عيد مبارك سعيد، وكل عام وأنت بخير. دعْ عنك يا ولدي كيف سيؤَوّل الناسُ هنا هذه التهنئةَ إذْ تصل مني إليك بعد العيد بأيام، ودعْ عنك ما سيوشوش به الناسُ عندك هناك إذْ يفاجئهم أن يبعث أبٌ رسالةً إلى ابنه بعد طول انقطاع. لا تهتم، لستُ أريد أن أقلّب جرحاً يذكّرنا مجددا بحجم الجريمة التي ارتكبتَها في حق أبيك، وما في قلبي طمعٌ إلى استعادة ما أخذتَه مني ذات عقوق. لي أن أعتبر هذه الرسالةَ طيّا نهائيا لصفحةٍ مؤلمةٍ من تاريخنا، لأني لم أعد حاقداً عليك. ولك أن تعتبرها مجردَ بوحِ والدٍ مغتربٍ في حضرة ابنه بهذه المناسبة. من يعرفني جيدا يدرك أني ما عدتُ قادرا على العودة إلى وطنٍ تخلى عني. لكني بصدق، لا أستطيع أن أقاومَ شوقي العنيفَ إليه كلما هلّ العيد. إذا في عيد الأضحى تهيج مشاعرُ المغتربين أكثر، ويشعرون بالغربة أكثر، وتستيقظ ذكرياتهم البعيدةُ حتى البكاء، فكيف حال المغتربِ صباحَ العيد إذا كان في الأصل جزاراً في بلاده كما أنا؟ آه، أحنّ إلى أيامي هناك، حيث كان يمنحني الناسُ من التقدير ما لا يناله أحدٌ من أصحاب المهن الأخرى. في بلادنا وحدَها يهرع المواطنون بعد الصلاة خلف جزارٍ مثلي كي ينطلقوا في الاحتفال ويتقاسمون الفرحة. لكن هنا في وطن الغربة، لا مكانَ للفرح؛ لا أضاحيَ ولا ذبحَ ولا شِواء... ولهذا أفتحُ صدري أمامك لعلّي أتخلص من هذا الحنين الذي يكاد يفجرني بعيدا عن الوطن. لو تدرك يا ولدي كم يعذبني العيشُ بلا احتفالاتٍ صاخبةٍ أنتشي فيها بسكاكيني وملابسي الملطخة بالدماء. يأتي العيدُ هنا مثل كلّ الأيام ويمضي عابراً في استحياء دون ضجّة.كلُّ شيء هنا باردٌ باردٌ باردٌ. أين النيران المُعَدّةُ لشيّ اللحوم؟ بل أين حرارة ما قبل العيد في بلدي؟ بلدي الذي أعرفه يكاد ينفجرُ إثْرَ المناسبة بالأكباش. كم أفتقد رائحتها التي تصفعنا أينما توجّهنا؛ في الشوارعِ والبيوتِ والأسواقِ والملاعبِ المتربةِ والمدنِ الكبيرة ودورِ الصفيح. وكلّما تذكَّرْتُ كيف كنتُ أهشّ القطعانَ بعصايَ ألعنُ الظروف التي قادتني إلى بلدٍ لا اثر فيها لمواكب الأنعام... هنا لا توجد خرفانٌ ولا عجول، ما في المدن المتحضّرة إلا بشرٌ بشرٌ بشرٌ. أفٍّ! سئمتُ من هذه الحضارة التي لا تنتج إلا آدميين لا يبالون بأعيادنا وأحياناً منها يتهكمون. هنا الحضارةُ اللعينة تمنعني من أن أمارس الجزارةَ بحريةٍ كما كنتُ أفعلُ في البلاد. كم أنتم محظوظون هناك! حيثُ لا توجد منظماتٌ لحقوق الحيوان تزلزلُ الدنيا من أجل تلك الحيوانات كما هنا. هنا باسم الحضارة يعتبرون ذبحَ الخرفان إبادةً جماعية، وشيَّ الأكباد جريمةً إنسانية... يعتبرون الجزارين أمثالَنا طغاةً يستحقون الشنق. فهنيئاً لك إذ تجمعُ حولك قطيعَ الخرفان تمنحُها العلف والحبّ طيلةَ السنة، وصباحَ العيد تذبحُها وتسلخُها دون عتاب من هؤلاء الحقوقيين، بل تتلقى من كل المواطنين الأجرَ والتهنئة. هل أقول إني أحسدك؟ نعم، يا ولدي، أحسد نجاحَك. وصدقني، كنتُ أشك في نجاحِك. فأنت في طفولتك كنتَ حين ترافقني لتفقُّد القطيع تشعر بالرعب. أتذكّرُ كم أرهقتني وأنا أحاول أن أشرح لك أن هذه القرونَ النابتة على رؤوس الأكباش لا تُخيف، هي أسلحةٌ جاهزة لتَحسِمَ بها الفحولُ معاركَها فيما بينها حول طعامٍ قليلٍ أو شاةٍ عزلاءَ فقط. أردتُكُ أن تدرك حجمَ الجبن الذي يسكنُ هذه البهائم إذ يستطيعُ كلبٌ واحدٌ فقط أن يقودها من المرعى إلى الحظيرة وهي خاضعة، لكنك كنتَ تخاف من الكلاب أيضا. فكيف استطعت بعدما أبعدتني عن البلاد أن تُطوّع القطعانَ وتُخضِع الكلاب؟ لن أصدّق أنك لوحدك فعلتَ ذلك، أيها الجبان. لستُ حاقدا عليك والله، فأنا حتى لو لم تستعجلْ خاتمتي كنتُ في النهاية سأورثك القطعانَ والسكاكين وسرّ المهنة حين أموت أو أشيخ. لستُ غاضباً منك ولكني خائف عليك. خائف عليك من غرورك الذي تضخّم بعد أن صنعتَ لنفسك جزيرة، هذه الجزيرةَ التي بها ومنها تواصل إخضاع الجميع وتقود انقلاباتك ضد الآخرين ثم تبتسم في وجوههم. ثق بي يا ولدي، لا تتصور أن الآخرين يثقون بك... فمن لا خير له في أبيه لا خير له في أحد. وكل عام وأنت بخير. [email protected] mailto:[email protected]