ليكن في علم القراء الأكارم الأفاضل، أنني غير منتم إلى أي مذهب ديني محدد، ولا إلى أية جماعة أو طائفة دينية في الوقت الراهن. ولا أتردد في التصريح بأنني أند عن التصنيف المغلق. فأنا أرفض رفضا قاطعا أية تبعية مطلقة لأي إمام ولأي شيخ. كان إماما في الفقه، أو في الحديث، أو في تفسير القرآن العظيم. كان شيخا في الدين معروفا باجتهاداته وإنتاجه الفكري، أو كان شيخا في التصوف، خلفه يجر آلاف المريدين، يعني أنني بكل وضوح لا لبس فيه ولا غموض معه، لست مالكيا ولا حنفيا، ولا حنبليا، ولا شافعيا. ولا متقمصا شخصية الإمام أحمد بن تيمية، ولا شخصية الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي، ولا شخصية أي إمام غيرهما في الشرق وفي الغرب الإسلاميين. وتقمص شخصيات علمية وفكرية ودينية وسياسية وأدبية، يعني تقليدها ومحاكاتها في سلوكها وهيأتها، والنسج على منوالها، وانتهاج نفس نهجها في التعامل مع الواقع الذي يمثل أمامها، إلى حد أنها ملزمة بأخذ مواقفها منه، حيث إنها تؤيد وتعارض، وتقبل وترفض، وتعاني وتشقى وتسعد وتتعارك لأجل البقاء، عبر مساهمتها في تقديم حلول، أو طرح اقتراحات تنص على قضايا بعينها في كافة المجالات. إنني بعبارة أخرى لا أريد أن أكون مجرد ممثل على خشبة المسرح، أؤدي دور زيد كعالم، أو دور سعيد كفقيه! فالدين والعقل كلاهما يذمان التقليد أشد ما يكون الذم. ومن هنا رفضت أن أكون ممن شملتهم الآية الواحدة والعشرين من سورة "لقمان": "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا"! فجد والدتي: أحمد الراضي كان تجانيا! وجدي محمد الراضي (أنظر المعسول) كان تجانيا كوالده! ووالدي كان تجانيا مثل شيخه: الحسن البعقيلي! وأنا كنت تجانيا لما يقرب من سنتين. ثم حدث لي تقريبا مثل ما حدث للعلامة تقي الدين الهلالي رحمه الله! ثم إنني لا أريد أن يشملني قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم. إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا". ولا ممن شملهم قوله الثاني صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه". قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إذن". والشخص "الإمعي" هو الذي يقول لكل واحد "أنا معك" ولا يثبت على شيء لضعف رأيه! يكفي أن من بين الشعارات التي حملها الأئمة الأربعة، رفضهم للتقليد والتبعية العمياء. فقد طرح على الإمام أبي حنيفة هذا السؤال: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه. قال: "اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقيل له: إذا كان قول الصحابة يخالفه. قال: "اتركوا قولي لقول الصحابة رضي الله عنهم". وقال الإمام الشافعي: "إذا قلت قولا، وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، فما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى. فلا تقلدوني"! وقال: "إذا صح خبر (= حديث)يخالف مذهبي فاتبعوه واعلموا أنه مذهبي". وقال: "مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلذغه وهو لا يدري". أما أحمد بن حنبل فقال لأبي داود صاحب السنن: "لا تقلد في دينك أحدا من هؤلاء (الأئمة). ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين". وقال له أيضا: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري (سفيان)، ولا الأوزاعي (عبد الرحمان إمام أهل الشام) وخذ من حيث أخذوا". ثم قال: "من قلة فقه المرء أن يقلد دينه الرجال"! أما مالك بن أنس الأصبحي فيقول: "كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر" مشيرا إلى قبره صلى الله عليه وسلم. فأصبح معلوما لدينا من صفات العالم أنه "لا يرتضي أن يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صحته أو حسنه، قول نفسه ولا قول غيره. وإلا لم يكن عالما متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم". ومتى عرفنا تصريح الأئمة بأنه إذا صح الحديث بخلاف ما قالوه، فإنه "لا يقلدهم أحد في قولهم المخالف للحديث". والتقليد حقيقة هو الأخذ بقول الغير من غير حجة. ولقد كثرت "جنايات المقلدين على أئمتهم في تعصبهم لهم. فمن تبين له شيء من ذلك، أي من الأحاديث النبوية، فلا يعذر في التقليد (بل يلام؟). فإن أبا حنيفة، وأبا يوسف (القاضي أكبر تلامذته) قالا: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم أين أخذناه، وإن كان الرجل متبعا لأحد الأئمة الأربعة، ورأى في بعض المسائل أن قول غيره أقوى منه فاتبعه، كان قد أحسن في ذلك. ولا يقدح ذلك في عدالته ولا دينه بلا نزاع، وهو أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله. فمن تعصب لواحد معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه، دون الأئمة الآخرين، فهو ضال جاهل (لأنه) متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد معين من هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم دون الآخرين، فقد جعله بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كفر"؟ والكفر جحود وإنكار لما ألزمنا الله تعالى باعتقاده إن كنا بالفعل مسلمين! نقصد طاعته وطاعة مجتباه صلى الله عليه وسلم. والأبيات الشعرية الخمسة التالية، تلخص بدقة ما قدمناه بخصوص موقف الأئمة الأربعة وغيرهم من التقليد الأعمى: علام جعلتم أيها الناس ديننا لأربعة لا شك في فضلهم عندي هم علماء الدين شرقا ومغربا ونور عيون الفضل والحق والزهد ولكنهم كالناس ليس كلامهم دليلا ولا تقليدهم في غد يجدي ولا زعموا حاشاهم أن قولهم دليل فيستهدي به كل من يهدي بلى صرحوا أنا نقابل قولهم إذا خالف المنصوص بالقدح والرد فأن يدعي أحدهم بأنني وهابي، أو بأنني متقمص لشخصية فلان أو علان، ادعاء كذبه كليا ما قدمته من ذم التقليد، بلسان كبار الأئمة والعلماء، ثم إني أكذبه بواقعنا المعاصر الذي يختلف اختلافا جذريا لا شك فيه عن واقع كل إمام وكل فقيه وكل عالم في القرون الماضية، فعام 1115 هجرية – 1703 ميلادية، حيث ولد محمد بن عبد الوهاب النجدي، ليس عام 1940 ميلادية حيث ولدت – والحرب العالمية الثانية المجسدة لهمجية العلمانيين قائمة – فقد فتحت عيني على الوجود الاستعماري، وتلقيت منه كغيري من أقراني أنواعا من الإهانة والاحتقار، وخبرت نظرته إلى المسلمين من خلالنا عن قرب! وأدركت مدى رغبته الملحة في تشويه شخص الرسول وبعض أفراد أسرته وبعض أصحابه! وذلك في الكتب المدرسية التي تحمل أسماء مختارة بعناية مثل "محمد يذهب إلى المدرسة"، ومثل "علي وفاطمة"، ومثل "عثمان بوركابي"! وقد كنت حينها قد التحقت بالمدرسة الحكومية، بعد أن حفظت القرآن الكريم، لكني لم أمكث بها إلا يسيرا لأعود من حيث أتيت. فتكون حياتي منذ ذلك الحين حتى الآن عبارة عن تجربة، لا يعرف منها محمد بن عبد الوهاب النجدي، غير ما يمكن أن يجمع بيني وبينه من حيث المعاناة في التنقل من بلدة إلى أخرى، وفي الإحساس بالغربة أو بالاغتراب. كما أنني لا أعرف من حياته ومن تقلباته، ومن علاقاته بشيوخه إلا ما وصلني عنه عن طريق مؤلفات حاولت تقريب حقيقة أمره إلى الأذهان. فإن كنت أنا شاهدت الصراع مع الاستعمار، وحضرت بداية الاستقلال، وشاهدت التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية االتي عرفها المغرب إلى حدود كتابتي لهذا المقال. بينما هو عاصر، وشاهد في شبه الجزيرة العربية أوضاعا مخالفة لما شاهدته وعشته ووعيت به. شهد أوضاعا غلب عليها قبل قيام الدولة السعودية انقسامها إلى ولايات "يحكم كل واحدة منها أمير لا تربطه وجاره أية رابطة". ولا تسأل عن الفساد الديني والأخلاقي والاجتماعي في المنطقة. فمن ظلم صارخ وتحد سافر، ومن مواجهات دامية، ومن مغارات ومن أشجار ومن أحجار مقدسة تتم الاستغاثة بها، جنبا إلى جنب مع الأضرحة المزورة، والأولياء المزورين المتعودين على التضليل إلى حد إقبالهم على أكل أموال الناس بالباطل. بل وإلى حد تهديد الدين الحقيقي في مهده بالاضمحلال والتلاشي! فكان أن بحث الرجل – وهو ينتقل خفية من مكان إلى آخر، حتى لا يكون عرضة لقتل من هاجم تصرفاتهم ومعتقداتهم الفاسدة – نقول: بحث عن مكان آمن يأوي إليه، كي يقوم بأداء رسالته كاملة. فقد راسل "رؤساء البلدان النجدية، وقضاتها، يطلب منهم الطاعة والانقياد، ونبذ الشرك والعناد". ولم يجد الرجل صدرا رحبا إلا عند محمد بن سعود الذي أحبه "واقتنع بما دعاه إليه الشيخ، وبشر الأمير الشيخ بالنصرة، وبالوقوف معه على من خالفه". فكان أن كون معه ثنائية أشبه ما تكون بثنائية عبد الله بن ياسين، ويحيى بن إبراهيم الكدالي. وبعدها ثنائيته مع يوسف بن تاشفين. فكان أن تمخضت تحركاتهما في الصحراء عن قيام الدولة المرابطية. هذه التي كان وراء قيامها علماء أجلاء. فأبو عمران الفاسي المقيم بالقيروان، هاربا من ظلم بقية الأدارسة، هو الذي قابله يحيى بن إبراهيم الكدالي، فشكا له أحوال الصحراويين بخصوص تعاملهم مع الدين، فأرشده إلى تلميذه وجاج بن زلو اللمطي لتدبر الأمر. فاختار وجاج واحدا من أنجب تلامذته هو عبد الله بن ياسين، الذي يوصف بكونه مهدي المرابطين – أو مرشد الثورة بلغة عصرنا الحالي – مما يفيد بأن محمد بن عبد الوهاب النجدي مهدي السعوديين أو مرشد ثورتهم الناجحة ضد الباطل في مختلف صوره وأشكاله. وأين أنا من محمد بن عبد الوهاب النجدي الذي كان وراء تغيير خريطة شبه الجزيرة العربية في زمن، كان الاستعمار الغربي فيه تتلمظ شفاهه لاحتلال كل المناطق العربية، مما دفع بالأتراك عبر محمد علي المصري إلى الدخول في مواجهات دامية مع الدولة السعودية الناشئة للقضاء عليها، وإلحاقها إداريا بمصر، كما تم إلحاق السودان به، إلى حد أنه كان يعرف بالسودان المصري. إنها إذن مفارقة تبعدني عن أن أكون وهابيا على كافة المستويات، فصح أنني مسلم رسالي يرفض الوسائط في كل ما يقول، وفي كل ما يفعل، وفي كل ما يقرر، والرسالي سني على بينة من الرسالة الخاتمة. عليها يشتغل، وفي الدفاع عنها إخلاص لمبدأ التقوى الذي يتمثل في طاعته عز وجل من ناحية، وفي طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم من ناحية ثانية. وحقيقة هنا لا بد من إبرازها، إنها ضرورة الاستفادة من كل عالم نحن على بينة من كونه مخلصا لكتاب الله ولسنة رسوله، مهما يكن اسمه، ومهما يكن لقبه، ومهما تكن كنيته. يعني أنني آخذ عمن شئت من الأئمة، بما فيهم ابن تيمية، وابن القيم الجوزية، وابن الجوزي، والسفيانيان: سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري خصم هارون الرشيد بعد أن كان صديقا له قبل توليه الخلافة! إذ كل الأقوال المبنية على الكتاب والسنة الصحيحة والحسنة، هي أقوالي بصرف النظر عن أصحابها. فأنا ممن يعملون بالمقولة المشهورة: "اجن الثمر ولا عليك في العود"! فإن قال ماركس – على سبيل المثال -: "أفلاطون رئيس طبقة ملاكي العبيد، ولد وهو ينضح بالدم من قمة رأسه إلى أخمص قدميه" رحبت بقوله لمعرفتي بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي عاش فيه أفلاطون. يكفي أن ديمقراطية الإغريق، لم تكن غير ديمقراطية نخبوية تخص الأحرار ولا تخص العبيد! إذ العبيد عندهم برابرة غير متحضرين ولو كانوا مقيمين بأثينا! فإن كنا نحن نعيش قبل الاستعمار في ظل نظام إسلامي، فإن الاستعمار أقدم على إقبار هذا النظام. واستطاع بدهائه وبمكره تهيئة مؤيدين لفلسفته، ولمنهجيته في جعل العلمانية عبر القوانين الوضعية هي السائدة. فجاء حكامنا الجدد – بدون ما استثناء – إلى جانب الأحزاب السياسية العلمانية – لفرض نوعين من المشروعية بعيدا عن أي استفتاء شعبي: مشروعية علمانية، ومشروعية إسلامية على اعتبار أنها حبر على ورق؟ أو على اعتبارها مجرد ذر للرماد في العيون! وأخيرا على اعتبارها تتمثل في أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين! لكنها لا تتمثل في الواقع! وحتى تتعزز في الواقع بما فيه الكفاية من منظور الدولة، تم ضخ دماء جديدة في الفكر الظلامي الديني من خلال مد ممثليه بهبات وأعطيات لأغراض سياسية بحثة. وكنت بداية الثمانينات من القرن الماضي، وبعد الثورة الإيرانية، قد تتبعت ما أقدم عليه حكامنا لتعميق فصل الدين عن الدولة تنفيذا لرغبة أساتذة الغرب المضلين وجلاوزتهم المحليين. ولم يكن غريبا أن نجد العلماجيين اليمينيين واليساريين، يضربون على نفس الوتر. ولم يتخلف الأمريكيون عن تشجيع ما أرادوه من قضاء على الإسلام الحق، فأصبحنا هكذا في واضحة النهار أمام حلف خطير، أقطابه كل من الأمريكيين، والغربيين، والحكام، والأحزاب العلمانية بكافة ألوانها، والقبوريين والطرقيين، وبعض الجماعات الإسلامية التي تصفق لها الجماهير - للأسف الشديد – دون أن تدرك الخطر الذي يشكله انضمامها أو سكوتها عن اعتماد كل وسائل الإعلام لتقوية الفكر الظلامي الديني! فكان أن ألزمت نفسي بالمساهمة في مواجهة هذا الحلف الذي لا أستطيع وحدي مواجهته! ومع ذلك يدعي البعض بأنني وهابي، وبأن وراء تحركاتي الفكرية تقديم عون للدولة حتى تمضي في نفس مواقفها القديمة المنافية لما تدعيه من اعتماد الديمقراطية والمساواة والحرية والكرامة!!! www.islamthinking.blog.com [email protected]