قبل أيام فقط لم يفاجأ الرأي العام بنجاح الاتفاق الثلاثي الذي شمل كلاّ من طهرانوأنقرة والبرازيل بخصوص صفقة التبادل النووي ، بقدر ما فوجئ بموقف واشنطن الذي لم يكتف بمجرد التشكيك في النوايا الإيرانية وعدم الاكتراث للموقف التركي والبرازيلي الذين علّقا أملا كبيرا على نجاح هذا الاتفاق لما له من أهمية على سمعتهما الإقليمية والدولية ؛ بل تقدمت واشنطن بمسودة قرار إلى مجلس الأمن لتشديد العقوبات على طهران ، تكون لو صادق عليها المجلس بمثابة سادس عقوبة تفرض على إيران بخصوص ملفها النووي . كانت واشنطن قد أعدت مسودة لفرض عقوبات إضافية على طهران وسّعت بموجبها من بنود الممنوعات والتي شملت ثمانية بنود من الأسلحة الثقيلة و المعاملات المصرفية والمالية وتصعيد الرقابة على تطبيق العقوبات بإضافة بنود لإدانة الأشخاص والشركات والدول والسماح بتفتيش السفن المشتبه فيها إلخ . وفي الوقت ذاته ثمة ما يوحي بتوقعات فرض هذه العقوبات لمزيد من الضغط على إيران حيث لم يعد بالإمكان التلويح بأكثر من تصعيد العقوبات وممارسة الضغط. وبالفعل ما أن أعلن عن قبول مجلس الأمن بمشروع فرض عقوبات على إيران حتى أشاد أوباما بمشروع القرار فيما لم يعر اهتماما لوثيقة الاتفاق الثلاثي الخاصة بصفقة تبادل اليورانيوم. هذا مع أن البيان الصادر من الرئيس أوردوغان إلى نظيره أوباما يؤكد على أن أمريكا كانت في جو المناقشات التركية الإيرانية وبإيعاز وتشجيع منها. إن الأمريكيين لم يقبلوا بإمضاء النجاح الدبلوماسي الدولي لكل من تركيا وبرازيل. لقد اعتبرت واشنطن في شخص ليمبرت نائب مساعد وزيرة الخارجية الأمر عبارة عن تقرير صحفي. طالبوا أولا أن تقدم إيران وثيقة الاتفاق إلى وكالة الطاقة الدولية. لكن هذا التصعيد لا مبرر له مادام بإمكان الطرف الغربي أن يوفر موقفه إلى حين صدور هذه الوثيقة . ومن شأن هذا الموقف أن يثير حفيظة الأتراك الذين يدركون أن الأمر لا يعدوا تواطأ مع الموقف الإسرائيلي الرافض لأصل الاتفاق. يتحدث ستيفن كوك خبير الشؤون التركية و الشرق أوسطية في مجلس العلاقات الخارجية عن عدم وجود استراتيجيا واضحة في العلاقة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وبين تركيا. ومن هنا تفادي إغضاب الأتراك والاحتفاظ بمجرد التصريح بكونهم شريك استراتيجي. ويبرر تناقض الموقف الأمريكي والتركي بخصوص الإتفاقية بأنهما ينظران نظرة مختلفة إلى القضية. ولا يخفي ستيفن كوك رأيه حول الدوافع التجارية للدور التركي ؛ وذلك بإنجاز صفقة تبادل تجارية تصل بين أنقرةوطهران إلى حدود 11 مليار دولار. بل ثمة موقفان تركيان في نظر كوك : أحدهما براغماتي يتعلق بالتجارة والثاني مبدئي يسعى إلى منح إيران فرصة جديدة. بات واضحا أن الأمريكيين يشككون في الموقف التركي نفسه. وهو التفسير الذي يتبناه الإسرائبيون الذين لم يعودوا يثقون في الموقف والدور التركي. فمثلا يصف ديفيد إغناتيوس في مقال في الواشنطن بوست، بأن الوسطاء المحتملون يأملون تلميع أدوارهم كقادة لحركة عدم إنحياز جديدة. كما يؤكد على أن إيران ، إذا ما استمر هذا التفاوض الضعيف، ستفرض الأمر الواقع وتفاجئ العالم بالإعلان عن امتلاكها كافة العناصر الكافية لصناعة الأسلحة النووية. من جهتها تؤكد إيميلي لا ندوا مديرة مشروع الحد من التسلح والأمن الإقليمي في معهد الدراسات الأمنية الوطنية بجامعة تل أبيب في صحيفة جروزاليم بوست على أن " الاتفاق كله مرتبط بالاقتصاد والسياسة فبدلا من العمل كوسيط بين الغرب وايران حول القضية النووية العمل المعلن لتركيا والبرازيل في جهودهما ، الوثائق الناتجة تدل على ان الدولتين عملتا أكثر كممثاتين لإيران في مواجهة ضغوط الدولة الدائمة العضوية في مجلس الامن والمانيا". وهو موقف يقر به الأتراك ويعتبرونه جزءا من انتصاراتهم السياسية. وبتعبير الكاتب التركي سميح اديزان ، أن رفض إيران للوساطة التركية في بداية الأمر كان قد أغضب الأتراك ولكن بعد قبول طهران بتلك الوساطة اعتبر انتصارا للسياسة التركية تجاه إيران. فهل الأمر يا ترى، يتعلق بمطالب أمريكية تفوق موضوع النووي الإيراني ؟ هذا أمر يبقى واردا ما دام أن واشنطن تطلب من إيران أكثر من صفقة تبادل مادة اليورانيوم وحتى أكثر مما تطلبه إسرائيل ؛ هناك العراق وأفغانستان و موضوع الصراع العربي الإسرائيلي. لقد ساير الروس والصينيون الموقف الغربي هذه المرة لإقرار عقوبات ضد إيران. ويحتفظ الروس والصينيون بلغة ديبلوماسية أقل حدة ترى أن طريق المفاوضات مع ايران يجب تستمر. أما روسيا فهي وإن أيدت مسودة العقوبات الامريكية القاضية بحظر بيع بعض أنواع الأسلحة إلى إيران فهي ترى أن هذا لا يلغي حق إيران في الدفاع عن نفسها. ومن هنا استثنت من العقوبات صفقة تسليم صواريخ س 300 المبرمة سلفا بين طهرانوموسكو وإن ماطلت في تسليمها بتعلات مختلفة. كما لم تتردد هذه الأخيرة في إعلان أن مركب بوشهر الذي يعتبر أول مفاعل نووي بنته روسيا سيبدأ العمل قريبا. وبالفعل سلمت أمريكا بأن صفقة بيع الصواريخ المذكورة بين موسكووطهران هي خارج قرار العقوبات . هذا ثمن مناسب لتنفيع موسكو ولكن بالمقابل حثها على قبول الانضمام إلى حزمة العقوبات الجديدة. تدرك روسيا أن الأمر لا يتعدى مجرد ضغوط لا يمكن أن تنال من الموقف الإيراني. ففي كل فصول اللعبة لا ندري ما هو حجم التطمينات التي تجري في الكواليس بين الفرقاء والأحلاف. هناك فضلا عن كل ذلك ، مستويات من الحرب الباردة في مسار الملف النووي الإيراني. فروسيا التي وقفت حتى الآن إلى جانب حلّ سلمي للملف دون فرض عقوبات ، تجد نفسها اليوم في صف فرض هذه العقوبات بالجملة . وهي بالنسبة للروس الذين يدركون أن هذه العقوبات أقل ما تنال من تصميم إيران على المضي إلى النهاية في موضوع حقها في امتلاك القدرة النووية لأغراض سلمية ، ليست إلا محاولة أبوية لفرك الأذن الإيرانية ، حيث تدرك موسكو أن هذه العقوبات هي منتهى سقف القرار الممكن بالنسبة للغرب للضغط على إيران في أفق تبدو الضربة العسكرية ضد إيران مكلفة إن قلنا غير ممكنة . ولا يخفى على موسكو أنها ليست مع حليف يسلم لها باللعبة كلها ، بل شريك في اللعبة يملك الكثير من الاستقلالية في القرار كما يملك من الأوراق المعلنة وغير المعلنة ما يحول دون عدم وفاء روسيا بالتزاماتها الأخلاقية تجاه حليفها الموضوعي. إن روسيا تدرك أن اللعبة حتى الآن لم تنته . وأنها إن هي وقفت إلى جانب الغرب ستخسر إيران ونفوذها في منطقة آسيا الوسطى ؛ ففي النهاية ثمة أوراق لم تلعب بها إيران حتى الآن : حينما يكون بإمكان استبدال الحليف الأمريكي بالروسي في أسوأ الاحتمالات، يكون الموقف الروسي والصيني الممالئ لإيران ضرورة وليس اختيارا. فالولاياتالمتحدةالأمريكية لم تجازف بحرب ضد إيران ليس نظرا للموقف الروسي أو الصيني ، بل لأسباب تتعلق بالظرفية الأمريكية الداخلية والتي تتعلق بالمنطقة ونظرا لقدرات إيران الردعية التي يمكنها أن تذهب بعيدا في إلحاق أضرار بالمصالح والهيبة الأمريكية. وفي هذه الحالة لا بد من فعل شيء يخفف من حساسية إسرائيل التي تنتظر أكثر من فرض عقوبات على إيران ، بل تنتظر تأييدا لحملة عسكرية تستهدف منشآتها بعد أن بات التقدم العسكري الإيراني يشكل تحديا وجوديا لإسرائيل؛ ربما تعتبر روسيا أن هذا الانحياز الجديد في مستوى التلويح بمشروع قرار العقوبات الجديدة يمثل من جانب موقفا تأديبيا، لأن إيران قبلت بجريان صفقة التبادل خارج أراضيها فوق التراب التركي، بينما كان المفترض في البداية أن يتم فوق التراب الروسي وهو ما رفضته طهران. وقد يبدو الأمر أيضا بمثابة خلق توازن في الموقف الروسي الذي يعزم على إتمام صفقة الصواريخ إلى إيران وتشغيل مفاعل بوشهر. هذا أقل ما يجب أن يبقى على لسان الديبلوماسية الروسية التي تبدو أيضا تستثمر الموقف لتحقيق مكاسب كثيرة مع الغرب. لكن هذا يعزز الموقف التقليدي الايراني الذي لا يعتمد في إدارة الصراع ضد الغرب على الموقف روسيا وحده. فحينما أدركت إيران أن المسألة تتعلق بليّ الدراع، هددت بدورها بالانسحاب من الاتفاق الذي أبرمته مع كل من تركيا والبرازيل. ذلك في حال ما إذا أقر مجلس الأمن بحزمة العقوبات التي لوح بها الغرب. وكانت إيران على لسان مجتبى ثمرة هاشمي مستشار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد فيما نقلته وكالة الأنباء الإيرانية فارس، قد اعتبرت مشروع قرار مجلس الامن بفرض عقوبات إضافية على إيران غير شرعي . هناك إذن ، ما يدعو للتساؤل: إن كانت واشنطن بصدد تغيير سياستها تجاه إيران ، كيف تظهر سوء النية من الاتفاق الثلاثي، وتسدد صفعة للدبلوماسية البرازيلية والتركية التي باركها الغرب في بدايتها. هل الأمر يتعلق بأصل صفقة تبادل لبعض مخزون إيران من اليورانيوم؟ فثمة من داخل المنظومة التفاوضية الغربية من يرفض ذلك أصلا ويطلب من إيران أن تتخلى رأسا عن مشروعها النووي. يتحدث مثلا جيمس وولسي المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات الأمريكية عن خطأ السياسة التي ينهجها أوباما بخصوص منع انتشار الأسلحة النووية. إذ لا ينفع هذا التقسيط في موضوع السياسة النووية. التمييز بين النووي العسكري والنووي السلمي لا قيمة له في منع الانتشار . لذا يرى أنه لو " قامت دولة بتخصيب اليورانيوم بدرجة 3 في المائة . وهي الدرجة التي تناسب تشغيل مفاعل لإنتاج الكهرباء . فإنها تكون قد أنجزت ما يقارب ثلاثة أرباع العمل المطلوب للاتجاه نحو التخصيب بدرجة 90 في المائة. وهي الدرجة المطلوبة لتصنيع قنبلة نووية". ويضيف قائلا :" إذا ساعدت أمريكا على انتشار الماء الخفيف وبناء عليه انتشار اليورانيوم المخصب في أنحاء العالم تحت مسمى الطاقة الذرية السلمية فإن ذلك يؤدي الى مشكلة ضخمة وخطيرة" . وعليه يعتبر جيمس وولسي أننا نحن الأمريكيين لن نكون أذكياء إذا سلكنا هذا الاتجاه الذي سلكه أوباما. إن هذا الأخير في نظر جيمس يعمل على انتشار السلاح النووي من خلال سياسته القاضية بحظر انتشاره. وهذا ليس إلا مثالا عن قسم من الأمريكيين يشاطرون إسرائيل نظرتها في منع إيران من حكاية النووي سلميا وحربيا على السواء. لكن ما هو واضح ، أن الأمر يتعلق بتداخل انشغالات الإدارة الأمريكية . إن السياق الزمني هذه المرة يقتضي ممالآت البيت الأبيض لإسرائيل التي سبقت إلى الاستياء من الاتفاق الثلاثي المذكور. فالبيت الأبيض يجد نفسه اليوم في حاجة إلى تأكيد نواياه الحقيقية من أمن إسرائيل ومصالحها. وهو ما يفسر انطلاق ماكينة التطمين الأمريكي لإسرائيل كما أظهرته جملة من التحركات التي اضطلعت بها الحكومة الجديدة في البيت الأبيض. فقد سبق أن استضاف أوباما وفدا مكونا من 37 عضوا يهوديا من الحزب الديمقراطي في الكونغرس في مكتبه البيضاوي ، حيث أطلعهم على مسودة القرار الأخير بتشديد العقوبات على إيران. ثم ما لبت أن التقى أوباما مع إيلي وايزل الإسرائيلي الحائز على نوبل بعد أن احتج هذا الأخير على واشنطن في موقفها الأخير من مسألة القدس . كما قررت الإدارة الأمريكية تزويد إسرائيل بدعم مالي قدره 205 ملايين دولار لإنجاز منظومة الدفاع الصاروخي الجديد (إيرون دوم) .لا أحد يملك أن يقول أن من يرسم السياسة الأمريكية هو وحده المستر أوباما . وحتى داخل القدر الذي يملك فيه هذا الأخير حق التصرف ، فإنه يجد نفسه أمام جملة من الاستحقاقات ، لا سيما الحزبية منها ، يجب الوفاء بها: ما الذي يتبقى من مبدئية في ضمير الموقف الأمريكي إذن؟ يمنح هذا الوضع فرصة لإيران بأن تربح شيئا من الوقت ، لأن قدر الانتخابات النصفية للكونغريس الأمريكي على الأبواب. وهي لحظة صعود نجم قوى الضغط اليهودي في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبالتأكيد، سوف يجد الديمقراطيين أنفسهم مندفعين لإرضاء هذه القوى حتى النهاية. وفي الوقت نفسه تلك هي فرصة إسرائيل للعب بورقة الانتخابات الأمريكية. هنا تبدو السياسة الأمريكية الخارجية بما فيها الأكثر دراماتيكية في الشرق الأوسط ، ما هي إلاّ امتداد طبيعي للسياسة الداخلية. أوراق جديدة في اللعبة وأخرى لم تظهر بعد بدأ الإحساس كبيرا لدى المراقبين واللاعبين الأساسيين في مسرح الأحداث في الشرق الأوسط بطبيعة التحولات التي تشهدها المنطقة والسياسات. لا أحد يشك أن المستقبل يعد بالكثير من المفاجآت التي يمكن استيعاب بعض صورها الممكنة من خلال ما يمكن أن تسفر عنه سلسلة الأحداث الجارية اليوم. ويمكن للمراقب أن يشخص بعضا من تلك التحولات كما يمكنه أن يحدس بعض مآلات الأحداث في المستقبل القريب والمنظور. فمن تلك التحولات ما هو سياسي ومنها ما هو استراتيجي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو جغرافي ومنها ما هو ثقافي. لا نتحدث عن استقراء تام بل عن نماذج يمكن الوقوف على كثير من مؤشراتها. هناك تحولات أصابت السياسات في المنطقة تبعا للتطور الطبيعي للصراع في المنطقة وانعكاسا لتحولات موضوعية في العالم . ثمة دول برزت فجأة في سير الأحداث وتناقضاتها لم يكن لها شأن في الصراع العربي الإسرائيلي مثل قطر وأخرى اختفت نهائيا من واجهة الأحداث كما هو وضع أغلب الدول العربية وثالثة رجعت إلى مراتب دنيا في التأثير مثل مصر . وبعض السياسات شهدت تحولا بارزا مثل ليبيا التي بادرت وشكلت محور جدل في قضايا مثيرة لكنها ليست مؤثرة إقليميا أو دوليا. إسرائيل تنهج سياسة خطيرة وحرجة في الوقت نفسه، إذا ما وضعت في سياق الأحداث. فهي تبدو أكثر ارتباكا من الناحية السياسية نظرا لكونها مطالبة بتغيير إستراتيجيتها. إسرائيل التي تملك مشروعا استراتيجيا متينا تجد نفسها مضطربة لأنها تواجه تحدي التغيير الاستراتيجي وليس نتيجة فراغ استراتيجي. تسعى إسرائيل على إيقاف هدير الواقع المتحول في المنطقة لتحمي إستراتيجيتها الدفاعية التقليدية التي اختطها وأرساها وايزمان كما أدت مفعولها بنجاعة قبل حرب تموز الأخيرة. بينما العرب الذين لا يملكون هذه الإستراتيجيا لا يبدو على سياستهم الارتباك، فهم يتفرجون لأنهم لا يصنعون الأحداث. وقد اعتادوا أن يسلموا بكل النتائج التي يصل إليها الفاعلون الكبار . وكما أن العرب لا يتأثرون بالأزمات الاقتصادية الدولية إلا تأثيرا قليلا في أحسن الأحوال لأنهم يعيشون على هامش الدينامية الاقتصادية الدولية في مستواها الأرقى كذلك لا تؤثر التحولات السياسية الدولية في سياساتهم إلا تأثيرا وظيفيا مقصودا، يتبنّون بموجبه دورا ما مكملا للسياسات الدولية. يضاف إلى ذلك جملة التحولات الإستراتيجية التي طرأت على المنطقة وغيرت من معادلة الأحلاف والمواقف الإستراتيجية لكثير من الدول. اليوم، يلاحظ وجود سير تركي حثيث يعانق مواقف جبهة الممانعة. كانت تركيا قد وصلت إلى اللحظة التاريخية الحاسمة لبدء تحولها الاستراتيجي باتجاه المنطقة كما ترجم توجهها ذاك في أكثر القضايا العالقة بدء من القضية الفلسطينية إلى دورها في النقاش الجاري حول الملف النووي حتى المؤتمر حول الصومال الذي دعت إليه أخيرا أنقرة. هناك إحساس ما لدى اللاعبين في الشرق الأوسط أن تغيرات كبيرة هي لا محالة قادمة ويجب التسابق فيها نحو المواقع الجديدة في المعادلة المقبلة. فالممانعة حتى الآن لم تخسر بل استقطبت داعمين أو وسطاء يتحدثون باسمها في مواقع الاعتدال نفسه. إسرائيل القوية عسكريا وسياسيا تجد نفسها اليوم أسيرة استراتيجيا وايزمان الأمنية التي آن لها أن تخضع للتغيير. لكن هل الزمان يسمح لتحقيق إستراتيجيا بديلة؟ بالنسبة إلى إسرائيل لم تكن إستراتيجيا وايزمان خيارا، بل كانت حتمية لا بديل عنها؛ قصة نكون أو لا نكون. وهذا سبب ارتباك إسرائيل. إنها تتجه اليوم إلى تفعيل وشائج الحماية وستضطر اليوم أن تتحرك دوليا لتأمين وجودها من خلال اعتماد سياسة التدخل الأمريكي. إن المعادلة الاقتصادية نفسها تشهد تحولا كبيرا دوليا وإقليميا. فالأزمة الاقتصادية الأوربية والأمريكية لا تسمح بسياسات التدخل. والانهيارات الاقتصادية الغربية مؤشرها في وضعية اليونان وما يعد به الوضع لحالات شبيهة ومحتملة قد تصيب إسبانيا ومثيلاتها فضلا عن المتوقع من انهيارات في أسواق مال أمريكية أخرى من شأنها أن تجعل كسر الجبهة السياسية الغربية أمرا مؤكدا بما أن الأزمة لا تسمح بمتانة هذه الجبهة على الصعيد الاقتصادي. فحاجة الأوربيين إلى استقرار المنطقة يفوق ما يمكن أن تؤمنه إسرائيل، إذا ما غامرت بحرب لن تستقر عندها المنطقة ، على الأقل في المستقبل القريب حيث سيؤدي الوضع إلى ارتفاع مهول في سعر برميل النفط الذي سيدعم الموقف الاقتصادي الإيراني. إنها معادلة صعبة وحدها تفسر حقيقة الارتباك في الموقف الغربي تجاه الشرق الأوسط. الدعم الغربي لإسرائيل له سقف لا محالة. وهو موقف مصلحي وليس مبدئيا. فهل بإمكاننا الظفر بالموقف الغربي نفسه حينما تصبح نتيجة الحرب في الشرق الأوسط تهز مصائر الاقتصاد الغربي وتقوده إلى انهيارات أفظع من قبولهم بتغيير اللعبة. أجل، إن إسرائيل لا تملك أن تخوض حربا من دون إقرار أمريكي . ولكنها أيضا لا تملك أن تسلم بالتطور الذي تشهده المنطقة اليوم في صورة تنامي قوة الممانعة وعودة التوازن في الردع الذي يعني حسب الإستراتيجيا الإسرائيلية شيئا واحدا: اختلال التوازن. حينما يداهمنا الواقع بمعطياته الثقيلة ، فإن القوي لن يحسن أكثر من الظهور بمظهر طفولي. اللّعب بين الكبار وأجمل فرجة للعربية لم يعد مجديا مساءلة العرب حول ما يلزم إنجازه إزاء ما يجري حولهم وداخل فنائهم. لقد افتقد العرب كل زمام المبادرة ؛ لا بل كل أشكالها الدنيا. قد نستثني سورية في هذا المجال لأنها راكمت الكثير من المبادرات ولعبت السياسة مع الكبار في محطات كثيرة. هناك دول تسعى لتمثل هذا الدرس السوري بوسائلها الخاصة وإمكاناتها المحدودة وذلك أضعف الإيمان. فكما أن الصراع العالمي الجديد لم يعد بالضرورة صراعا بين دول ؛ إذ كان متوقعا أن قوى جديدة ستلعب داخل المسرح الدولي حصرتها الولاياتالمتحدة في المنظمات الإرهابية العابرة للحدود ، فإن قوى الممانعة هي الأخرى وجدت نفسها في مقام تجاوز مفهوم الأحلاف بين الدول لتصبح أمام واقع جديدة تتحالف فيه الدول الممانعة مع القوى المقاومة. ويبدو أن إسرائيل تراقب مصر بشكل دقيق للغاية. فهي تسعى أن تشغل مصر بقضايا جانبية كلما تهيّئت شروط استعادة مصر لدورها القومي: ليس مشكل مياه النيل الذي أثير مؤخرا مع مجموع دول أفريقية على ضفافه، سوى ملهية إسرائيلية قدمت لإشغال مصر إلى حين. ففي الجانب العربي الذي يبدو غائبا من هذا الحراك الذي يجري داخل إقليم يشكل جزء من جغرافيته كما يتعلق بمصيره . وهو غياب في المشاركة والفعالية. كل العرب عاجزون أن يقوموا بدور يشبه الدور التركي ، إن لم يكن للتدريب على الديبلوماسية ، فليكن على الأقل من أجل تعزيز الثقة. مع أن هذا الموضوع يشكل فرصة العرب لكي يطووا صفحة غياب الثقة بينهم وبين إيران. ولكن يظل السؤال ما الذي يخيف العرب من النووي الإيراني وهو التخوف الذي لا تشعر به تركيا الجارة لإيران ولا سوريا العربية العروبية ولا قطر الخليجية؟ تبدو أكثر المبررات تداولا هي التي تتعلق بالخوف من تمكن إيران من بسط هيمنتها على دول الخليج. أو التخوف من المخاطر البيئية الناجمة عن حوادث محتملة على غرار ما حصل مع تشيرنبيل. ولا أجد في الحقيقة أسخف من هذه التبريرات. فمن ناحية مبدئية لا يوجد من يؤكد أن الأمر يتعلق بتطوير أسلحة نووية في إيران . وكل ما في الأمر أن هناك سعي لامتلاك التقنية النووية لأغراض مدنية. وهو مطلب كثير من الدول بما فيها العربية. غير أن الأمر هنا يدعوا للتأمل. فالخوف من أن تهيمن إيران على الخليج بامتلاكها النووي، لا يمكن تصوره إلا في حال سلمنا بوجود توازن في الردع بين إيران ودول الخليج سلفا. والواقع أن إيران قادرة على ممارسة هذه الهيمنة لو أرادت بمستوى ما تتوفر عليه من قدرات عسكرية اليوم دون الحاجة إلى النووي. فإن كان الحديث عن فقدان التوازن بوجود النووي فهو أمر يتعلق بالتوازن العسكري بين إيران وإسرائيل. فهل هذا يخيف العرب؛ بالمعنى الذي يفهم منه أن في ميل الكفة إلى جانب الردع الإسرائيلي مصلحة للعرب؟ مثل هذا صرح به كثيرون تحت مبرر أن إيران أخطر من إسرائيل بهذا الخصوص. فالتوازن في الرعب النووي يمكن إيران من حرية التصرف أكثر في المنطقة؛ إذ يمكنها أن تحبك علاقات توازن دولي وعقد صفقة مع الغرب لممارسة الهيمنة. وهذا تخوف في غير محله ، لأن الهيمنة حاصلة من غير إيران في منطقة لا تملك قرارها السياسي والاستراتيجي. غير أن ما يغفله العرب أن الوصول إلى مثل هذه الصفقات يمكن أن تحققه إيران من دون تكلفة مشروع نووي يشكل عبئا عليها. يمكنها أن تحقق ذلك بمجرد أن ترفع يدها عن القضية الفلسطينية. فأمريكا يمكنها أن تتحالف مع " الملالي" بتعبير خصوم إيران ، إذا تخلّى هؤلاء عن التدخل في المسألة الفلسطينية وفي مصالح الغرب في الخليج نفسه. ويبقى الخوف من الحوادث البيئية المترتبة على وجود نشاط نووي في المنطقة أبعد من كل التعلات السابقة. فالعرب لا يتحدثون عن المخاطر البيئية لمفاعل ديمونا الذي يحكى عنه في مجال الصيانة بما لا يطمئن أنصار البيئة بمن فيهم الإسرائيليين. علما أن المخاطر المحتملة في هذا المجال ليست مرتبطة حتما بالصناعة النووية العسكرية بل هو نفسه الخطر الذي يمثله أي مشروع نووي مدني. فهل يجب أن يتخلى العالم حتى عن النووي لأغراض سلمية لأسباب بيئية؟ يبدو أن العرب يطالبون بما ليس من حقهم. ولكن يبقى أن نؤكد على أنه حينما يلعب الكبار لن يبقى للعرب سوى الفرجة. [email protected]