء الذي كان فنا قائما بذاته، يحط من قدر هذه القبيلة ويحتقرها، ويرفع من شأن أخرى ويمجّدها، فإن هذه الممارسات العنصرية، الهجائية البسيطة، سوف تتجاوز إطار ما هو قبلي وهجائي بسيط، لتنتقل، بعد الفتوحات الإسلامية، إلى مستوى الشعوب والأمم. وهو شيء مفهوم، ناتج عن اختلاط العرب بشعوب وأجناس أخرى كانت لها حضارتها وثقافتها وأديانها. ولأن القيادة السياسية، وما يتبعها من قيادة عسكرية، كانت في يد العرب، فقد كان من الطبيعي، وخصوصا في تلك المرحلة التي تلت الفتوحات، والتي هيمن فيها العرب على الشعوب الأخرى، أن تظهر ممارسات عنصرية في تعامل المسؤولين السياسيين العرب (الحكام والولاة) مع الخاضعين لهم من الأقوام الأخرى، وذلك عندما جعلوا من تفضيلهم للعنصر العربي على العنصر العجمي، ولدوافع عرقية وعنصرية، سياسة ثابتة وممنهجة. وكان من الطبيعي كذلك أن يكون هناك رد للفعل ضد ما كان يبدو لهذه الأقوام تعاملا عنصريا من طرف العرب. ولعل هذا الرد للفعل، في شكله القوي والواضح، مثلته الحركة الشعوبية المعروفة، التي ظهرت على أيدي فارسيين في العهد الأموي، قبل أن تتنامى وتتوسع في العصر العباسي. وهي حركة تقول بأن الشعوب الأخرى غير العربية، وخصوصا الشعب الفارسي، هي أفضل من العرب. وقد نظم الشاعر الفارسي الفردوسي (329-411 ه) في القرن الرابع الهجري ملحمته الشهيرة "الشاهنامه" (كتاب الملوك) المتكونة من 60 الف بيت شعري(1)، يمجد فيها الشعب الفارسي ويحتقر فيها الشعب العربي. استعمال الدين لتبرير العنصرية ضد الأمازيغيين: وكما هي العادة بعد انتشار الإسلام لدى الشعوب غير العربية، فقد تم اللجوء إلى استعمال الدين لشيطنة الخصوم المعادين للعرب كالفرس، مثل وضع أحاديث تقول بأن العربية لغة أهل الجنة والفارسية لغة أهل النار. وقد ذكر ابن تيمة هذه المسألة بشكل يؤكد أنها كانت معروفة وشائعة. فعن السؤال: «هل صح أن لسان أهل النار الفارسية، وأن لسان أهل الجنة العربية؟»(2)، أجاب ابن تيمة، ضمن ما أجاب به: «فقال ناس: يتخاطبون بالعربية. وقال آخرون: إلا أهل النار، فإنهم يجيبون بالفارسية، وهي لغتهم في النار»(3). إلا أن هذا الاستعمال للدين، لتحقير الشعوب الأخرى، سيعرف أوجه بخصوص الشعب الأمازيغي، عندما ستظهر أحاديث "نبوية"، لدى محدثين يعتبرون ثقات وذوي مصداقية، تؤلب على هذا الشعب وتشيطنه وتنتقص منه. ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل، نقرأ الحديثين التاليين: عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال «من أخرج صدقة فلم يجد الا بربريا فليردها»(4). عن أبي هريرة قال: «جلس إلى النبي صلى الله عليه و سلم رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين أنت؟ قال "بربري". فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم "قم عني"، قال بمرفقه هكذا. فلما قام عنه، أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الإيمان لا يجاوز حناجرهم"»(5). وجاء في "المعجم الكبير" للطبراني «أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: "الْخَبَثُ سَبْعُونَ جُزْءًا: لِلْبَرْبَرِ تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ جُزْءًا، وَلِلْجِنِّ وَالإِنْسِ جُزْءٌ وَاحِد"»(6). ولا يقلل من أهمية هذه الأحاديث الأمازيغوفوبية وجودُ أخرى تنوّه بالأمازيغيين وتعترف بفضلهم(7). كما لا يكفي تبرئة أصحابها بالقول إن هذه الأحاديث "موضوعة" و"كاذبة". فكل الأحاديث، مهما بلغت درجة "صحتها"، هي قابلة، من حيث المبدأ الإبستمولوجي، للتشكيك في صدقيتها. ثم إذا كانت هذه الأحاديث موضوعة وكاذبة، فكيف نفسر حضور بعضها في كتاب "المسند" الذي ألفه أحد مشاهير أئمة الإسلام، والذي أسس مذهبا في الفقه والشريعة، وهو أحمد بن حنبل؟ فهذا يعني أن هذا الأخير كان، هو نفسه، مصدّقا لهذه الأحاديث، مقتنعا بصحتها وإلا لما ضيّع الوقت في جمعها وتدوينها. وإذا كان هذا الإمام المشهور مصدّقا لهذه الأحاديث ومقتنعا بصحتها، فكيف لا يصدّقها ولا يقتنع بصحتها من هم دونه علما ومعرفة وإمامة، وهم الغالبية من الناس؟ كما أن هذ الأحاديث، إذا كانت موضوعة وكاذبة، فإن ذلك سيطرح السؤال التالي: لماذا دُوّنت أحاديث موضوعة وكاذبة تسيء إلى الأمازيغيين؟ ثم إذا عرفنا أن صنف الأحاديث الموضوعة والكاذبة كانت وراءها دائما خلفيات إيديولوجية وسياسية وقومية وعرقية، فإنها تستحق، بسبب ذلك، القراءة والتأمل لاكتناه تلك الخلفيات وفهمها. فالدلالة العامة الواضحة لهذه الأحاديث، هي أن الأمازيغيين كانوا ضحايا عنصرية عروبية منذ وصول العرب إلى شمال إفريقيا. ولا شك أن المقاومة التي واجهوا بها الغزو العربي هي أحد أسباب هذه العنصرية، التي أصبحت تلجأ إلى اختلاق الأحاديث لشيطنة الخصم، شريطة أن يكون مسلما، كما هو حال الأمازيغيين بعد إسلامهم. في الحقيقة، وظيفة هذه الأحاديث، ذات المضامين العنصرية، هي تبربر العنصرية الحقيقية وليس عنصرية الأحاديث التي كانت تمارس ضد الأمازيغ، في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي واللغوي. المرحلة الأندلسية: إذا كانت هذه النزعة الأمازيغوفوبية، التي تروّج لها وتزكيها مثل هذه الأحاديث، قد انتشرت في وقت كان فيه الاختلاط بين الأمازيغيين والعرب ضعيفا، فإنها ستنمو وتتقوى وتحتدّ عندما يصبح هذا الاختلاط كبيرا وقويا، وذلك في المرحلة الأندلسية التي ستعرف فيها هذه النزعة الأمازيغوفوبية نموا غير مسبوق، بسبب الاحتكاك المباشر بين الأمازيغيين والعرب، والصراعات السياسية التي كانت لا تتوقف بينهما، وما كان يصحبها من دسائس واغتيالات وثورات وتمرد وحروب أيضا. ولم يعد الأمر مقتصرا، في ما يخص انتشار الثقافة الأمازيغوفوبية بالأندلس، على ترديد الأحاديث الموضوعة والكاذبة في ذم الأمازيغيين كما كان الأمر في المشرق، بل تعدى ذلك إلى قول الشعر الصريح في تحقير الأمازيغيين وهجائهم. وقد اشتهر الشاعر الأندلسي "السميسر"، المتوفى في 480 هجرية، ببيتين هجائيين قالهما في تحقير الأمازيغيين، وبشكل يكشف عن عنصرية فريدة وغير مسبوقة. يقول البيتان: رأيت آدم في نومي فقلت له: *** أبا البرية إن الناس قد حكموا أن البرابر نسل منك، قال: إذن *** حواء طالقة إن كان ما زعموا(8). ليس الخطير في هذين البيتين المعنى الظاهر الخارجي، والذي يفهمه كل من قرأ البيتين، هذا المعنى الذي يعبر فيه الشاعر "العربي"(9) عن أفظع وأبشع صورة للعنصرية تجاه الأمازيغيين، ويتجلى ذلك في رفض آدم آدم العربي طبعا أن يكون "البرابرة" من صلبه ونسله رغم أنه أب كل البشر! وإنما الخطير هو أنه مصمم على تطليق حواء إن كانت قد أنجبت معه الأمازيغيين. فهو لا يطلقها لأنها كانت سبب عصيانه لأمر إلهي وإقدامه على أكل الفاكهة المحظورة، وما نتج عن ذلك من عقاب له بطرده من الجنة وإنزاله إلى الأرض حيث تنتظره المعاناة التي لا تنتهي، وهو ما كان سيعتبر مبررا مقبولا ومعقولا لفسخ رابطة الزواج، لكنه سيقرر تطليقها إن كانت أما للأمازيغيين. ف"الخطيئة الأولى" Le péché originel للمرأة/حواء ليست، كما في المسيحية، هي تحريض آدم وإغواؤه على الأكل مما نهى عنه الله، بل "الخطيئة الأولى" للمرأة تصبح، هنا عند الشاعر "السميسر"، هي إنجابها لأمازيغيين. وهو ما يمثل أقصى وأقسى درجات العنصرية الأمازيغوفوبية(10). لقد كانت هذه العنصرية الأمازيغوفوبية ظاهرة عامة ومنتشرة بالأندلس، وتشكل جزءا من الثقافة السياسية العروبية السائدة آنذاك. وهذا ما يؤكده كتاب "مفاخر البربر" (712 هجرية) لمؤلف مجهول، كتبه ردّا، كما يقول في المقدمة(11)، على الانتشار الواسع لهذه الثقافة العنصرية الأمازيغوفوبية بالأندلس، ذات المحتوى والمصدر العروبيين. وكمثال على هذا الانتشار الواسع لهذه الثقافة الأمازيغوفوبية العنصرية، الواقعةُ الطريفة، التي يحكيها صاحب "المفاخر" كما يلي: «ولقد جرى ذكر المغرب بحضرة أمير المؤمنين، ابن عبد العزيز العبيدي(12)، فقال بعض الحاضرين: "بلغنا أن الدنيا شبهت بطائر، فالمشرق رأسها، واليمن جناحها، والشام جناحها الآخر، والعراق صدرها، والمغرب ذنَبها. وكان في المجلس رجل مغربي يقال له "الدقا"، فقال لهم: صدقتم والطائر طاووس، فضحك السلطان وأجزل صلته، يريد أن أحسن ما في الطاووس ذنبه»(13). هذه الطريفة تبيّن، بغض النظر عما تبرزه من سرعة وحسن بديهة "الدقا"، الذي عرف كيف يستعمل سلاح الخصم للدفاع والرد المناسب، (تبيّن) أن الانتقاص من الشعب الأمازيغي كان شيئا عاديا، يُتندّر به حتى في حضرة الأمراء والملوك. وهو ما يعطي فكرة عن المستوى "الجيد" الذي بلغته الثقافة الأمازيغوفوبية التي كانت تشيعها العروبة العرقية. من الأندلس إلى المغرب: إذا كان لهذه العنصرية الأمازيغوفوبية حضور بالمغرب، نظرا لروابطه الكثيرة بالأندلس وقربه الجغرافي بها، إلا أن هذا الحضور سيصبح قويا وظاهرا بعد أن انتقلت الثقافة السياسية العروبية للأندلس إلى المغرب، بعد طرد المسلمين من هذا البلد الإيبيري بدءا من 1492، ولجوء الأغلبية منهم إلى الضفة الجنوبية الأقرب، حاملين معهم أمازيغوفوبيتهم التي سيجدون في المغرب، كبلد أمازيغي، المجال المناسب لممارستها تجاه من آواهم واستضافهم. الجميع يعرف معاناة العلامة اليوسي مع الفاسيين بسبب انتمائه الأمازيغي. ويكفي التذكير أنه عندما اعتلى منصة جامع القرويين (حوالي 1670 ميلادية) ليلقي درسا أمام جمع غفير من الفاسيين، طلب منه أحد الحاضرين، وباتفاق مسبق مع زملائه الفاسيين، أن يتحدث لهم عن الكلب. وقد فهم اليوسي أنه هو المعني بالكلب. لكنه ضبط أعصابه واسترسل يتحدث عن الكلب وما ورد فيه من آيات، وما قيل فيه من أحاديث، وما يخصه من أحكام شرعية. وقبل أن ينهي محاضرته، وحتى يرد للفاسيين التحية بأحسن منها كما يقال، شرح لهم بأن أذمّ خصلة في الكلب أنه لا يقبل الأجانب عن الدار، فيواجههم بالنباح والوعوعة. ففهموا أنهم المعنيون بالخصلة الذميمة للكلب التي أشار إليها(14)، لأنهم، كما تفعل الكلاب، لم يقبلوا اليوسي الذي هو أمازيغي "أجنبي" عنهم ولا ينتمي إليهم. لقد كانت الأمازيغوفوبيا إذن ظاهرة منتشرة بالمغرب لدى الأوساط العروبية، حتى أنها لفتت أنظار الأجانب مثل الدكتور "فرنان ليناريس" (Fernan Linarès)، الذي كتب في مذكراته سنة 1893 أن النزعة الأمازيغوفوبية حاضرة بشكل لافت لدى "العرب" بالمغرب. وقد كان هو أول من استعمل لفظ "أمازيغوفوبيا" (amazighophobie)(15) للدلالة على كراهية العرب للأمازيغيين والخوف منهم. وما تجب الإشارة إليه، لقطع الطريق عن نظرية المؤامرة الجاهزة، هو أن الدكتور "ليناريس" لم يكن "صديقا" للأمازيغيين، بل كان، على العكس من ذلك، من محبي العرب والعروبة (arabophile)، كما يؤكد ذلك الكتور Médecin Colonel Epaulard الذي سرد تفاصيل سيرته الذاتية(16). ولا شك أن أحد أسباب انتشار خرافة "النسب الشريف" بالمغرب، هو انتشار ثقافة أمازيغوفوبية، بخلفيات عرقية وعنصرية، تنتقص من الأمازيغيين وتحتقرهم، الشيء الذي جعل الكثيرين من هؤلاء الأمازيغيين أنفسهم "يهجرون" انتماءهم الأمازيغي وينتحلون نسبا "عربيا"، حتى أصبحت أشجار "النسب العربي" بالمغرب تشكل "غابة" حقيقية، لكثرة هذه "الأشجار" وانتشارها الواسع. وعندما نتأمل الظروف التي قُبلت ووقّعت فيها معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب، سينكشف لنا أن النزعة الأمازيغوفوبية كانت حاضرة، ولو بشكل خفي، ضمن أسباب قبول تلك الحماية، التي كانت تتضمن، بناء على أهدافها والشكل الذي مورست بها في ما بعد، وطريقة تعامل سلطات الحماية مع الأمازيغيين والمخزن العروبي، والعروبة بصفة عامة، ثلاثة أطراف(17): الطرف الحامي الذي هو فرنسا، الطرف المحمي وهو العروبة العرقية بالمغرب، ثم الطرف المحمي منه، وهو الأمازيغية التي تمثلها القبائل. ولهذا فإن الذي رحّب بالحماية وقبلها وتحالف معها هي النخبة التي كانت تعتقد أنها عربية. في حين أن من تصدى لمقاومة هذه الحماية ورفضها هي القبائل الأمازيغية التي حاربتها فرنسا حدّ الإبادة، وبمشاركة جيش المخزن (المحلة) العروبي، طيلة أربع وعشرين سنة كاملة (1912 1936). "الظهير البربري" والتطبيع مع الأمازيغوفوبيا: «رغم أن الأمازيغيين كانوا دائما، ومنذ ثلاثة آلاف سنة، عرضة للغزو والاحتلال والاستعمار، إلا أنه يمكن القول إن كل ما أصابهم جراء هذا الغزو والاحتلال والاستعمار لم يبلغ، في آثاره السلبية، حتى واحد على مليون نعم أقول واحد على مليون من الضرر البالغ والمدمِّر الذي ألحقه بهم "الظهير البربري". إنه يشكّل، بالنظر إلى "الإبادة" الرمزية التي مارسها بفعالية كبيرة على الأمازيغية، "محرقة" (Holocauste) حقيقية لها وللذين ينتمون إليها. فبعد انتشار أكذوبة "الظهير البربري" ابتداء من يونيو 1930، سيصبح لفظ "الأمازيغيين" و"الأمازيغية" مرتبطا في الأذهان بالخيانة والغدر، يحيل، في نوعٍ خاص من التداعي الحر للمعاني الذي ترسّخ لدى الجميع، على الاستعمار والتفرقة والعنصرية والتآمر على الإسلام والوطن. ولهذا أصبحت محاربة الأمازيغية عملا وطنيا وشريفا، لأن ذلك يعني محاربة التفرقة والانفصال والخيانة والغدر، وكل شرور الاستعمار. وهكذا تحول هذا الظهير/ الغول إلى إطار مرجعي، فكري وسياسي وإيديولوجي، من خلاله يُنظر إلى الأمازيغية ويُفكّر فيها ويُتعامل معها. أصبحت الأمازيغية إذن، حسب الصورة التي رسمها لها وعنها "الظهير البربري"، خطيئة أصلية Péché originel بمعناها الديني المسيحي جديدة لا يمكن التكفير عنها إلا بإنكار المغاربة لأمازيغيتهم واعتناقهم للعروبة كسبيل وحيد للخلاص Salut، بمفهومه الديني المسيحي كذلك، من وزر تلك الخطيئة. لذلك قررت الدولة سياسة تعريب الأمازيغيين تكفيرا لهم عن إثم الأمازيغية وغسلا لذنب انتمائهم الأمازيغي. هذا الربط بين الأمازيغية و"الخطيئة" حوّل الأمازيغيين إلى رهائن في يد "الظهير البربري"، لا يمكن تحريرهم منه إلا بدفع الفدية المطلوبة، المتمثلة في تنازلهم عن أمازيغيتهم والقطع معها، وتبنيهم للعروبة عرْقا وهوية ولغة وتاريخا وثقافة. إنه ابتزاز ظل يمارس، منذ 1930 إلى نهاية القرن الماضي، على الأمازيغيين بشكل خبيث وماكر: إما التخلي عن أمازيغيتهم واعتناق العروبة، وإما الاتهام بالحنين إلى "الظهير البربري". هكذا خلق "الظهير البربري" ثقافة أمازيغوفوبية رافضة للأمازيغية، وأسس لاشعورا سياسيا معاديا للانتماء الأمازيغي، لا زال يحرّك ويوّجه ويفسر المواقف الأمازيفوفوبية للنخبة المثقفة وللطبقة السياسية بالمغرب تجاه كل ما هو أمازيغي. ولأن هذا العداء للأمازيغية مترسخ كثقافة لاشعورية، لذلك فهو لاعقلي ككل ما هو لاشعوري، وهو ما يفسر بقاءه واستمراره وإعادة إنتاجه، لأن ما هو لاعقلي ولاشعوري أبقى وأدوم وأرسخ، لأنه لا يمكن وضع حد له بالإقناع العقلي والمنطقي، من خلال تبيان أنه يقوم على أكاذيب وافتراءات لا علاقة لها بالحقيقة والواقع والتاريخ»(18). من أمازيغوفوبيا الأفراد إلى أمازيغوفوبيا الدولة: إذا كانت الأمازيغوفوبيا، ومنذ احتكاك العرب بالأمازيغيين، تظهر، في الغالب الأعمّ، كسلوكات للأفراد الذين لهم مواقف عنصرية تجاه الأمازيغيين، فإنها ستصبح بعد الاستقلال سلوكا للدولة وليس للأفراد فحسب وسياسة عمومية لها. ذلك أن "الظهير البربري"، بمضمونه الأمازيغوفوبي الذي أعطته له "الحركة الوطنية"، لم يُلغ بعد الاستقلال، لأن الذي ألغي هو ظهير 30 ماي 1930 المنظم للمحاكم العرفية وليس "الظهير البربري" الذي هو شيء آخر مختلف عن الأول(19)، بل، على العكس من ذلك، شرع في تطبيقه بعد الاستقلال. هذا التطبيق يتجلى في إقصاء الدولة للأمازيغية، لغة وهوية وثقافة وتاريخا، بنهجها لسياسة تعريب عرقي وهوياتي وسياسي وإيديولوجي شامل للمغرب والمغاربة، مع تكريس الهوية العربية كانتماء وحيد للدولة المغربية. من نتائج هذه السياسة التعريبية للدولة: أن بناء دولة الاستقلال بالمغرب كان يعني تقويض الهوية الأمازيغية لهذا المغرب، وأن ترسيخ الهوية العربية لهذه الدولة كان يعني ترسيخ "الشذوذ الجنسي" (بالمدلول الأصلي لكلمة "جنس" في اللغة العربية التي تعني الهوية والقومية والانتماء) لهذه الدولة، أي تغيير جنسها الأمازيغي الطبيعي الأصلي بجنس عربي مفروض ومصطنع، وأن النضال والوطنية يعنيان النضال ضد الأمازيغية ومحاربتها والعمل على القضاء عليها. ولهذا نجد أن دولة الاستقلال فشلت في كل مشاريعها التنموية إلا في مشروع تنمية "الشذوذ الجنسي"، أي تحويل المغاربة من جنس أمازيغي إفريقي إلى جنس عربي أسيوي. وهو مشروع نجحت فيه هذه الدولة بشكل فاق كل التوقعات. وهكذا أصبحت الأمازيغوفوبيا، ولأنها سياسة للدولة، شيئا عاديا وطبيعيا، لأنه شأن عام تدبره الدولة، مثلما تدبر قطاع العدالة والصحة والتعليم والسياسة الخارجية... فلم تعد الأمازيغوفوبيا، نتيجة اكتسابها صفة "قطاع عام" تشرف عليه وتديره الدولة، تُدرك كممارسة عنصرية يرفضها الدين، وتشجبها الأخلاق، ويعاقب عليها القانون، وتدينها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. فأنت في المغرب، يمكنك، كلما رغبت في ذلك، أن تسخر من الأمازيغيين، وتقول عنهم في الخارج إنهم "بخلاء من عرق معين"(20)، وتتهمهم بالموالاة للصهيونية، وتنعتهم بالانفصاليين، وتصفهم "بشلح مول الزريعة"، وبأنهم يشكلون خطرا على الوحدة الوطنية... ولن تلقى اعتراضا ولا احتجاجا، ولن تتوصل باستدعاء من النيابة العامة. لأنك عبرت عما تمارسه الدولة نفسها، التي أقصت الأمازيغية كهوية، وحاربتها مع تخصيص ميزانيات ضخمة لذلك، وهي الميزانيات التي أنفقت على تعريب المغاربة منذ الاستقلال، أي على أمازيغوفوبيا الدولة. علال الفاسي والتأصيل للأمازيغوفوبيا في المغرب المعاصر(يتبع) إحالات: (1) "الموسوعة العربية"،http://www.arab-ency.com/index.php (2)"مجموع فتاوى ابن تيمية، الجزء الرابع، دار الوفاء للطباعة والنشر، جمهورية مصر العربية، الطبعة الثالثة 2005، صفحة 185. (3) نفس المرجع (4) مسند الإمام أحمد بن حنبل، الجزء 11، نشر مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1997، صفحة 636. (5) مسند الإمام أحمد بن حنبل، الجزء 14، نشر مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1997، صفحة 402. (6) سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، "المعجم الكبير"، الجزء 17، الناشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة ( بدون تاريخ)، صفحة 299. (7) مثل تلك التي أوردها ابن عذاري في "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب"، تحت عنوان "ذكر فضل المغرب وما ورد من الأخبار والآثار"، ومثل تلك التي أوردها مؤلف "مفاخر البربر" تحت عنوان "فصل في سبق البربر وفخرهم". (8) أحمد بن محمد المقري التلمساني، "نفح الطيب"، تحقيق الدكتور إحسان عباس، الجزء 3، دار صادر بيروت 1988، صفحة 412. 9)) ليس مستبعدا أن يكون الشاعر من أصول امازيغية وليس عربية. لكن الذي يهم هو الذهنية والقناعة والإيديولوجية العروبية التي جعلت منه شاعرا "عربيا" أمازيغوفوبيا يكره الأمازيغيين ويبغضهم بشكل عنصري حاد. (10) انظر مقالنا حول الموضوع على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/writers/152381.html. (11) "مفاخر البربر" (لمؤلف مجهول)، تحقيق عبد القادر بوباية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر الرباط، الطبعة الأولى 2005، صفحة 91. 12)) هو أبو هاشم الظاهر لإعزاز دين الله علي بن منصور الحاكم، بويع له بالخلافة سنة 411 ه (تعليق لمحقق كتاب "المفاخر" عبد القادر بوباية)، "مفاخر البربر"، مرجع سابق، صفحة 91. (13) نفسه، صفحة 92. (14) - Berque, Jacues, "Al-Yousi: problèmes de la culture marocaine au XVIIème siècle", publication Centre Tarik Ibn Zyad, Rabat, 2ème édition 2001, page 15 (15) - LINARÈS, FERNAND Docteur, "VOYAGE AU TAFILALET AVEC S. M. LE SULTAN MOULAY HASSAN EN 1893", pages 8 et 24. Le document en PDF est téléchargeable sur ce lien (http://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=1&ved=0CDEQFjAA&url=http%3A%2F%2Fmon-aigle.netau.net%2Fvieuxmaroc%2Flinares-voyage-au-tafilalet%2F1893-linares-voyage-au-tafilalet.pdf&ei=nqcTUfWdEJCr0AWs24HgBQ&usg=AFQjCNG5NGedCoEZD4dHxEQA8dPypMrxCw&bvm=bv.42080656,d.d2k (16) - Ibid, pages 3, 4. (17) انظر موضوعنا: "مائة عام من الحماية على الأمازيغية" ضمن كتاب "في الهوية الأمازيغية للمغرب". (18) من مقدمة كتاب "الظهير البربري: حقيقة أم أسطورة؟" للكاتب. يمكن الاطلاع على الكتاب بالنقر على الرابط http:/ http://tawiza.x10.mx/dahir.pdf . (19) نفسه، صفحة 73 (20) كما فعل المقرئ أبوزيد الإدريسي في نكتته العنصرية الشهيرة (انظر مقالنا حول الموضوع "المقرئ الإدريسي أبوزيد أو الأمازيغوفوبيا بلا حدود" على رابط هسبريس: http://www.hespress.com/writers/97393.html