َفي أوج الأزمة الاقتصادية العالمية، صرح بعض الوزراء بأن البلاد بمنأى عن تداعيات هذه الأزمة. وبعد ذلك انقطع التواصل الحكومي مع المواطنين، اللهم تصريحات لبعض المدراء، ومنهم والي بنك المغرب الذي حذر في 27 شتنبر 2008 من التهوين من تداعيات هذه الأزمة، وبقيت الحكومة صامتة إلى أن تحدث وزير الاقتصاد والمالية أثناء عرضه أمام لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب. في هذا العرض سادت نبرة تخوف من المستقبل، وخاصة حين تحدث الوزير عن ضرورة تقليص نفقات تسيير الإدارة والمؤسسات العمومية من خلال مراجعة مستوى عيش الإدارة والتخفيض من استهلاك الهاتف والوقود ومصاريف التنقل وطريقة اقتناء السيارات والبنايات وتحديد نفقات صندوق المقاصة في سقف 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام بعدما كانت محصورة خلال السنوات الثلاث الماضية في 3 في المائة. وبهذا، انكشفت الحقيقة الصادمة التي طالما حاولت الحكومة التغطية عليها بأرقام وإحصاءات مصنوعة لهذا الغرض. لماذا تأخرت الحكومة كل هذا الوقت؟ أليس في هذا التأخر سوء تدبير للزمن؟ ألم يكن من الأفضل اتخاذ هذه الإجراءات قبل ذلك بسنتين؟ ولتتضح الأمور أكثر، يجب الرجوع إلى افتتاحية جريدة العلم في عددها ليوم 9 يوليوز لأنها تسير في السياق نفسه، محملة الإدارة كل المسؤولية عن التبذير وعدم مسايرة الحكومة في أوراشها الإصلاحية، ومذكرة بأن السلطات العمومية بذلت جهودا كبيرة للتصدي لتأثيرات تداعيات الأزمة، بيد أن الإدارة المغربية لم تنخرط في هذه الجهود وحرصت على أن تحافظ لنفسها على مستوى عيش لائق جدا وكأنها ليست معنية بمواجهة هذه التأثيرات، وبدا ذلك واضحا من خلال صرف أموال عمومية لا نعرف حجمها ولا نسبة تأثيراتها ولكنها على كل حال ليست مبررة وليس لها أي تفسير في كل ما يحدث. والغريب أن لا أحد تحدث عن أجور الوزراء والموظفين السامين وامتيازاتهم ومناشدتهم، مجرد مناشدة، أن يتخلوا عن بعضها إسوة بزملائهم في دول مجاورة. وبالمقابل، صب الوزير مزوار، الذي يتحدث هذه الأيام عن ممارسة السياسة بطريقة جديدة، جام غضبه على صندوق المقاصة الذي صرفت 91 في المائة من الميزانية المخصصة له خلال الستة أشهر الأولى فقط، لأن قانون المالية حدد سقف النفقات الخاصة بهذا الصندوق في حدود 14 مليار درهم، ولكن ارتفاع سعر المواد النفطية وارتفاع سعر صرف الدولار من 7.8 درهم إلى 9 دراهم خلال يونيو الماضي حمل الصندوق عبئا إضافيا يقدر ب6 ملايير درهم. ولا ندري كيف يمكن للحكومة أن تحد من نفقات الصندوق في سقف 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام؟ حقيقة لا ندري. وربما هذا ما جعل وزيرا آخر في الحكومة، هو نزار البركة، يبدي تحفظه بشكل غير مباشر على وصفة مزوار، مذكرا بالوظيفة الاجتماعية لهذا الصندوق ودوره في الحفاظ على السلم الاجتماعي. وهكذا يتضح، مرة أخرى، أن الانسجام الحكومي غائب، وأن قضايا حساسة تدخل من الآن في لعبة شد الحبل والتنافس الانتخابي. نسيت الحكومة، ربما، أن أكبر سبب في عجز الصندوق هو استفادة الشركات الكبرى من هذا الدعم رغم استعمالها للسلع المدعمة في أغراض تجارية، ولو تمكنت الحكومة من ضمان استفادة الفئات المحتاجة فقط من هذا الدعم لما عانى صندوق المقاصة من هذه الضائقة. والوزير نزار البركة يعي هذا جيدا، وهو الذي تبرع على شركة «كوكاكولا» بمنحة قدرها 70 مليون درهم كدعم عن استهلاكها للسكر!! كان الأولى بالحكومة أن لا تخفي الحقيقة عن المواطنين، وأن تتجند لمواجهة آثار الأزمة قبل أن تتفاقم، وأن تتخذ إجراءات تقشفية في حق وزرائها قبل غيرهم، وأن لا تهون من الصعوبات التي قد تنتج عن الأزمة، وأن تعلن حالة يقظة دائمة لأن اقتصادنا مرتبط ومنفتح ومندمج في اقتصاديات دول أخرى ولا يستطيع أن يصمد أمام انهيارها، ولذلك أثر الانكماش الاقتصادي الأوربي كثيرا على اقتصادنا لأن أوربا تتدخل ب 60 في المائة من مبادلاتنا التجارية، سواء على مستوى التصدير أو الاستيراد. من السذاجة، إذن، الاعتقاد أننا بمنأى عن تداعيات الأزمة. وإذا كان انعكاس الأزمة المالية محدودا بسبب صرامة النظام البنكي المغربي وضعف اندماجه في النظام البنكي العالمي، فإن آثار الأزمة الاقتصادية كانت كبيرة على قطاعات عديدة، منها تراجع الصادرات والسياحة وصناعة السيارات والنسيج والاستثمارات الخارجية وتحويلات المغاربة في الخارج والصعوبات التي واجهها تسويق الفوسفاط. وكل هذا أسقط الاقتصاد المغربي في مخاطر حقيقية، منها تراجع حجم الودائع البنكية مقابل ارتفاع القروض الممنوحة وتراجع مخزون العملة الصعبة من 11 شهرا إلى 6 أشهر وتزايد نسبة العجز في الميزان التجاري الذي غطت نسبةً منه التساقطاتُ المطرية التي أنقذت موسم 2009، وتحاول الحكومة إنقاذ هذا الموسم بطرح حصة 8 في المائة من «اتصالات المغرب» للبيع في البورصة قبل نهاية العام الحالي. أما الانعكاسات الاجتماعية فبإمكانها أن تشعل فتيل اضطرابات اجتماعية في أي لحظة. هذه هي الحقيقة التي لا تريد الحكومة مصارحة الرأي العام بها، وهذه هي النتيجة التي أوصلتنا إليها السياساتُ العمومية المتبعة.. ولو كنا في بلد ديمقراطي يحترم مواطنيه لقدم هؤلاء استقالاتهم معترفين بفشلهم، ولو كنا في دولة تحاسب المخطئين والمقصرين لاعتزل هؤلاء السياسة وانصرفوا لتدبير شؤونهم الخاصة لأنهم ليسوا في مستوى تدبير الشأن العام، ولكن لا حياة لمن تنادي. كان علينا انتظار شهور من الجدال السياسي والإعلامي لتحرك النيابةُ العامة المتابعةَ بشأن ملف واحد من عشرات الملفات التي كشف فيها المجلس الأعلى للحسابات عن خروقات، وعلينا انتظار سنوات أخرى لإصدار حكم، وقد تكون الفرصة مواتية بالنسبة إلى المتورطين لمغادرة البلاد وتهريب ما راكموه من ثروات، كما حدث في ملفات سابقة. لقد اشتكت جريدة العلم، وهي لسان حال حزب الوزير الأول، من عدم امتثال الإدارة لتوجهات الحكومة وقالت إنها تعيش فوق المستوى وتساءلت هل من رادع، وهي تعلم بأن الدستور ينص على أن الإدارة موضوعة رهن تصرف الحكومة. فما الذي يُعجز وزيرا عن إلزام مدير تحت وصايته بقرار حكومي؟ أليس حريا به أن يستقيل، وهذا أضعف الإيمان؟ أليس الوزير كذلك معينا بظهير؟ لماذا هذا الضعف إذن؟ هل هو الحرص على المقعد؟ أم إن المشكل في معايير اختيار الوزراء؟ وحين صرح الوزير مزوار بحقيقة الوضع الاقتصادي للبلاد، ألم يكن واجبا عليه أن يحدد من تسبب في هذه الوضعية؟ ألم يشعر بأن المسؤولية تقتضي توضيح نصيبه من كل ذلك؟ وهل الأمر يرتبط بسوء توقع أم سوء تدبير أم هي القوة القاهرة؟ كثيرة هي الأسئلة التي تتداخل في مثل هذه اللحظات، ولكن الغائب الأكبر هو الجواب الصريح. وهذه هي مشكلتنا.