يقول الراوي : " هل أرحل من هذا البلد ؟ هل أغادره دون رجوع ؟ متى بالضبط و كيف ؟ من أين ابدأ ؟ و ما جدوى الحديث عن واقع يكاد يكون مستحيل التغيير ؟ لا يهم... فلأبدأ، فلأبح، فلأكتب... منذ زمن طويل و أنا أواجه صعوبات في البوح و التعبير و الحديث بصوت جهير أمام من لا أعرف من الملأ، و لكني اليوم قررت أن أكتب هذه الاعترافات من ألفها إلى يائها حتى أستريح. و الحقيقة أن الكتابة وحدها لا تكفي بل إن هناك ما هو أهم. متى ؟ و لم ؟ و من أخاطب ؟ ولأي هدف ؟ هل يهمكم أن تعرفوا اسمي و هويتي و سني، و أن تعلموا أيضا لماذا أخاطبكم اليوم بالذات، و لم أكتب، و ما جدوى أن أخط بالقلم على سطح الورق أحداثا و آهات و صرخات و إخفاقات و نجاحات ؟ لست أنا المهم في هذه القصة، بل هو... رفيق الفيلالي... ذكرى الأمس كأنها اليوم. حاضرة بشتى تفاصيلها و أدق أحداثها. بين الماضي القريب أو الزمن البعيد شبر أو أقل... من قال أن الماضي ولى بلا رجعة ؟ من زعم أن الأهم في خط الزمن لحظة راهنة ؟ من قال هذا ؟ من ؟ التقينا لمرة واحدة ربيع 2007. مرة واحدة فقط و لكنها حاسمة، و تقاسمنا الكثير من الأفكار و الرؤى و التأملات. كان الجو رائقا في مراكش، و كنا نشارك معا في أشغال مؤتمر دولي حول حوار الحضارات و الأديان. كانت المشاركة مداخلة في شكل محاضرة أمام ثلة من الباحثين و المفكرين، كل حسب تخصصه. و لأني أمقت التباهي الثقافي و المكوث طويلا في نقاشات متفلسفة مع الزملاء الأساتذة حول مفاهيم مغرقة في النظرية، فقد اقتنصت أول فرصة، بعد 3 أيام مضنية، وتسللت رفقته إلى أبعد مقهى نروح فيه عن النفس، و ننسى فيه بعضا من أجواء المؤتمر. كان المقهى بعيدا عن جامع الفنا، فأنا خلافا لكثير من أبناء جلدتي لا أحب كثيرا هذه الساحة. صخب، وشعوذة، وهرج ومرج وضحك على ذقون السائحين بل وحتى أبناء البلد أحيانا. و أجواء صحيح أنها تغري الأجانب، و لكنها ترسخ واقع المغرب السطحي و الفلكلوري. وبالمقابل، كم أعشق احتساء عصير البرتقال في جامع الفنا. يا إلهي! طعمه رائع، لم أتذوق مثله في أي مدينة أخرى بالمغرب. جلسنا في المقهى الذي بدا في حمرة المغيب بين صفوف من الشجر ساكنا جامدا قليل الحركة والمرح. و كان ذلك أدعى و أنسب لحديث كله ود وأنس. و سمحنا لعضلاتنا بالاسترخاء و لألسنتنا بالانطلاق في حديث حميمي استمد دفئه لا شك من جو مراكش. و كان رفيق السباق بالحديث. - أنا سعيد دوما بالتواجد في المؤتمرات لأن أهم ما فيها هو العلاقات الإنسانية التي تنسج و التي هي - في نظري - أهم بكثير من الأوراق العلمية المقدمة. - أشاطرك نفس الرأي أيها الزميل العزيز... -غير أن ما يحزنني و يحز في نفسي هو قلة الإمكانات المادية الضرورية لنشر أعمال المؤتمرات في كثير من الأحيان. - ليست دائما المسألة قلة مال. أحيانا هي قلة اهتمام و تثمين للمحاضرات الملقاة. -هذا أيضا موجود. موجود لأننا موجودون في بلد اسمه المغرب. - مع الأسف، لا نزاول مهامنا بمتعة الأساتذة الباحثين في دول مثل أمريكا أو اليابان أو السويد. -تصور يا عزيزي أن دولة مكروسكوبية مثل إسرائيل هي رابع بلد عالميا على مستوى البحث العلمي... -لا أستغرب الأمر بتاتا. إن الارتقاء بالتعليم مفتاح التنمية... و التعليم الجيد يساوي وطنا قويا. اسمعني جيدا، إن تنمية الوطن لن تأتي من الفراغ فهي تحتاج منا الكثير من العطاء و الحب و العمل و التضحية و الالتزام و البذل و الأناة. و كان الحديث ممتعا ذا شجون، و تشعب و سار بنا ذات اليمين و ذات الشمال، ونحن لا نكل أو نمل حتى من الببغاوية الفكرية أحيانا... قال أحد المتصوفين (لا أذكر اسمه) أن محبة الخلق دليل ساطع وبرهان قوي على وجود الخالق. هل فكّرنا يوما في معنى الحياة ؟ أكيد، لا معنى لها إلا التعاطف و الحب. أحببت إنسانيتك العالية يا رفيق و التي كان يزكيها ميلك الطبيعي إلى السخرية البناءة و التعليق على الأحداث بحكمة و بصيرة نافذة. و أحببت أيضا قسمات وجهك المعبر: لقد كان مرآة صافية لما يختلج في أعماقك. عيناك بعمق المحيط، و ثمة بريق من الأمل و الذكاء و العاطفة و الحنان ينبعث منهما. و كم كان صوتك يجيش بالانفعال و أنت تسرد لي الظلم الذي تراه يوميا في هذا المجتمع، و كان لسان حالك يقول "لا بد للظلم من نهاية، و لنرين يوما في عالمنا مصرع الجبروت ومشرق الأمل و البشائر". كنت تحس بالقهر في مجتمع أقل ما يمكن وصفه به أنه غابة نفاق وانتهازية وسطحية و مظاهر لا تسمن ولا تغني من جوع. لم تكن قاسيا في أوصافك. كنت صادقا بليغا حد الصدمة. و لم لا ؟ ذاك ما نحتاجه كي نستفيق. العلاج بالصدمة... مماذا نستفيق؟ من الجهل المطبق؟ من سياسة التجهيل ؟ من أمية المثقفين ؟ من ذل الجاهلين ؟ من التجارة بالدين؟ من الانحلال الأخلاقي؟ من سلطان المال القذر الذي بات يشتري الضمائر و الذمم ؟ من مخزن يهمش المواطن، و مواطن يهمش مواطنا، و وطن يهمش أبناءه و مواطنين دون إحساس بالوطن ؟ دوامة التهميش... من كل ذلك أيها الغالي، و قطعا أكثر. اللائحة طويلة لا تنتهي. هل أتوقف أو أكمل ؟ اليأس يستعمرني و يعصف بي من الرأس إلى القدم، و أجزم أنه لن يستقيم شيء في هذا البلد، بعقليات ديناصوراته، و تعليمه الفاشل، و منظومة قيمه المشلولة المتحللة بل المنهارة... لست متحاملا على أحد، و لكن إلى متى نظل غارقين في غياهب الظلمات و الجهل ؟ مكتبات فقيرة حد الإفلاس من الكتب و المراجع، و طاقم يشتغل بطرق و أساليب تعود إلى عصر الديناصورات في زمن الإنترنت و التواصل الإلكتروني، و عشوائية في كل شيء، و تقرير لأشياء مهمة بمنتهى التهور و في آخر لحظة، و غياب للتجديد، و قلة مسؤولية، و سياسة تسويف، و تماطل أصبح أداة و أسلوب حكم، و مشروع تجهيل... لماذا أصبح المثل يضرب بنا في التخلف و قتل الإبداع و وأد المواهب و احتقار الأفراد و اغتيال إنسانية الإنسان ؟ أعلم أن التشاؤم منهي عنه في الدين، و لكن هل يكون التفاؤل الجامح المجنح بالخيال بديلا عن واقعية التشاؤم ؟ صحيح يا رفيق أن فارق السن بيننا كبير، فأنت تدنو من الستين و أنا في نهاية العشرين. غير أن ذلك لا يهم. كان تواصلنا فعالا ديناميكيا بكل المقاييس. وكان البحر الذي كنته يرفد و يغذي النهر الذي لا أزاله. منذ طفولتي احترمت من هم أكبر مني سنا، و عندما يتعلق الأمر بكبير مثقف مثلك فإن التوقير يكون مضاعفا لا محالة. دعني أحكي عنك بلغة التعاطف. اتركني أبعث لك رسالة من القلب إلى القلب. هل تسمعني؟ أين أنت ؟ " أنت تراني أمامك كهلا يحث الخطى نحو الستين، و ترى بوضوح الشيب قد وخط رأسي. اعلم أيها العزيز أني رغم عامل السن فإني أحسني بروح و قلب شاب في مقتبل العشرين. أحب الحياة أيها الغالي. أعشق الأدب و المسرح و السينما و السفر و التجوال، و لعل ذلك ما صان شبابي من الضياع. كرست أزيد من 6 سنوات من العمل و البحث الشاق لمشروع بحثي في الدكتوراه. و لم أنه البحث حتى كادت روحي أن تصعد إلى خالقها. خلال تلك السنوات الست سافرت إلى فرنسا على نفقتي الخاصة مرات و مرات، إذ لم أكن أتوفر على منحة جامعية. كان همي الوصول إلى أقصى وأجود عدد من المراجع العلمية، وفعلا كان ذلك. بمشقة بالغة، ولكن كان. أ وليست العبرة بالخاتمة ؟ تعلم أني أدرس بالجامعة الأدب الفرنسي. تخيل أنه لحد الآن أسافر دون أدنى تمويل جامعي مرارا وتكرارا إلى الرباط أو الدارالبيضاء أو حتى طنجة للحصول على مراجع بحوثي في النقد السينمائي ؟؟ تعب و مشقة شديدة و تدريس بلا وسائل و معدات في أغلب الأوقات. ما الحل ؟ لست أدري ما الحل..." و مر ربيع 2007 ، و تلاه خريف لن أنساه ما حييت لكثرة سوداويته و أيامه الغامقة الغارقة بين ظلال من الكآبة و الفتور، و وجدتني متأثرا و واعيا حتى النخاع بكلام و تجربة رفيق، و بدأت بضعة شهور بعد ذاك أطرح على نفسي ألف سؤال... هل أرحل من هذا البلد ؟ هل أغادره دون رجوع ؟ متى بالضبط و كيف ؟ فأنا لا أملك من الجرأة إلا القليل، و أبواي كبرا و هما في مسيس الحاجة إلى أن أظل بجانبهما، و أن لا أهاجر لمجرد أن أهاجر كما فعل أخي الأصغر سعيد منذ عامين.. يا إلهي ماذا أفعل ؟ " [email protected]