يحب بعض الغوغائيين من طحالب السياسة أحيانا أن يدغدغوا غرائز الشعب، و أن يغازلوا نزعاته الرجعية، فيتحدثوا إليه بما يحب أن يسمع، ويضفوا عليه صفات الطهر والقداسة، وينعتوا أفراده بالأخيار المساكين، وينعتوا من هم فوقهم بالأشرار الظالمين، فالشعب هو هذا "المسكين الطيب" الذي لا حول له و لا قوة؛ و الحكام هم "الشياطين" التي تمتص دمه و تقهره . على أن الأمور ليست بهذه البساطة التي تشبه أفلام هوليود الرديئة، حيث الأشرار يقابلون الأخيار، وحيث الخير ينتصر في النهاية دائما، لأن التسلّط حين يكون، فذلك لأن ثقافة الناس تقبل التسلμط، بل تطلبه أحيانا، فالتسلط موجود لأننا متسلطون في العمق، المعلم في قسمه، و الأب في أسرته، و المقدم في "حومته". بل إننا أحيانا نجد حكاما أكثر "نضجا" من شعوبهم، وأكثر رغبة في الانفتاح، و لكن دينامية الشعوب لا تسايرهم، فيضطرون لأن يسايروها، والنموذج في ذلك هو ما يحصل في بعض دول الخليج، حيث بعض الأمراء المتنورين يجاهدون لفتح بلدانهم على العالم الحديث، ولكن الشعب لا يستجيب لهم، فيتراجعون عن ذلك، لأن الحاكم مسئول عن مصالح وتوازنات موضوعية كبرى، ليس له أن يغامر أو يخاطر بها، والحاكم الذي يحب البقاء في منصبه، كما قال ماكيافيل الرهيب، لا يتسلّى بمنازعة الشعب في قناعاته العميقة، لأن ذلك سلوك خطير، تسقط دونه العروش. وليس المغاربة، قياسا إلى غيرهم من هذه الشعوب ، استثناء ، فأغلبهم ما يزال متخلّفا من الناحية السياسية، لم يدخل - ذهنيا - بعد إلى زمن الدولة، رغم كل مظاهر "التحديث" الشكلية. أغلب المغاربة ما يزال يحيى وفق منطق العشيرة و القبيلة و الأسرة، والأدلة على هذا الأمر كثيرة لا حدّ لها، أشهرها و أشنعها أن يجد الشعب عندنا طبيعيا أن تتملك َ أسرة واحدة هي "آل الفهري" "المجيدة"، كل أمور الدولة، فيوزّعوها بينهم كما إرث عقاري، فلا يجد أغلب أفراد هذا الشعب عيبا في أن يبوِّأ وزير حكومتهم الأول كل من يحمل جزءا من رصيد أسرته الجيني، أعماما و أخوالا و أصهارا، المراكز و المناصب ، و لا يجدوا عيبا بأن تسيّر أمر مدنه و مجالسها عصبة من "البوليتيكار" المحترفين، وأن يبقوا منتظرين لأن يأتي الملك فيغضب على أحد الولاة، كما حدث في البيضاء منذ أيام، فيهلّل ويفرح و يردد ،في حق المسئول المغضوب عليه، المأثور الشعبي "لك يوم يا ظالم". قد يقول قائل بأن "الإرادة السياسية" من الجهات العليا غير متوفرة، وأنها هي من يسمح بذلك، ولكن عفوا أسألكم : من سمح لأفراد الأسرة "إياها" أن يعودوا لمناصبهم في المدن والجماعات في الانتخابات الأخيرة؟ أوليس الشعب نفسه ؟ قد يقال أيضا إن الانتخابات فاسدة، و أنها "لا تعكس الإرادة الشعبية"، كما يكرر كل من أخذ "علقة في الانتخابات"، ولكن عفوا مرة أخرى، من سمح بإفسادها ؟ ومن قَبِلَ بأن يباع صوته ب مائة درهم أو أقل ؟ أوليس أفراد من هذا الشعب "الخير الطيب" نفسه ؟ و كأن المغاربة جماعة من الفصاميين، أو في أحسن الأحوال جماعة من القاصرين، يباركوا لمن يقهرهم تسلّطه في صناديق الاقتراع، ثم يطالبون فيما بعد بمن يأتي ليرفع عنهم حيفه و ظلمه. المغاربة لم يدخلوا بعد زمن السياسة، لأنهم مازالوا غارقين في التصور "الخلاصي" و"النبوي" عن الفعل السياسي وعن شخص القائد، لم يفهموا بعد معنى صناديق الاقتراع و جدوى الانتخابات و قيمة المبادرة الحرة المدنية، ما يزالوا حبيسي سياسة انتظار "المهدي المنتظر"، ما يزال الأمر عندهم متعلقا ب"شخص" استثنائي يمتلك قوى خارقة هو الذي سيأتي فيرفع عنهم الحيف ويلج بهم أفق الخلاص. أغلب المغاربة في العمق لم يفهموا بأن التاريخ قد تغيّر، وأن زمن المعجزات قد ولّى، و أن أنبياء الخلاص قد انقطعوا، ولم يعد بمقدور شخص واحد، مهما بلغت قوته و حسنت نيته، أن يأتي لوحده، كما سيدنا علي في الأزليات، بسيفه "ذو الفقار، الذي يقطع في كل ضربة ألف رأس" "فيقتل" الأشرار ويملأ الأرض عدلا، بعد أن امتلأت جورا. وتصورهم الخلاصي هذا عن السياسة هو ما يفسّر مثلا ميلهم الفطري لتزكية الأحزاب الإسلامية، لأن هذه الأحزاب تمتح من نفس الروح، و تخاطبهم بنفس المنطق، منطق "الخلاص" والمعجزة والمهدي المنتظر. و أنا أستقل سيارة أجرة منذ أيام في مدينة الدارالبيضاء، سمعت حديثا بين السائق و أحد الركاب. كان مدار الحديث، كالعادة، حول مشاكل المرور و الطرقات والاكتظاظ و فساد الأجهزة الوصية في الدارالبيضاء. تحدث السائق فقال : إن الدارالبيضاء لا تكون على ما يرام إلا حين يأتي إليها الملك، حينها يكون البوليس و المسئولين مضطرين للقيام بعملهم، لأنهم يعرفون أن "القضية حامضة"؛ فما كان من الراكب - الذي بدا، بحسب بذلته الأنيقة و الملفات التي يحمل بيده، رجلا متعلما - إلا أن أجاب : "الأمر طبيعي، فالملك كالأستاذ، إذا حضر انتبه التلاميذ و التزموا، و إذا غاب، فمن الطبيعي أن يشاغبوا يتهاونوا". إلا أن ما فات صاحبنا المتعلم هو أن الملك ليس أستاذا، و المواطنين ليسوا تلاميذ، بل هم شركاء في عقد اجتماعي و سياسي تضبطه حقوق وواجبات، أو هذا هو المفروض، ويوم ما سيفهم المغاربة ذلك، ويتحرروا من هذه الروح "التلميذية" ليصيروا مواطنين "بالغين"، حينها سنلج مجال السياسة، ولن نحتاج حينها - ربما- لحضور الملك "شخصيا"، أو أن يتصرف كأستاذ، حتى تستقيم أحوالنا.