[باستطاعتنا أن نبكي : حتى الأشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة] أحلام مستغانمي. جاء مضمون الخبر كما يلي : " ((هذه الصورة التقطت خلال المجاعة في السودان سنة 1994 وحصلت على جائزة بولتزر، حيث يزحف هذا الطفل الذي ضربته المجاعة وأنهكت جسده النحيل باتجاه مخيم للأغذية يبعد عنه بكيلومتر. والنسر، الذي لا يأكل إلا الجيف يقف على مقربة منه ينتظر موته حتى يأكله. هذه الصورة هزت العالم ولا يعرف أحد ما حدث للطفل بعد ذلك.... بعد ثلاثة أشهر، وجد المصور "كيفن كارتر"، منتحرا ربما متأثرا بهذا المنظر وما يحمله من كآبة وإحباط)). في عالمنا العربي، يبقى أشهر مثال، يعكس أرقى درجات الحس الإنساني، إقدام الشاعر اللبناني خليل حاوي على الانتحار، احتجاجا على اجتياح إسرائيل لإحدى العواصم العربية هي بيروت سنة 1982. لكن قبله، وبالضبط أواخر سنوات الستينات أشعل طالب فلسفة تشيكوسلوفاكي النار في نفسه علانية وسط ساحة تحولت بعد ذلك إلى مزار، معلنا رفضه التام اقتحام الدبابات الروسية لبلده وقمع ثورة دوبشيك السلمية. يوم 16 مارس 2003، ستسحق إلى غير رجعة جرافة إسرائيلية، جسدا نحيفا وبحواس عملاقة، لشابة أمريكية اسمها راشيل كوري سخرت من الحياة وشدت الرحيل إلى فلسطين، كي تصرخ في وجه تخاذلنا التي انتعشت معه جثة نتنة كإسرائيل تحللت إلى خلايا سرطانية مع غروب شرق العرب. يقال أيضا، بأن امرأة مجهولة، من أشعلت شرارة الثورة الفرنسية، حين خرجت إلى الشارع تطالب بالخبز، وليست بيانات فولتير وروسو... . يكفي أن تكون إنسانا، لكي يبدأ العالم، وإنسانية الإنسان تتجلى هكذا دونما أسطرة نظرية، أو كليشيهات جاهزة، بل تحقق على السليقة. المسألة، تتسامى على كل الشروط الذاتية والموضوعية والتصنيفات والمواضعات، حالة منسابة لقيم الخير والحق والشجاعة... . حينما يستيقظ المرء كل صباح، ويتملى بأناة وجهه في المرآة، سيلاحظ حتما فعل الزمان المُر على امتداد جغرافية سحنته. سنوات انقضت من عمرك، ربما على غفلة منك ودون إشعار، ثم يتساءل الواحد منا، أين إنسانيتي من كل الأمر ؟ ما هي درجات تحققها ؟ وكيف لي أن ألمس معانيها على الرغم من كل ما يحول بين المرء ونفسه، المرء وحقيقته، المرء وممكناته. سلوكات، مستندة على اختيارات أو قوانين استلابية، تسطو على حرية الفرد، فيتحدد مصيره وفق احتمالين : إما يجن، حيث وعي العقل بحريته أو يتشيء فتضيع آدميته جزافا. إن تربية الشعوب وارتقائها، يبدءان جوهريا من النزوع الأنطولوجي لأفرادها صوب جعل ذواتهم سؤالا لا نهائيا. لكن، وحتى لا يصاب الفرد بالقرف والضجر، لما يختبر ذاته باستفهام اعتراضي: لماذا أتيت إلى هذا العالم ؟ وبأي مبرر ؟ يمكنه التخلص من هذا التيه باستشكال مغاير : إن الحياة والموت صراع أبدي بين الزمانين الذاتي والوجودي، هكذا فتجمد الشعوب مثل ميتات الفرد، لأن الموت جمع بصيغة المفرد يندرج في إطار نفس زاوية التعارض الواضح بين تمثل الذات الباذخ لذاتها، مقابل حيز العالم بكل ما يطويه من أشياء وآخرية. لاشك، أن النماذج التي أشرت إليها أعلاه، احتفظ بها التاريخ لأصحابها فقط، لأنها تعكس ذاك السلوك النوعي المؤشر على صفاء الطوية وجلاء السريرة. أفراد استثنائيون بل نادرون، تقطر الطبيعة بأحدهم كل مائة سنة ربما على أدنى تقدير، يأتون كي يردوا للإنسانية بريقها ووهجها بعد أن أضاعتهما وهي تلهث وراء أوثان الزيف. في هذا السياق، يقفز إلى الأذهان بقوة، الجدل اللانهائي بين التاريخ الفردي والكوني، بمعنى ثان هل الفرد المجرد قادر على صنع التاريخ ؟ أم الجماعة وحدها مؤهلة بامتياز لفعل ذلك ؟ إن المسألة في رأيي لا تطرح بهذا الفصل المفهومي الصارم، ولكن الأمر أساسا استبدال قراءة التاريخ من التدوين الرسمي والمؤسساتي النمطي، نحو ثان هامشي ألقي به قصدا إلى كَفَنِ النسيان والإقصاء. تفرض، المؤسسة بصرامة لغتها ورؤيتها، يصعب التخلص من تأثيرهما دون توفر المتلقي على جرأة السلوك وثقابة الذهن، ثم الأهم أن يجعل زمانه الذاتي، سندا مرجعيا يستحضر مرة أخرى من خلاله اللحظات النوعية التي أرسى بها المنسيون بدون ذاكرة تاريخهم الفردي وقد أضحى كونيا. إن الصحافي الذي شنق نفسه تحت أقدام صورة طفل إفريقي يحتضر من شدة الجوع، أوحت له بكل الدلالات رفضه باعتباره إنسانا أولا وأخيرا، الجشع والشر اللذان يسكنان الإنسان. بالتأكيد، يوجد خلل في العالم ! موته، إذن دحض على طريقته الهادئة والبليغة جدا للقوانين يشهرها الإنسان أمام أخيه الإنسان. أيضا، وحتى لا يكون المبدع الإنساني كافكا جحيما بأي شكل من الأشكال، فقد قيل الكثير عن وصيته لصديقه ماكس برود بأن تحرق جميع كتبه كي لا يلزم شخصا ما، بفكرة من أفكاره. فماذا لو ساجل الواحد منا نفسه عما يقع ؟ فيحاسب إنسانيته عند كل غض طرف ؟ ثم لماذا نعيش كل هذه البشاعة وبهاته الكيفية القذرة ؟ كلنا مسؤولون بأنانيتنا الخرقاء وذواتنا المريضة وضمائرنا التي أخذت طعم ومذاق قطعة لحم تنقاذفها كلاب جائعة مسعورة. نعم، لا أحد بإمكانه التنكر ليده الطولى في معاناة الآخرين. أظن، حين التماهي بصدق مع شعور كهذا، حتما ستصير للعالم بداية. وأنت تضع لقمة في فمك، تذكر أساسا بشرا يتضورون جوعا في اللحظة ذاتها. وحين تقفل عليك باب منزل جميل ونظيف، يقيك حر الصيف وزمهرير الشتاء، فلا تنسى أبدا أن غيرك قد تنكرت لهم بلا شفقة جميع الشرائع الأرضية، فلم يجدوا غير الجرذان كي يقتسموا معها ظلال مجاري المياه. تذكر جيدا، وأنت تنام ملء جفونك، أن الآلاف مربوطة إلى زنازن تكبر الجحيم جحيما، قد يكون من بينهم أخ لك أو أخت أو ابن بل وأنت في أية لحظة، مادمت تتواجد في ديار تدعك فيها القوانين مثل أعقاب السجائر. علم ذاكرتك، الوفاء لمن قسا عليهم المجتمع باسم جنونهم، هكذا لن يجدوا ما يسدوا به رمقهم في أفضل أحوالهم إلا ما تجود به فجوات مؤخراتهم، سيقبعون داخل ظلمات حفر قروسطية، فقط الخفافيش تئن لحالهم. وأنت تلتهم كالدود حقوق الآخرين، بغير حق حاول كل مساء ولو لبرهة تصفح حكاية من حكايات السابقين كي تعلم أن العظماء كانوا عظماء، بالتالي يستحيي الدود أن يلمس بسوء أجسادهم. سعادتك من سعادة بني جلدتك. عفوا، كيف بك أن تكون سعيدا ؟ ! داخل بلد يموت فيه الناس حتى الآن بلسعات العقارب ؟ جرعة ماء !؟ حفنة شعير ؟ ! قرص أسبرين ؟ ! دولار في اليوم الواحد ؟ ! وهلم جرا. لا تلوث نقاء ذاتك، باختلاس أحلام الآخرين، وفي واضحة النهار. ذات غفلة، منك ومني ومنا جميعا،ستترك هذا العالم، وحدها سيرة آدميتك ترشد الناس إلى قبرك. [email protected]