وأنا في الطريق صوب مدينة سبتة السليبة انتابني شعور عميق بالقلق والتوتر واجتاحت ذهني مجموعة من الأسئلة بعضها مستمد من التاريخ والبعض الأخر من الجغرافيا وأكثرها عن الوطن وحدوده عن التراب ووحدته،عن الإنسان وكيف تم فصله عن جذوره وعزله الشاذ عن محيطه. وما إن وطأت قدماي الثغر المحتل حتى ازداد هاجس السؤال لأجد نفسي أدخل في لعبة المقارنات علها تسعفني في رصد أجوبة عن تساؤلاتي. وأول ما أثار انتباهي تلك المفارقات الصارخة وحضور ثنائية شمال - جنوب داخل رقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها 19,48 كلم مربع، هذا التقسيم الممنهج من طرف السلطات الاستعمارية، جعلت من سبتة مدينة بوجهين، شمال متقدم تحتله ساكنة اسبانية وهو صورة طبق الأصل للمدن الأوربية بكل تجلياتها، وجنوب مهمش ومتردي يسكنه أصحاب الأرض أغلبهم يعانون التهميش في كل المجالات في العمل، في السكن في التعليم الخ، إنهم ضحايا الفقر والبطالة . وهنا يتجلى العمق التميزي للسلطات المحتلة في تدبيرها وتسييرها للثغر قد يذكرنا بمنهج القوى الإمبريالية الاستعمارية القائم على تقسيم المستعمرات إلى جزء نافع مليء بالثروات وأخر غير ذلك. سبتة كمدينة تصر رغم أنفها على أن تشعرك بالذل والإهانة من طرف محتليها في كل مكان تحل فيه، وأنت جالس في المقاهي أو داخل المطاعم أو المحلات التجارية تطاردك نظرات تنضح حقدا وكراهية اتجاه المغرب والمغاربة. هذه حقيقة مؤلمة وتزداد إلاما عندما تتطلع على أرقام الرواج التجاري والاقتصادي الذي تعرفه المدينةالمحتلة وقوده الأساسي أموال المغاربة خاصة إذا علمنا أن المدينة تعيش بالأساس على أنشطة تهريب البضائع الذي يعد أحد المحركات الاقتصادية الرئيسية لها. ورغم أنه لا توجد إحصائيات مدققة حول الصادرات غير القانونية لمدينة سبتة تجاه المغرب، إلا أن بعض المحللين الاقتصاديين الإسبان يؤكدون أن الرقم يتجاوز بكثير 500 مليون أورو سنويا. ومن بين الملاحظات التي يمكن أن يلاحظها أي زائر لهذه المدينة هو ظهور مؤشرات على وجود أزمة اقتصادية حقيقية تتجلى أساسا في تراجع القدرة الشرائية للمواطنين خاصة ساكني الرقعة الجنوبية من المدينة بالإضافة إلى تراجعات كبيرة وتذبذبات في مؤشرات الأسواق التجارية بسبب الأزمات المالية المتتابعة التي يعرفها الإتحاد الأوروبي بشكل عام واسبانيا بشكل خاص. تدهور اقتصاد سبتة وإصابته بالشلل يزداد بشكل أسرع خاصة بعد انطلاق الاستغلال بميناء طنجة المتوسطي، هذا المشروع الضخم الذي يخفي في حد ذاته صراعا اقتصاديا وسياحيا بين إسبانيا والمغرب سيدخل في منافسة اقتصادية شرسة مع ميناء الجزيرة الخضراء الإسباني وميناء سبتة، لكونه سيمتص جزءا من حركة الملاحة الدولية التي تستفيد منها إسبانيا. كما أن عزم المغرب مواصلة إصلاحاته السياسية وفتح أوراش ضخمة لتأهيل مناطق الشمال كتشييد وتمديد شبكات الطرق السيارة، بناء وتقوية شبكة السكك الحديدية، تقوية البنيات التحتية الأساسية، بناء ملعب ضخم بمدينة طنجة، سيربك الحسابات الاقتصادية والتجارية لجارنا الشمالي في المدينةالمحتلة. تشديد الخناق على سبتة امتد أيضا إلى الجانب السياحي حيث المشاريع العملاقة التي ينجزها المغرب ستعزز العرض السياحي المتوسطي للمغرب وستكون لها انعكاسات إيجابية على المدى المتوسط والبعيد، خاصة إذا علمنا أن المناطق الشمالية تتوفر من خلال موقعها الجغرافي الاستراتيجي وإمكانياتها الطبيعية والثقافية، على جميع المؤهلات التي تجعل منها وجهة سياحية متميزة. هذا التراجع المستمر في اقتصاد المدينة أثار قلقا كبيرا داخل أوساط المستثمرين ورجال الأعمال والساسة الإسبان حيث بدؤوا يتخوفون على مستقبل مشاريعهم المرتكزة بالأساس على السلع الغذائية والملابس والتجهيزات المنزلية التي تمر يوميا عبر معبر باب سبتة قبل أن تتفرق على معظم التراب المغربي، وباتوا يشعرون بأنه بعد سنتين ستنمحي الفوارق الجمركية بين المغرب والإتحاد الأروبي وستنقطع المداخيل الهائلة التي يدرها التهريب نحو المغرب. هذه المعطيات الجديدة ستخلق وضعا جديدا سيدفع بلا شك المسؤولين الإسبان إلى التفكير في بدائل أخرى كتقوية البنيات التحتية وتشييد المزيد من المنتجعات السياحية والوحدات الفندقية والتي تهدف بالأساس تحويل المدينة إلى منطقة سياحية لا تعتمد فقط على تهريب السلع نحو المغرب. لكن رغم كل الإجراءات التي يمكن أن تتخذها السلطات الإسبانية لإنقاذ سبتة المهددة بالانهيار عبر حقن اقتصادها المصطنع بمقومات الحياة، إلا أنه أكاد اجزم أن تأهيل المنطقة الشمالية والاهتمام بها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وخلق بنيات سياحية عالية الجودة سيكون الضربة القاضية للسلطات الإستعمارية وحينئذ يمكن للاقتصاد أن يحل مشاكل الاحتلال. ولا يخفى على أحد أن العمل الجدي لاسترجاع الثغرين يبدأ من بناء قطب اقتصادي في الفضاءات المحيطة لسبتة ومليلية عن طريق تقوية واستمرارية الأوراش الكبرى وتنشيط المسلسل الدؤوب الذي باشره المغرب لتحسين واجهته المتوسطية. بالإضافة إلى هذه المقاربة المبنية على المنافسة الاقتصادية يحتاج ملف سبتة ومليلية السليبتين اللتان مر على احتلالهما أزيد من 500 سنة والتي لا يوجد أدنى مؤشر على قرب تصفيتهما ولو على المدى البعيد إلى وضعه قيد الحوار مع إسبانيا، من أجل تصفيته نهائيا. صحيح أن السلطات الإسبانية تراهن على بقائها المستدام بالمدينتين، لكن من واجب السلطات المغربية والمسؤولين المغاربة، حكومة وأحزابا ومجتمعا مدنيا ووسائل الإعلام ومواطنين، التفكير الجدي في أنجع السبل لاسترجاعهما، والشروع منذ الآن في التصدي للسياسات الإسبانية الرامية إلى تسريع "أسبنة" سبتة ومليلية. [email protected]