التفاعلُ مع القضايا الثقافية والدينية والسياسية ..إلخ؛ التي قد تؤثر سلبا أو إيجابا على صيرورة مجتمعنا، حالة صحية، بل وضرورية بكل تأكيد؛ من هذا المنطلق، أجد نفسي كما الآخرين أيضا، معنيا بأن أدلي بدلوي فيما أتصور أنه قد يساهم في ترسيخ قيم المجتمع المدني والديموقراطي، من خلال توضيح بعض الرؤى والمفاهيم الدينية؛ خاصة بعدما صار ذلك ممكنا عبر هذا الموقع الذي يستحق منا وافر الشكر. في هذا الإطار تناولت في مقالتين سابقتين مسألة إمكانية "تقويم الدين"، وكان ذلك في سياق سجال فكري مع بعض السادة الكتاب، الذين رأوا أنه لن ننطلق إلى الأمام ما لم نفك أنفسنا من قيود الدين التي تكبلنا!! أقف هنا عند بعض الجوانب التي تمت إثارتها في المقال الأخير المعنون ب "نعم يمكننا تقويم ديننا إن تحلينا بصدق النية"؛ محاولا بسْط ذلك من خلال النقاط التالية:أولا:سأتجاوز التشخيص، وأكتفى عند الضرورة بذكر لفظ "الكاتب" وذلك لاعتبارات أراها موضوعية، أولاها: لأن المهم في نظري التركيز على مناقشة الأفكار؛ ليبقى ذهن القارئ منتبها إلى الفكرة محلِّ النقاش، وليس إلى اسم هذا الشخص أو ذاك؛ وثانيها: لتجاوز حالة الرد، والرد على الرد؛ وثالثها: أنني لم ألمس عمقا فكريا في القضية التي تم على أساساها الدعوة إلى "تقويم الدين"؛ وسيجد القارئ مبررات ذلك فيما سيأتي من أسطر؛ لذا لم أكن لأكتب هذا الرد، لو لم يأتي الكاتب على ذكر اسمي في مقالته. ثانيا: قضية "تقويم الدين" بالمفهوم الذي تم طرحها به، والذي يعني تغيير بنية الدين الأساسية، لا تدخل طبعا فيما هو من قبيل المستحيل العقلي بمفهوم المناطقة، وإنما هي من قبيل ما يستحيل عادة؛ من هذا المنطلق رأيتها فكرة ساذجة تفتقد إلى عوامل النجاح الموضوعية. ثالثا:لمَّا أقف عند قضية "تقويم الدين"، على أساس أنها مشروع نظريةٍ يرومُ إصلاح المجتمع، فإني أفحصها وأسائلها من جانبين رئيسيين على الأقل، هما، أولا: ما هي الأسس الفكرية والعلمية التي قامت عليهما هذه القضية؟ وثانيا: كيف يمكن أجرأتها وتحويلها إلى واقع عملي يراعي جميع الحيثيات التي قد تعمل على إنجاح هذه القضية أو إفشالها؟ كلا الأمرين لم ألحظهما بما فيه الكفاية فيما تفضل به الكاتب حول هذه القضية "تقويم الدين"، بل لمست في المقابل ما بدا وكأنه شُح في المعرفة، أو على الأقل، تركيز النظر على زاوية معينة، أو تعصب لاتجاه محدد؛ وبدا ذلك واضحا من خلال الاستشهاد بمستشرقين مُعيّنين، أو من خلال تكرير الدعوة إلى ضرورة تخليص الضمائر من المنكر "حسب تعبيره" الذي فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام. رابعا:شح المعرفة بدا واضحا من خلال تصريح الكاتب بأنه لم يفهم القرآن حقيقة الفهم إلا على يد بعض المستشرقين الألمان، حيث قال:" أما فهمي له "القرآن" حق فهمه فيعود إلى سنوات دراستي العليا بألمانيا حيث اكتشفت أعمال سلسلة من المستعربين المتخصصين في دراسة وتدريس تاريخ الإسلام، نشروا ثمرات جهودهم فيما بين القرن التاسع عشر وبداية العشرينات من القرن الماضي. لقد حللوا ودرسوا القرآن بمنتهى الدقة والإتقان (خصلتان ألمانيتان) ليقفوا على ما يشوب نصه من نقائص نحوية وإنشائية كان المسلمون أنفسهم قد سجلو بعضها في كتب وبمخطوطات متفرقة لم تكن بمتناولي بالمغرب" انتهى.وقفة منهجية قصيرة مع هذا المقطع، تكشف لنا بوضوح عن الهشاشة المعرفية والفكرية التي تمثل منطلق الكاتب في طرحه لقضية "تقويم الدين". أستغرب كون الكاتب يدعونا لتخليص ضمائرنا من نصوص القرآن؛ في الوقت الذي يستسلم هو لنتائج أبحاث حول القرآن الكريم، بُنيت على مناهج استشراقية قديمة، تم تجاوزها ولم يعد من الممكن التسليم بها على هذا النحو الاعتباطي حتى من قبل المستشرقين المعاصرين أنفسهم !! كما أستغرب كون الكاتب قبل بفكرة أن المستشرقين الذين تعلموا العربية كلغة أجنبية عنهم، قد اكتشفوا أخطاء أسلوبية ونحوية في القرآن الكريم، في الوقت الذي غاب ذلك عن فطاحل علماء النحو واللغة أمثال سبويه والكسائي والفيروز آبادي وغيرهم؛ فضلا عن الصحابة وعموم العرب، الذين كانت العربية سليقة لهم .. إلخ. لم يسَمّ لنا الكاتب هؤلاء المستشرقين الألمان الذين درسوا القرآن بمنتهى الدقة، واكتشفوا ما في نصه من نقائص نحوية وإنشائية على حد تعبيره!! وأفترض أنه يقصد بذلك المستشرق الألماني الشهير في هذا المجال وهو: تيودور نولدكه (Theodor Nöldeke 1836-1930) صاحب كتاب "تاريخ القرآن- Geschichte des Qorans". فِعلا، يعتبر نولدكه أبا للاستشراق الألماني، بل وأحد أعمدة الاستشراق الغربي عموما، وهو مصدر في هذا الجانب، إلا أن بعض النتائج التي انتهى إليها نولدكه، وقبِل بها كاتبنا بمنتهى التسليم والرضى، ليست محل إجماع ولا تسليم من لدن المستشرقين أنفسهم؛ ذلك لأن نولدكه بنى كتابه على المنهج الفلولوجي؛ وقد تراجع منذ العقود الثلاثة الماضية، فاسحا المجال أمام منهج الفهم "Hermeneutik"، الذي يُراد منه الوصولُ إلى فهم أكثر عمقا يتجاوز مجرد المقارنة التي اعتمدها نولدكه وغيره من مستشرقي تلك الفترة، وجعلتهم يبنون كثيرا من آرائهم على مجرد التخمين والتكهن؛ ولْنَتأمّل ذلك من خلال النص التالي:يرى نولدكه مثلا أن، لفظة إقرأ الواردة في قول الله تعالى "اقرأ باسم ربك" لا يمكن أن تكون عربية، لأنها حسب رأيه لفظة حضارية لا تناسب حالة البداوة العربية حينها، ومن ثَمّ يغير معناها إلى: "عِظ"؛ يقول نولدكه:"وبما أن كلمة حضارية مثل (قرأ) لا يمكن أن تكون كلمة سامية قديمة، يجوز لنا الافتراض أنها انتقلت إلى بلاد العرب من الشمال على الأرجح، حيث يبدو أن معنى الكلمة الأصيل، (نادى)، ما زال حيا حتى الآن في اللغتين العبربة والآرامية. اللغة العربية لا تعرف الكلمة بهذا المعنى. وبالرغم من أن هذا المعنى ما زال محفوظا في العبارة المعروفة "قرأ على فلان السلام" و "قرأ فلانا السلام"؛ فإن الارتباط الوثيق القائم هنا بين (قرأ) وكلمة التحية (شالوم) بالآرامية يشجع على الظن أن العبارة كلها مأخوذة من هناك، حتى لو كان وجودها لم يثبت في اللغة الآرامية القديمة حتى الآن. وإذا كانت كلمة "إقرأ" في سورة العلق قد تعني فعلا "عظ" فالحكم نفسه ينطبق عليها أيضا" انتهى. تاريخ القرآن. ص 31. هذه بعض من آثار المنهج الفيلولوجي الذي اعتمده نودلكه، حيث رأى أن "قرأ" لفظة حضارية لاتناسب العرب البدو في تلك الفترة، فرفض أن تكون كلمة عربية، وراح يقارنها باللغة الآرامية، وحيث لم يجدها هناك، حول معنى قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك" إلى معنى "عظ" ليسحب عنه معنى التعلم والقراءة، اللذان يفيدهما معنى اقرأ. !! أهذه هي الدقة التي يفتخر بها كاتبنا العزيز ويرى أنها تمثل الفهم الصحيح للقرآن؟! إن ما كتبه نولدكه وغيره من مستشرقي تلك الفترة حول القرآن الكريم، ومنهم جولد زيهر 1850-1921؛ الذي رأى أن خلو خط القرآن من النقط والشكل كان السبب في اختلاف القراءات القرآنية، وهو نفس الكلام الذي ردده أيضا كاتبنا في مقاتله، وبناء عليه رأى أن مسؤولية سوء الفهم لا تقع على عامة المسلمين، وإنما تقع على من أملى هذا القرآن، ومَن خطه وكتبه؛ ومَن جمعه بشكل عشوائي على حد تعبيره؛ ..إلخ. أقول: قد تمت مناقشة هذه الآراء بشكل علمي مستفيض من قبل كثير من العلماء المسلمين، منهم على سبيل المثال: د/عبد الفتاح إسماعيل شلبي، في كتابه: "رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات" ط/1966؛ لكن لأن كاتبنا أعوزته الأمانة العلمية، سمح لنفسه بأن يقدم لنا ذلك العبث على أنه حقائق علمية؛ في الوقت الذي تجاهل موقف العلماء المسلمين وتفسيرهم لهذه المسائل ..إلخ. إن المنهج العلمي السليم يفرض على كاتبنا أن يأتي موضوع القراءات القرآنية من أبوابه الرئيسية، أي أن يحاول فهمه من خلال مصادره الإسلامية أولا، خاصة وأنه ناطق بالعربية، ثم لا مانع، أن يطلع على رؤى الآخرين حول المضوع، بل مطلوب منه أن يفعل ذلك، رغبة في توسيع المدارك المعرفية؛ وأن يقارن بين ما تم بسطه في الموضوع؛ أما أن يتلقف عبارات بعض مستشرقي الفترة الاستعمارية بكامل الرضى والتسليم، ودون مناقشة لأدلتها، ولا يرى أنه رهن عقله لهذه الآراء؛ في الوقت الذي يرى أن غيره فقط من قيد ضميره بنصوص الوحي، ..إلخ؛ فهي بحق مفارقة عجيبة يكشف عنها كاتبنا..!! إن الاستشهاد فقط بمستشرقي أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين حول ادعاء أخطاء في القرآن الكريم، سيزيل عن صاحبه صفة العلمية من دون شك، ذلك لأن كثيرا من تلك الآراء، جاءت في سياق ظروف غابت عنها كثير من الشروط العلمية، فقد ارتبطت بالحملة الاستعمارية الغربية على العالم الإسلامي؛ كما كان للكنيسة دور كبير في صرف تلك الأبحاث عن الغايات العلمية والمعرفية المحضة؛ ينضاف إلى هذا أن كثيرا من مستشرقي تلك الفترة كانوا أنفسهم مشبعين بروح الغرور وإطلاق الأحكام الجزافية؛ وهذا ما بدى واضحا من خلال نص نولدكه السابق، حيث رأى أن لفظة "إقرأ" حضارية لا تناسب أولئك البدو ..!!؛ وقد دقق في كل هذه الحوانب الروفيسور إدوارد سعيد في كتابه: "الاستشراق". لستُ ممن ينكر جهود المستشرقين وإسهاماتهم في كثير من مجالات التراث الإسلامي، فقد قرأت من ذلك الكثير واستفدت منه؛ وفي الوقت الذي نبهني كاتبنا مشكورا من خلال الإمايل، إلى مقالته بموقع هيس بريس، كنت في ذات الوقت أقرأ كتاب: "مدخل إلى العلوم الإسلامية/Einführung in die Islamwissenschaft" ل بتر هاينه/Peter Heine؛ ..إلخ؛ لكن ذلك لا يمنع من ضرورة الوقوف على قوة أو ضعف أو مجانبة الصواب في قراءة المستشرقين للقرآن والسنة، أو لعموم التراث الإسلامي..إلخ. خامسا: يبدو أن كاتبنا يعاني من عقدة مفادها: أنه لن يمكنك تحقيق المجتمع المدني، ولن تكون صادقا في الدعوة إليه ما لم تعترف بأن الإسلام دين عنصري!! حيث يقول: "لذا أقول بصراحة للسيد الهبطي: لن يمكنك أبدا أن تغالط لا نفسك ولا من يقرأونك بأنه يمكنك أن تشارك في بناء مجتمع مدني دون أن تروم الصدق وتعترف أن الشريعة الإسلامية عنصريية مثلها مثل اليهودية إذ حرمت وما زالت تحرم على بناتنا الزواج بغير المسلمين". لقد بينتُ في مقالي السابق أن المجتمع المدني هو الذي تتكافأ فيه حقوق الأفراد على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو العرق ..إلخ؛ وأن من مستلزمات ذلك أن نرى الآخر كما هو لا كما نفرض عليه أن يكون ..إلخ؛ لكن يبدو واضحا أن كاتبنا يضيق صدره أن يقبل بالآخر كما هو، ويتصور أن المجتمع المدني لن يتحقق إلا إذا تشكل من أفراد لا دينين..إلخ. إن إجبار الآخر على التخلي عن اختياراته الشخصة سواء كانت بدافع ديني أم بغير ذلك هو عين العنصرية. أخيرا أقول: النقاش الصريح أمر ضروري، لكن يجب أن يتأسس على قدر من المعرفة والأمانة العلمية. - إمام/ألمانيا [email protected]