لا يختلف اثنان على أن من أهم أدوار الصحافة هو إحداث تغييرات إيجابية في المجتمع عن طريق إيضاح وحتى فضح الأسباب الحقيقية التي تقف عقبة أمام بزوغ الديمقراطية ودولة الحق والقانون. إن الحدث المؤسف الذي شهدته مدينة مكناس مؤخرا والمتمثل في انهيار صومعة مسجد البردعين ووفاة 41 مواطنا بريئا جراء ذلك، أبان بجلاء أن هذا الدور النبيل للصحافة لا لايشغل حيزا من الفلسفة المهنية للقناتين المغربيتين 2M والأولى . لقد تسترت هاتين الأخيرتين بشكل ضمني وفاضح عن الأسباب التي وقفت بشكل مباشر وراء انهيار الصومعة وموت41 شخصا، ويتبين هذا التستر- المنافي لمهنة الصحافة – في عنصرين رئيسيين ، أولهما هو نوع الشهادات التي اقتبستها القناتين ووظفتهما في تقاريرهما الإخبارية حول الموضوع ، فقد لوحظ بشكل واضح طغيان جمل مثل: "الحمد لله ..." و "هذا مكتاب الله... و" هذا شيء من عند ربي..." على التصريحات التي انتقتها – بعناية كبيرة - القناتين . إن المتأمل لهذه العبارات يستشف انتماؤها اللغوي إلى قاموس "القضاء والقدر" الذي يفرغ حادث انهيار صومعة مسجد مكناس من أية مسؤولية سياسية، محلية كانت ( السلطات المحلية لمكناس) أو مركزية (الوزارة المعنية) ، حيث يظهر ذلك القاموس أن ماحدث هو نتيجة مباشرة لقضاء الله وقدره وبأن البشر لا يد له في وقوع الكارثة ، لكن الجميع يعرف أن الإهمال وعدم المبالاة يشكلان المسبب الرئيس لموت 41 مواطنا بريئا ، فلو أن السلطات المحلية لمدينة مكناس والوزارة المعنية بالرباط قامتا بترميم مسجد مكناس – الذي يعود تاريخه إلى قرون خلت – حفاظا على التراث الوطني أولا, وحفاظا لأرواح الناس ثانيا, لما انهار المسجد بالمرة. ومن جهة أخرى وفي ظل الشهادات دائما لوحظ تغييب شبه تام لتصريحات أفراد عائلات الضحايا, ويمكن للقارئ الآن أن يتبين لماذا ، بحيث أن جل هؤلاء الأشخاص اعتراهم الحنق والسخط اتجاه السلطات المحلية للمدينة التي حملوها مسؤولية موت ذويهم. أما العنصر الثاني الذي يظهر غياب منطق الشفافية وروح التغيير الديمقراطي لدى قناتي 2M والأولى هو تغليب تصريحات خالد الناصري الناطق الرسمي باسم الحكومة على أقوال باقي أفراد الشعب . لقد حرصت القناتين على جعل أقوال الناصري تشغل الحيز الزمني الأكبر من تقاريرها , فمثلا خصصت كلتا القناتين مايقارب الدقيقة أو الدقيقة والنصف لكلمات الناصري في تقرير لا يتجاوز حيزه الزمني الدقيقتين، في حين يذهب ما تبقى من الثواني لأصحاب تصريحات "القضاء والقدر" وتم تغييب أي تصريحات لأفراد يشيرون بأصابع الاتهام للحكومة . فما سر اهتمام القناتين بالناصري ؟ وما فحوى تصريحاته ؟ لقد وظف الناطق الرسمي باسم الحكومة خطابا – ومعه خطابي قناتي دوزيم والأولى – يعتمد مفهوم " المستقبل المشرق" حيث شدد في تصريحاته – باللغتين العربية والفرنسية - على أن الحكومة عازمة على ترميم كل المساجد والبنايات الآيلة للسقوط بغية تفادي حوادث مؤسفة أخرى ، أما ماحدث بمسجد البردعين فلم يسع الوزير إلا إعرابه عن أسفه الشديد ونعيه عائلات الضحايا ، فلم يوجه الناصري أصابع الاتهام إلى أي أحد ولم يعلن نية الحكومة فتح تحقيق لتحديد أسباب ومسؤولية وقوع الانهيار . إن طغيان خطاب المستقبل على كلمات الناصري يغيب الحاضر وما يعتريه من مآسي وهموم جراء الحادث ويلغي المسؤولية السياسية المباشرة لما وقع وبالتالي يهدف إلى تضليل أفراد الشعب وامتصاص غضبهم. لنقوم ، قبل الختم ، بمقارنة بسيطة بين تغطية قناتي دوزيم والأولى بتغطية قناة الجزيرة القطرية. فعلى عكس قناتي المغرب قامت قناة الجزيرة بتخصيص الجزء الأكبر لتقاريرها الإخبارية لمواطني مدينة مكناس – بما فيهم أفراد عائلات الضحايا – حيث عبر هؤلاء عن غضبهم الشديد وسخطهم العارم اتجاه السلطات المحلية والمركزية على حد سواء ، بل وكشفت أيضا عن قيام المواطنين برشق رجال الأمن بالحجارة . لقد أظهرت بجلاء مثل هذه التقارير وعي المواطنين بمسؤولية الجهات السياسية الرسمية عن الحادث ومطالبتهم بمحاكمتهم أمام العدالة ، وهذا بالضبط ما حاولت قناتي دوزيم والأولى – في شخص خطابي " القضاء والقدر" و"المستقبل المشرق" – طمسه وتغييبه عن الذاكرة الجماعية للمغاربة. وخلاصة القول هي أن تغطية دوزيم والأولى لحدث انهيار صومعة مسجد البردعين بمكناس هي منافية لأخلاقيات مهنة الصحافة وضربة موجعة للديمقراطية والعدالة ودولة الحق والقانون. إن أيادي الإهمال السياسي هي التي لطخت أجساد 41 مواطنا بريئا بالدماء ، و"الساكت عن الجريمة كمن شارك فيها " أليس كذلك ؟. [email protected]