العمل أساس الحياة، فلا حياة لمن لا عمل له، بل لا حياة لمن لا مهنة له. و بطبيعة الحال لا حياة لمن منع من مزاولة مهنته ظلما. فالمنع من مزاولة المهنة -بالنسبة للشرفاء النزهاء طبعا- له وقع يكاد يكون أشد من وقع حكم الإعدام في حق كل مظلوم يؤمن بالله الواحد الأحد ربّا و بمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا و رسولا. أما المهن فهي كثيرة و متعددة و منها على سبيل المثال مهنة القضاء و مهنة السلطة. حسب ما علم، كتب قاض وفيّ لمهنته خاطرة، فانطلقت سلسلة متاعبه، و التهمة ما جاء في كتاب كتبه، مقالة أو خاطرة، لا يهم. فكتب الأستاذ حكيم الوردي على صفحات جريدة هسبريس الإعلامية مقالا مميزا و موفقا مناصرا للقاضي الكاتب تحت عنوان "حكيم الوردي..مرافعة قاض عن قضاة الرأي المتابعين"، و مما جاء فيه: "من ذكر اسم المشتكي في الخاطرة؟ من قرأها أصلا من القضاة ؟ من فهمها؟ من فسرها وأولها ؟ من توصل إلى أن المشتكي هو المعني بها؟ ألم نسيء إليه بهذا الملف؟ ألم نحشره حشرا في ثنايا السطور؟" قاضي يكتب فيعاقب، ولكن قاض آخر ينتفض فيكتب كذلك للدفاع عن الحق في الكتابة بالنسبة للقضاة. القاضي الأستاذ الكاتب قاض محظوظ جدا لأنه وجد قضاة أكفاء يدافعون عنه، ليس كرجل السلطة ذاك الذي كتب في سنة 2002 –في انسجام مع "المفهوم الجديد للسلطة"- مجرد رواية خيالية فتم التشطيب على اسمه من جميع الهواتف المحمولة من طرف جل معارفه الذين يمتهنون نفس مهنته. و لم يخرج ولو رجل سلطة واحد ليكتب مصرحا بأن الحق في الكتابة حق مكفول قانونا. و لو رجل سلطة واحد. التزم الجميع سكوتا رهيبا أدخل رجل السلطة الكاتب في عزلة قاتلة. نعم، كان ذلك سنة 2002 رغم الإعلان عن "المفهوم الجديد للسلطة"، و لكن قبل الربيع العربي و حركة 20 فبراير و ما ترتب عنها من دستور جديد سنة 2011. أيها القضاة الكتّاب، و يا معشر القضاة الأكفاء المدافعين عن القضاة الكتّاب، لقد أكلتم لما أكل الثور الأبيض سنة 2002 و لم تحركوا ساكنا إلا من حكم ابتدائي ملغوم، ثم حكم استئنافي يقضي بعدم قبول الدعوى أي بأحقية منع رجل السلطة الذي كتب رواية من مزاولة مهنته، و يا ليث الحكم قضى بالإعدام لأن الإعدام أهون على المرء النزيه البريء من منعه من مزاولة مهنته. لم تتم عملية رد الاعتبار بعد لرجل السلطة الذي كتب رواية سنة 2002 رغم الإعلان عن "المفهوم الجديد للسلطة" منذ سنين عدة، فكيف لكم أيها القضاة الأكفاء أن تطالبوا بأحقيتكم في الكتابة اليوم رغم عدم الإعلان عن "المفهوم الجديد للقضاء"؟ ألأن الوزير ينتمي لحزب العدالة و التنمية...، أم لأن الدستور جديد؟ ولكن الدستور الجديد لم يأت بجديد يلفت النظر في قضية حرية التعبير بالنسبة للموظفين العموميين، رجال سلطة كانوا أم قضاة. فالدستور القديم كما القانون القديم كانا يسمحان لرجال السلطة و للقضاة أيضا بكتابة الخواطر و الروايات و الأبحاث العلمية... فما الذي تغير في هذا الشأن؟ فهل الدساتير و القوانين تحمي القضاة النزهاء و حدهم و ليس رجال السلطة النزهاء؟ ألهذا تنتفضون لما ينتهك حق من حقوق قاضي مظلوم و لا تحركون ساكنا لما ينتهك حق من حقوق رجل سلطة مظلوم؟ أم لأن القاضي يجسد "العدل" و رجل السلطة يمثل "المخزن" في كل الأذهان...؟ هل من جواب و أنتم العالمون العارفون بأن لا إصلاح قضائي بدون إصلاح إداري، فالإصلاح القضائي يمر عبر الإصلاح الإداري و ليس العكس، لأن لكل بلد خصوصياته... لا القضاة النزهاء و لا رجال السلطة النزهاء يكتبون ضد النظام،لا أبدا والله، بل يكتبون من أجل الإصلاح في إطار حرية الرأي. فلما يعاقبون شر عقاب؟ يومه الجمعة 16 مايو 2014، خطبة الجمعة. الموضوع : الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. المطالبة بالإصلاح و عدم السكوت عن الفساد ولكن بطريقة لينة مؤدبة... فالتغير باليد من اختصاص أولي الأمر، و التغيير باللسان من اختصاص الجميع شريطة المعرفة و أن يكون اللسان لينا لطيفا...طيب. طيب. فما بال بعضهم يؤدبون من كتب مثلا بأن الرشوة تنخر الإدارة أو القضاء دون ذكر أسماء المرتشين...؟ كيف ننهى عن منكر الرشوة و المحسوبية و غياب الشفافية و نهب المال العام إذا أقفل باب الحوار الداخلي أو إذا وجد "الموظف-القاضي" أو "الموظف-رجل السلطة" كل الأبواب موصدة مقفلة ؟ هل يكتب مقالا مؤدبا لينا لطيفا للنهي عن المنكر أو يصمت خوفا من العقاب الشديد؟ من 2002 إلى 2014 لا شيء تغير. ما زلنا ندور في حلقة مفرغة. كاتب 2002 ما زال ينتظر رد الاعتبار و كاتب 2014 في بداية مشوار محنته. فإلى أين و إلى متى...؟ هذه مرافعتي لفائدة الأستاذ القاضي الذي كتب و الذي أتمنى أن لا يفقد مهنته كما فقدها رجل سلطة كتب من قبل ففقد مهنته فحياته...، فلا حياة لمن يمنع من مزاولة مهنته. أما السيد وزير العدل فلا يجب تحميله ما لا طاقة له به...، و السادة القضاة أدرى بمقتضيات الدستور و بمقتضيات القوانين و ربما الأعراف التي تحدد الاختصاصات... فهل تحتاج المسألة إلى إبراز مقتضيات القانون أو إلى مناقشة في شأن روح الدستور...؟ لا أكيد، المشكل يكمن في إرادة الإصلاح المترددة أو التي ربما لم تنضج بعد. فإذا كان القانون يسمح للقضاة و لرجال السلطة بالكتابة، و الخطاب الرسمي يقضي بضرورة محاربة الرشوة و نهب المال العام و المحسوبية، و إذا كان كل من كتب عن المحسوبية أو الرشوة أو نهب المال العام، و كان قاضيا أو رجل سلطة، يعاقب شر عقاب، فلم لا سن قانون صريح يمنع منعا كليا من الكتابة كل من كان قاضيا أو رجل سلطة ؟ فلو كان هذا القانون موجودا لما ضاعت حياة موظفين شرفاء صدّقوا الخطابات، فبعثرت حياتهم و دمرت و صارت كلها عذابا يتجلى في أمل زائف أو في وهم إنصاف أو رد اعتبار لن يأتي أبدا... سن قانون المنع من الكتابة بالنسبة لرجال السلطة و القضاة سيكون أقل ضررا على سمعة البلد (-على الصعيد العالمي، و على الصعيد الداخلي أيضا لأننا في حاجة لحب الوطن من طرف جميع أبناء الوطن-) من قانون يسمح بالكتابة و لا يطبق، فيهان قضاة نزهاء و رجال سلطة نزهاء، و يعزلون و يهمشون و يحالون على المجالس التأديبية و المحاكم و المحاكمات كما لو كانوا مخطئين أو مجرمين... فإذا كانت الأوضاع في البلد لا تستحمل بعد حرية التعبير و الرأي بالنسبة لرجال السلطة و القضاة، فمن الشجاعة أن نقر بهذا و أن نسن قانون المنع بالنسبة للقضاة و رجال السلطة إلى حين، حتى لا يشعر أحد منهم بالغدر أو بالغبن، و ذلك لأن رجال السلطة النزهاء و القضاة النزهاء لا يخرقون القانون