يَبدو أن تركيا على موعد مع مرحلة حاسمة من تاريخها، سواءٌ نجحَ حزب العدالة والتنمية الحاكم في تمرير التعديلات الدستورية المقترحة عبر تأمين الأغلبية اللازمة داخل البرلمان، أو نجحت المعارضة العلمانية أو القومية في عرقلة المساعي لتأمين دعم 367 نائبًا من نواب البرلمان التركي -البالغ تعدادهم 550- لإقرارها، أو تم اللجوء لطرح هذه التعديلات على استفتاء شعبي لتمريرها وإدخال المعارضة في مواجهة مع الناخبين، وسط تأكيد استطلاعات رأي بدعم أغلبية ساحقة من الشعب التركي لهذه التعديلات، مما سيضعف للحد الأدنى ثقة غالبية الأتراك في هذه الأحزاب، ويكرس تصوراته عن فشلها وعجزها. وتعود أهمية هذه المرحلة إلى كونها تنهي مرحلة من "التابوهات" السياسية المهيمنة على الساحة السياسية في تركيا، وأهمها إنهاء الوضع الخاص للمؤسسة العسكرية التركية منذ وصول أتاتورك لسدة السلطة في العشرينات من القرن الماضي، عبر مجموعة من التعديلات الدستورية التي تدور في مجملها حول إلغاء حصانة جنرالات المؤسسة العسكرية، والتخفيف من سيطرة العلمانيين على مؤسسات القضاء، خصوصًا على المحكمة الدستورية، والتي ظلَّت طوال عقود الحارس الأمين للعلمانية الكمالية والعقبة الكئود أمام أي محاولات لاستعادة الهوية الدينية لبلد الخلافة الإسلامية. توقيت مناسب ولا يستطيع أحد تجاهل التوقيت المناسب الذي اختارته حكومة العدالة والتنمية لتمرير أكثر من 26 تعديلًا دستوريًّا أغلبها تدور حول تفكيك هيمنة الأتاتوركيين المحافظين على مؤسسة القضاة، وإنهاء سطوة العسكر على الساحة السياسية في تركيا، عبر إعطاء الحق للقضاء المدني لمحاكمتهم على أي مخالفة يرتكبونها، حتى لو طال ذلك رئيس الأركان شخصيًّا، فهي لم تجد أفضل من هذه الأجواء لطرح هذه التعديلات وتمريرها، استنادًا لكون أغلبها يتوافق مع المعايير الأوروبية اللازمة لبدء مفاوضات انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي، فضلًا عن أن الصعوبات الشديدة التي تعاني منها أحزاب المعارضة وتضاؤل أي احتمالات لقيام المؤسسة العسكرية بأي انقلاب أو تحرك ضد حكومة أردوغان المتمتعة بثقة أغلبية الأتراك، ودعم الأوروبيين لهذه التعديلات تجعل تمريرها متوقَّعًا، حتى لو واجهت صعوبات. من البديهي الإشارة إلى أن هذه التعديلات كانت تختمر في عقل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، منذ وصوله للسلطة منذ سبع سنوات، غير أن المواءمات السياسية جعلته يفضِّل التريث في تمريرها، انتظارًا لساعة حصاد يجني من ورائها فاتورة النجاحات السياسية والاقتصادية التي حققتها حكومات العدالة والتنمية المتتالية، خلال السنوات الأخيرة بشكل يغلّ يد العسكر أو المعارضة العلمانية والقومية عن عرقلة هذه التعديلات، خصوصًا أنها تعطي تركيا صورة أكثر بريقًا وديمقراطية، سواء أمام المؤيدين لانضمامها للاتحاد الأوروبي أو المتربصين بطموحات أنقرة للزحف نحو العاصمة البلجيكية بروكسل. دستور عتيق فليس من المعقول أبدًا أن تسعى تركيا للتحول لإحدى بلدان النادي الأوروبي، أو أن تلعب دورًا إقليميًّا في ملفات معقدة في الشرق الأوسط أو فيما يخصُّ الملف النووي الإيراني، وهي ما زالت رهينة لدستور معيب صاغه جنرالات انقلاب عام 1980 بقيادة كنعان إيفيرين، ولم يعد قادرًا على مسايرة التطورات أو طموحات حكام حزب العدالة والتنمية للالتحاق بالقطار الأوروبي، أو بفلسفة العمق الاستراتيجي التي ينفذها حاليًا وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، بشكل دعا أردوغان للضرب بعرض الحائط دعوات بعض وجهاء الحزب، ومنهم الرئيس عبد الله جول للتمهُّل قبل طرحها على البرلمان. ويبدو من الضروري الإشارة هنا إلى أن هذه التعديلات لا زالت تثير مجابهات داخل الساحة السياسية التركية؛ نظرًا لاستمرار المعارضة في إعلان رفضها الصريح لها وصدور تصريحات تتهم الحزب الحاكم بالعمل على استخدام سيف المعايير الأوروبية مسلطًا على رقاب الأتراك لتمرير أجندته الخفية، وتسديد ضربات قاصمة للإرث الأتاتوركي العلماني، بل ومخالفة الدستور التركي وتشديده على ضرورة الفصل بين السلطات عبر التعديلات الخاصة بالقضاء، بل ووصولًا إلى استغلال أغلبيته البرلمانية لتصفية الحسابات مع المحكمة الدستورية "آخر حصون للأتاتوركية" التي أوشكت خلال العامين الماضيين على حظر حزب العدالة والتنمية، ونزع الأهلية السياسية لقادته، غير أن هذه الحملة لم تستطعْ أن تفتَّ في عضد أردوغان ورفاقه؛ حيث أصروا على المضي قُدُمًا في مسارهم المرسوم سلفًا، وعدم تقديم تنازلات ذات قيمة للمناوئين لها، بل إنهم انتزعوا خلال الساعات الماضية موافقة اللجنة التشريعية للبرلمان عليها، مما أدخل هذه التعديلات مرحلة الحسم داخل أروقة البرلمان مدفوعين كذلك بدعم أوروبي وإشارات من بروكسل لأردوغان بعدم التراجع. مساومات شاقة غير أن المهتمين بالشأن التركي يرون أن موافقة اللجنة التشريعية والدعم الأوروبي ليسا كافيَيْن وحدهم لحسم معركة التعديلات، فأمام العدالة والتنمية معركة طويلة وشرسة قبل إقرار البرلمان لها بشكل نهائي؛ حيث يحتاج الحزب لدعم أكثر من 30 صوتًا لتمرير هذه التعديلات، وهو أمر لن يكون سهلًا في ظل استمرار معارضة حزبَي الشعب الجمهوري والحركة القومية للتعديلات، ورفضهم لأي حلول وسط، بل واحتمال لجوئهم للمحكمة الدستورية للطعن في شرعيتها بشكل قد يؤخر دخولها حيز التنفيذ، حتى لو أقرَّها البرلمان، وهو موقف لن يجعل الخيارات عديدة أمام أردوغان لإقرار التعديلات بدون الاحتكام للاستفتاء الشعبي، بل سيفرض عليه ضرورة فتح النوافذ مع نواب حزبي اليسار الديمقراطي وحزب السلام والديمقراطية الكردي "وريث حزب المجتمع الديمقراطي المحظور" لتأمين الأغلبية اللازمة، وهو أمر سيجبر رئيس الوزراء على القبول بعدد من التعديلات، لا سيَّما من جهة صياغة تعريف جديد للمواطنة يساوي بين الأتراك، بمختلف أعراقهم وإضعاف قدرة القضاء على حظر الأحزاب، فضلًا عن مطالب أخرى، وهي قضايا يستطيع الحوار بين الأطراف الثلاث الوصول لتسويات مقبولة حيالها. تسريبات ومخاوف ولا يمكن بالطبع استبعاد خيار فشل محاولات العدالة والتنمية مع حزب السلام والديمقراطية "20نائبًا في البرلمان" في حالة رفع سقف المطالبة، بشكل يتجاوز قدرة الحزب الحاكم على القبول بها، مما يجعل عرض التعديلات على الاستفتاء الشعبي الخيار الوحيد رغم وجود تسريبات بعدم تفضيل أردوغان لهذا الخيار؛ خوفًا من وقوع أية مفاجآت قد تقلب الطاولة على حزبه وحكوماته وتفرض عليه الدعوة لانتخابات مبكرة، بشكل يجعل عملية ردم الهوة مع بعض الأحزاب الكردية واليسارية الخيار الأفضل بالنسبة له حتى الآن على أقل تقدير. غير أن هناك تصورًا آخر يشير إلى أن حزب العدالة والتنمية سيخرج فائزًا من هذه المعركة، سواء مررت التعديلات في البرلمان أو عبر الاستفتاء، وصولًا للدعوة لانتخابات مبكرة سيكون في أغلب الأحيان فرس الرهان بها، ويستغل أغلبيته لتمرير التعديلات وإزالة الألغام من أمام الوفاء بالمعايير الأوروبية، خصوصًا أن خصوم أردوغان العلمانيين والقوميين يعانون حالة ضعف غير مسبوقة وأخفقوا خلال السنوات الماضية في استعادة ثقة الشعب نتيجة تركيزهم فقط على معارضة نهج العدالة والتنمية، دون القدرة على تقديم البديل بشكل يتيح للحزب الحاكم العودة مجددًا للسلطة وبشكل أقوى، بل وإقرار تعديلات أكثر شراسة قد يكون من بينها إلغاء الحظر القائم على الحجاب في الجامعات، وهو البند الذي ترددت أنباء غير مؤكدة عن تأجيل طرحه ضمن حزمة التعديلات الحالية، وإرجائه إلى معركة قادمة مع العلمانيين والعسكر ما دام ثمن ذلك إقرار حزمة التعديلات الحالية بشكل مُيَسَّر. نفق مظلم على أي الأحوال فسواء استطاع الحزب الحاكم إقرار التعديلات بأي من الطرق السابقة فإن من المهم الإشارة أن العلمانية الكمالية الأتاتوركية والجبهة العسكرية التركية تواجهان اختبارًا هو الأصعب منذ عدة عقود يؤشر لانهيار المنظومة التي حكمت تركيا خلال الحقبة المظلمة من تاريخها، ووقفت حائلًا دون استعادتها لهويتها الإسلامية أو تنشيط صلاتها بمحيطها الإسلامي، دون أن تتمتع بقدرة على التصدي لمحاولة إخراجها من النفق المظلم، فهي لم تعد تتمتع بثقة ودعم الغالبية العظمى من الشعب التركي، بل وتضاءلت أهميتها الاستراتيجية وفق العُرف الغربي منذ ما يقرب من عقدين على الأقل، وأصبحت قدرتها على اللجوء لخيار الانقلابات العسكرية محدودة جدًّا، بفعل التطورات الدولية فضلًا عن أنها تواجه خَصمًا قويًّا يتمتع بقدرات استثنائية ومهارة بالغة في توظيف أوراقه بشكل سلس ومنطقي، وبسياسات نجحت طوال السنوات السبع الماضية في خدمة المصالح الوطنية، وفعّلت الوزن الإقليمي والدولي لتركيا، مما يجعل هناك حالة ثقة بنجاح سياسات الخطوة خطوة التي اتبعها حزب العدالة والتنمية لتفكيك المؤسسات الأتاتوركية، والتعامل معها كإرث تاريخي لم يعد له وجود أو تأثير قوي في تركيا الحديثة. *الإسلام اليوم