سلام عليك يا أمي حيث أنتِ الآن تنظرين إليّ ولا تتكلمين. آتيك في هذا اليوم الذي يجمع العيدين كي نتبادل التهنئة وبعضَ الكلمات. ويا حزني يا أمي! آتيك في عيد الأمهاتِ صانعاً من أشواقي باقاتِ وردٍ لا تذبل، وأنتِ أيتها الرائعة تُشيحين بوجهك عني في ذات اليوم، ولا وردةَ منك لي في عيد الشعراء، كأني لم أعد من الشعراء. كيف لنا لا نلتقي في منتصف الحنين ولا نتبادلُ ما كنا نتبادله طيلةَ سنين؟ لا تصدقي ما يقوله أصدقائي الشعراءُ عني، هؤلاء البؤساءُ الذين يتوهمون حين يُسيِّجون المعنى بالكلمات أنهم يحرسون الحياة. أقول لهم إن الحياة أكبرُ من أوراقهم، وأشرسُ من أقلامهم، وأسمى من تلاطم الثرثرة في أعماقهم. الحياةُ لا تهتم بهم أبداً، وهم من بؤسهم ما زالوا يعاندون. لا يصدق الشعراء يا أمي أني حين توقفتُ عن الشعرِ لم أخن الشعر، بل كنتُ أكثر إخلاصا للقصيدة لما اخترتُ الصمت طويلا ولم أؤذها بالهذيان. فضلتُ أن أغادر الأرض التي يتزاحم فيها الشعراء يتدافعون، يستعينون بالخديعة والدسائس والمجاملات التافهة والنفاق الفاحش كي يصلوا، مثل العوالق التي تتجّه إلى السماء على ظهر قصيدةٍ ولا تصل إلا إلى الخواء. هم يريدونني أن أظل منحشراً في حفرة ضيقة على جبهة حرب خاسرة ولا أتزحزح. يريدونني فلاحاً بسيطاً واقفاً على الهوامش أتلصّص على مالك الأرض لأفضح بالكلمات فداحته وإن كان الثمنُ رأسي. يريدونني عاملا منسياً أتقن القتالَ بالحروف وأُحسِنُ الموت إذا ما شاء ربّ العمل قتلي. يريدونني موظفاً ألهث خلف راتب شهري هزيل ليوقظ حقدي وغضبي وأفجرهما حزمةً من كلماتٍ لا ينصت إليها أحد. هم يريدونني هكذا وأنا لا أريد. أريد أن أدخل إلى مخازن الملاكين وأقنعهم بأن الفلاحين البسطاء جديرون بنصيب من الحياة. أريد أن أجلس على مائدة العشاء مع رب العمل ليفهم أننا لسنا كما يظن حيواناتٍ تتقن الأكل مما تساقط على الأرض. أريد لصوتي أن يصل إلى حيث ينبغي أن يصل كما أريد تماساً، لا كما يريدونه معزولا في الضفة الأخرى للشعب. هل تراني أخطأت؟ لا أريدُ أن أعيش في كذبة كبيرة اسمها الالتصاق بالشعب شعراً، والانتماء إلى الشعب بالكلمات، والتوحد بالشعب من خلال قصيدة. أي شعبٍ يتحدثُ عنه هؤلاء؟ الشعبُ الذي في خاطري لا يعرفني لا يفهمني لا يثق بي ولا يصدقني مهما كتبت ومهما أنشدتُ. لماذا لا أجرب شيئاً آخر غير الشعر أقترب به من البسطاء وإن بدا تافها في عيون الشعراء، لكن من يحفل بالشعراء؟ لا تصدقي ما يقوله البؤساء عن تفاهات انخرطتُ فيها ولوثتني، وعن انشغالات قاسية خدشتُ بها نقاء الشعر. أنا لم أنس وعدي يا أمي ولا مزقتُ وصيتك. فافتحي صدري تجدي نفسَ الإصرار ونفسَ الحلمِ ونفسَ الكلمات المحفورة بالضوء والأمل اسمعيها: "على دمنا لا تراع سينبتُ من صبرنا الشجرُ البحرُ حتى يفيضْ. سيكبرُ في فودنا الشيبُ من كل لونٍ، وقبل الأوان سيكبرُ هذا النقيضْ. ونبقى نحبُّ البلاد التي شرّدتنا، نبقى نحبُّ ونكتبُ حلوَ القريضْ." أنا لم أتغير يا أمي، ما زلتُ أتفقد كل يوم حقولَ الوطن التي زرعتِ فيها شتائلَ الحلم والثورة، وما زلتُ أترقّبها متى تكبر، لغير أني لم أعد أومن بأن الحلم تُنْضِجه الكلماتُ، وبأن الثورة تشتعلُ من أصابع الشعراء. ولأني أريد للحقول أن تينع حقّا، ولموسم القطاف أن يحين سريعا فقد تركتُ فأسي خلف ظهري وترفعتُ عن التراب الذي تلبسه الحقول، ولم أعد أطيق المشيَ بطيئا خلف محراث خشبي بين الغبار، ليس تكبراً يا أمي، ولكنها حكمةُ الجرار. [email protected]