قبل أيام سمعنا عن "اتفاق" أغلب الدول العربية على استئناف المفاوضات غير المباشرة مع الكيان الصهيوني، وهو اتفاق "قل نظيره" في زمن التباينات الشاسعة في المواقف والخلافات الحادة بين هذه الدول، هكذا تنفس "أصحاب أوسلو" صعدائهم بهذا الاتفاق، الذي حررهم من هذه "العقدة" التي ظلت تكتنف صدورهم، والمتمثلة في إيجاد مخرج لمواقفهم بوقف المفاوضات و"رهن استئنافها بوقف الاستيطان"، ويا له من "موقف شجاع" يستحق من أصحابه كل "التنويه والتطبيل والزغردة" !!! و ما أن أعلنت هذه الدول العربية قبولها استئناف الطرف الفلسطيني المفاوضات غير المباشرة، حتى "هرول مسرعا" أصحاب أوسلو للجلوس على طاولة المفاوضات، ومن فرط هرولتهم هذه المسرعة، نسوا هل هم بصدد مفاوضات مباشرة أم غير مباشرة؟، المهم لديهم أن عقدتهم قد تحررت بعدما اشتاقوا لعدسات الكاميرات وهي تلتقط كلامهم البئيس ومواقفهم المتكررة حول مضمون مائدة هذه "المفاوضات" التي لا نهاية لها... ويا لرياح هذه الأقدار التي تجري بما لا تشتهيه سفنهم، في كل مرة ينطلق مسلسل المفاوضات هاته، إلا وهبت ريح عاصفة فاعترضت سبيل أمانيهم، بالأمس القريب، كانت العاصفة التي توقف هذا المسار وتشوش عليه، هي بطولات هذه المقاومة الشريفة على الأرض وشهدائها الأبرار، وفي كل مرة أراد هؤلاء "الأسلويون" أن يطمئنوا على مسارهم إلا وانطلقت عملية استشهادية هنا أو هناك من هذه الأرض الشريفة المغتصبة التي تسمى فلسطين ضد المحتل الصهيوني، ولكم أحيت فينا هذه البطولات المجيدة روح الأمل من جديد، ولكم نفضت الغبار عن ذاكرة حية أرادوا لها الاغتيال، ولكم ذكرتنا أيام كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس وكتائب الأقصى وكتائب أبو علي وكل فصائل المقاومة الفلسطينية الشريفة، بأن الاحتلال لا زال جاثما على فلسطين، وأن اللاجئين لا زالوا لاجئين، وأن المعتقلين لا زالوا معتقلين، وأن القدس الشريفة لا زالت مغتصبة، هي هذه العناوين البارزة التي عملت إرادة الهيمنة أن تمحوها من ذاكرة الأمة والفلسطينيين... وبالأمس القريب أيضا، ذكرتنا الاغتيالات الصهيونية الجبانة لرجالات المقاومة بالطبيعة الإجرامية لهذا الكيان الصهيوني، وأيضا كانت هذه الاغتيالات عاصفة تهب بريح مسك شهداء الغدر الصهيوني، لتشوش على مسار هذا المسلسل التفاوضي البئيس، وتربك حسابات من أرادوا لمنطقة المشرق الإسلامي أن تصبح سوقا شرق أوسطية يتطبع فيها "الجيران" مع العدو الصهيوني الغاصب، ويفعل فيها ما تريدها أطماعه التوسعية... وبالأمس القريب جدا، عشنا محنة غزة الصمود وعزة أهلها ومجاهديها الشرفاء، فكانت الملحمة، برغم الحصار والتجويع الذي كان بفعل الانقلاب الذي مارسته أغلب دول الغرب وبصمت متخاذل للأنظمة العربية الرسمية على الشرعية الشعبية الفلسطينية و بعقاب أهل غزة على اختياراتهم الحرة، وتكالب الصهاينة ومن والاهم على أهلنا في غزة، والاعتداء الوحشي الذي عشنا صوره ومشاهده الحية... كانت ملحمة الانتصار على كل هذا التواطىء الدولي والإقليمي، وعلى كل هذه الهمجية الوحشية التي خلفت أكثر من ألف شهيد وآلاف المشردين والجرحى، و انتصرت المقاومة لأن هامات المجاهدين -ومعهم أهل غزة وشعب فلسطين عموما- لم تنحن ولم تستسلم لكل هذا المسلسل الابتزازي المقيت، الذي هدف منه تركيع الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة الحية والشريفة... عشنا طوال هذه الشهور مسلسلا متصلا بعد صمود غزة، ظل الابتزاز فيه قائما، هكذا عشنا الحصار الممنهج على أهلنا في غزة الذي مارسه النظام المصري بإغلاق معبر رفح وفتحه أحيانا ولمدد قصيرة، وشهدنا هذا الجدار الفولاذي "العار" الذي انضاف إلى الجدار الصهيوني ليجعلا من قطاع غزة سجنا كبيرا، لكن في فسحة السجن يتولد الأبطال وتحيى الهمم وتستعيد الكرامة كرامتها، هذا الجدار الفولاذي الذي نقض عرى حق الجار المسلم على المسلم، وعرى التكافل بين المسلمين وعرى نصرة المسلم للمسلم وعرى حق الجار على جاره، وهي عرى تعلو بقدسيتها على أية سيادة لبلد مسلم معين، كيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام يخبرنا بأن ليس مؤمنا من شبع وجاره جائع فيقول في حديث صحيح "ليس المؤمن الذي يشبع و جاره جائع" ، وهو الذي يخبرنا بمآل امرأة سجنت قطة حتى ماتت فيقول في حديث صحيح "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت ، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، فما بال من يسجن إنسانا -بل أمة- ويحرمها من ضرورات العيش ومن الدواء ومن التغذية... والآن وفي هذه الأيام، ومع استمرار هذا الحصار الظالم والغاشم على أهلنا في فلسطينوغزة، علت صيحات حرة من هذا العالم الفسيح، لتهب من أجل كسر هذا الحصار الظالم، أتتنا هذه الرياح بنسيمها الإنساني البريء، لينتفض الشرفاء في هذا العالم، وليهبوا لنجدة الشعب الفلسطيني المحاصر، لقد كانت التعاطف الدولي من قبل هذا الغرب الإنساني برهانا ينبئنا أنه لا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، وأن التدبير الصهيوني قد يأتي بإشراقات من حيث لا يحتسبها، وها هي قافلة الحرية بأسطولها البحري الذي حمل شرفاء وأحرار العالم شاهدة على هذه الإشراقات، ولقد كانت واقعة إبحار هذا الأسطول لكسر الحصار الظالم على شعبنا الفلسطيني في غزة، عنوانا إنسانيا بارزا يقول لكل العالم أن ثمة تحول جاري في المعترك الدولي ولن يستقر الوضع على الهيمنة الصهيونية ولن ينتهي التاريخ باستواء الظلم على سوقه... كانت هذه الواقعة الفريدة والعظيمة عنوانا صفع بدماء شهداء هذه القافلة الذين كانوا ضحية الغدر الصهيوني، كل من يتمنى على نفسه أماني كاذبة وصانعة للوهم ومغتالة للذاكرة، كانت واقعة صنعها شرفاء أتوا من بعيد ليشهدوا على هذا الحصار الظالم، وليبلغوا رسالة العزة والكرامة والغيرة الإنسانية البريئة إلى هؤلاء "الجيران ذوي القربى" الذين لا تفصلهم عن غزة الصمود إلا بضع مسافات قليلة ومع ذلك يحاصرونها!!! البعض من هؤلاء المنهزمين في كل شيء، يشتاقون للعب دور المهزوم حتى في لحظات انتعاشة الانتصار لهذه الأمة، فيتحركون سرعان ما تخمد عواصف الوقائع الكبرى، ليزرعوا سموم الهزيمة من جديد، ألم يكن قرار استئناف المفاوضات غير المباشرة في عز أيام حصار غزة؟ ألم يعمل هؤلاء على إحياء ما سمي ب"مسلسل السلام" وبعناوين جديدة الشكل "المبادرة العربية للسلام" بمجرد أن انتهت حرب غزة؟ وماذا جنوا من هذا المسلسل التفاوضي البئيس الذي لم ولن يحرر أرضا محتلة، ولم ولن يحرر أسرانا الأبطال الذين يعدون بالآلاف في سجون الاحتلال؟، ولم ولن يعيد لاجئينا بالملايين الذين يعيشون عقودا بعيدين عن أراضهم ووطنهم فلسطين؟، ولم ولن يحرر قدسنا المغتصبة وأقصانا السليبة؟. إن مؤشرات الرشد (والرشد مقابله الغي) في قرارات أنظمتنا العربية الرسمية واضحة لا لبس فيها، وأحسبها كالتالي: 1. الوقف النهائي للمفاوضات مع الكيان الصهيوني ورسم استراتيجية جديدة غايتها إزالة الاحتلال من أرض فلسطين؛ 2. الرفع الفوري للحصار الظالم المضروب على أهلنا في غزة، دون تردد ولا تسويف، ومنه فتح معبر رفح بشكل مستمر دون توقف؛ 3. احتضان تيار الممانعة والمقاومة وعدم التضييق عليه، لأنه هو أملنا الوحيد في تحرير الأرض الفلسطينيةالمحتلة. ما دون هذه المؤشرات يظل لغوا سياسيا زائدا سيستمر في التشويش على مسلسل التحرير الحقيقي للأرض الفلسطينيةالمحتلة، وعلى مطلب عودة اللاجئين وتحرير أسرى الاحتلال وعلى استعادة قدسنا وأقصانا الشريفين. ولله الأمر من قبل ومن بعد... [email protected]