لا يسعني إلا أن أهنئ المجلس الأعلى للحسابات، من خلال رئيسه السيد أحمد الميداوي، والسادة القضاة المشاركين في التقرير الصادر عن سنة 2009 وما قبلها، وقد أبهجني الفرق الكبير الذي تميز به هذا المجلس عن زمن مجلس عبد الصادق الكلاوي الذي كان يلوذ بصمت رهيب وكأن المغرب مشلول الأذرع الفاسدة، وما أقواها وما أكثرها في ذلك العهد، ولكن كانت هناك إرادة عليا لجعل المجلس صوريا، مجرد ديكور لتجميل الفترينة الديموقراطية. لحد اليوم يقوم المجلس بدوره كما يجب، لكن وزارة العدل لا تقوم بدورها من أجل تتبع الفساد واجتثاثه من أصله، تراكمت التقارير ولا من يحرك المتابعة، فإذا كان مدير مطارات المغرب أحدث مجزرة في المال العام، فنحن، أي الشعب، جعلنا السلطتين القضائية والتنفيذية ممثلة لحقنا، ووضعنا ثقتنا فيهما لحفظ عرق جبيننا، الذي هو مجموع الضرائب التي تفترس جيوبنا بشكل مباشر أم غير مباشر، فمن سيتابع الفاسدين؟ وإذا اعتاد الفاسدون أن يسمعوا أن السلطتين المذكورتين عاجزتان عن استكمال البحث من أجل إقامة العدل فإنهم سيضاعفون تخريب المال العام، وسيشجعون فاسدين آخرين لم ينخرطوا بعد عمليا في سرقة المال العام خوفا من سوء العاقبة، وبما أنه لا سوء العاقبة ولا هم يحزنون، فإن الجبناء أنفسهم سيمدون أيديهم للمال السائب. في الماضي كان عندنا مجلس أعلى للحسابات صوريا فقط، واليوم عندنا تقارير حقيقية لكن عدم الاهتمام بنتائجها يجعلها صورية أيضا، فلماذا إذن كل هذا المجهود الذي يبذله السادة القضاة مشكورين؟ ونحن الذين ابتهجنا أكثر بنبأ قرب اشتغال المجالس الجهوية للحسابات، في خطوة إيجابية لتجنب المركزية في مراقبة المال العام، لأنه إذا كان لا قدر الله المجلس الأعلى الجهوي للحسابات في طنجة فاسدا فإن المجلس الجهوي لمراكش ليس فاسدا، هكذا بين مجالس مستقيمة وأخرى فاسدة سيكون هناك حرص على المال العام جهويا، فالمجلس المركزي لا يستطيع أن يتابع كل الملفات. لنرجع مثلا إلى أسباب إفلاس الوكالات المستقلة للنقل الحضري بمكناس ومراكش والرباط والدار البيضاء وطنجة ونتساءل، لو كانت المجالس الجهوية للحسابات قائمة، ومتحملة لمسؤوليتها كاملة، لاكتشفنا أن العامل الفلاني كان يستغل الخطين رقم 2 و 3 في فاس، وأن وزير الداخلية كان يستهلك الخطوط الكبرى بطنجة، وأن عمدة الرباط خرب نصف ميزانية الوكالة بتواطؤ مع فلان وفلان إلى غير ذلك. من خرب وكالات توزيع الماء والكهرباء في الكثير من المدن؟ خاصة في جانب التطهير وجمع النفايات؟ ما هي المشاريع الكبرى التي وقعت فيها الكثير من السرقات، خاصة حين تتم المقارنة بين ما هو مكتوب في الأوراق وما هو منجز على أرض الواقع، ولنأخذ مثلا المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، وغير ذلك كثير. إلى حد اليوم يبحث المجلس الأعلى في منطق الأوراق الرسمية التي دونت فيها المصاريف ومن ثم يستنتج الخروقات والتناقضات والمبالغات الموجودة في هذه الأرقام، لكن لو تم خلق جهاز يقارن بين المثبت في الوثائق الرسمية وأرض الواقع لتم اكتشاف العجب العجاب، مع الصلاحيات الواسعة لمتابعة كل المخالفين، ولو كانوا فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، لو تم ذلك، لما كان المال العام سائبا يعلم السرقة.