السوسيولوجيا الأمريكية في بداياتها الأولى اهتمت بالتطرف وعرفته على أنه كل سلوك لا يتوافق مع اختيارات الجماعة و مع قواعد تعامل المؤسسات. إلى حدود ستينيات القرن العشرين اقتصرت دراسة التطرف على الوضع الاجتماعي والوضع النفسي للمتطرف، لكن بعد هذا التاريخ أصبحت الكتابات السوسيولوجية التي تبحث عن جذور التطرف تنقسم إلى ثلاث تيارات: * التيار الثقافوي الذي يعتقد في وجود ثقافات دونية تحمل بين طياتها بذور التطرف وهي المسئولة في توجيه بعض الأفراد إلى عالم التطرف. هذا التيار لديه موطأ قدم في النسق التحليلي الوطني الذي يبحث جاهدا في تحديد معالم الثقافات الدونية في الموروث الثقافي كالثقافة واللغة الأمازيغيتين. على مستوى التهيئات اللاشعورية يعتبر البعض هذه الثقافة أنها أقرب إلى الوحيش منه إلى الآدميين؛ لا يستسيغون مثلا مشاهدة علامات الوشم على المحيا، كما لا يستسيغون كذلك سماع مخارج أصوات اللغة الأمازيغية التي تحدث لهم حشرجة وآلام في الإحساس. هؤلاء العنصريون لا يستصغرون فقط ثقافة ولغة الآدميين الذين يتحدثون هذه اللغة، بل يستصغرون الآدميين أنفسهم. هكذا فاليميني الأمازيغي كأحرضان مثلا هو دائما أكثر رجعية من اليميني العروبي كالقادري أو غيره، واليساري الأمازيغي كمحمد ابن سعيد آيت يدر هو دائما شخص غريب الأطوار والمواقف ودائما أقل فهما وتكيفا مع القضايا النضالية من اليساري العروبي، بل حتى الوسط الأمازيغي هو دائما ليس وسطا بل هو إما أكثر يمينية أو أكثر يسارية ليس فقط اللغة و الثقافة الأمازيغيتين هما المعرضتين للدونية، بل حتى بعض الفقهاء من أمثال ابن تيمية وغيره. مفتي الجالية الإسلامية في فرنسا أبوبكر نحى هذا المنحى حينما تناول في إحدى البرامج التلفزية بالقنواة الفرنسية المفردات المستعملة من طرف مجموعة من الإرهابيين وحاول ربطها تعسفيا بابن تيمية وكأن ثقافة ابن تيمية هي المسؤولة دائما عن كل أشكال التطرف ، بل أكثر من ذلك مثل هذا الربط التعسفي يجعل المحلل يعتقد بكل سهولة بأن جميع أشكال التطرف التي سوف تصدر ليست في الواقع إلا تمظهرات لفكر ابن تيمية؛ وكما يحصل الآن مع فكر ابن تيمية حصل في الماضي مع الفكر الماركسي اللينيني في المجتمعات حيث يتم ربط كل أشكال الاضطرابات السياسية والاجتماعية بهذا الفكر. * التيار الوظيفي الذي يمثله السوسيولوجي ميرتونMERTONالذي يعيد الظاهرة إلى الاعتلال الجسدي حيث كل جسد عليل يؤهل صاحبه إلى عالم التطرف ، وكأن البيولوجيا هي وحدها وراء ظاهرة التطرف ؛ مثل هذا التفسير يلجأ إليه بعض خصوم الأصولي عبد السلام ياسين الذين يسندون ظاهرة نبوغه الأصولي في اعتلال جسده؛ بل حتى بداخل الموروث الشعبي عادة ما يفسرون بعض الظواهر النفسية الخاصة كالنبوغ والإبداع الفني كنتيجة للاعتلال الجسدي فقط. هذا التيار لديه أنصار ومناصرون بداخل البيولوجيا العصبية وبداخل بيولوجيا الجزيئات. ولا أعرف ماهو مستوى و طبيعة تدخل هذه العلوم في بيولوجيا أجسام المتطرفين والى أي حد وصل هذا التدخل. * تيار التفاعل الرمزي الذي يستعمل المقاربة الايكولوجية والممثل في ما يعرف بمدرسة شيكاغو. يرجع هذا التيار أسباب التطرف إلى ما يسميه بالفوضى الاجتماعية. أحد ممثلي هذا التيار نجدBecker Howardبيكر هوارد صاحب كتاب «الخارجون عن القانون»outsiders. في هذا الكتاب يضع المؤلف ثلاث فرضيات هي كالتالي: * المجموعات البشرية تنتج التطرف عن طريق تثبيت طبائع وكل من لا يحترم هذه الطبائع يتم اعتباره متطرفا * الطابع التطرفي مرهون بمدى ردود أفعال الآخرين اتجاه هذا التطرف و بهذه الصفة فالطابع التطرفي ليس تطرفا في حد ذاته ولكنه نتيجة فقط لمستوى التفاعل السلبي مع هذا المعتبر متطرفا ولو تمت معاملة هذا السلوك معاملة ايجابية لتم لصاحبه التخلي على هذا التوجه المعتبر تطرفا. بعض الجماعات المغلقة التي تستثمر ذكاءها في تأهيل بعض المرشحين للتطرف، خصوصا التطرف الديني والسياسي تقوم ولو عن بعد وبتوجيه ورعاية هؤلاء عن طريق تمويلهم بالوساطة ببعض الأخبار والمعطيات الكاذبة التي تخلق لديهم تهيئات. هذه التهيئات هي التي ستصبح قاعدتهم التطرفية ذاتها. في آخر مسارات التطرف ، وحينما تصبح هذه التهيئات قناعات يسهل على رعاة التطرف تمهيد الطريق للأعمال التطرفية. رعاة التطرف هم مستثمرون و كثيرون ومتعددون ومجهولوا الهوية والموطن * الطبائع المثبتة لا تخلق دائما حولها إجماعا ولهذا فهي دائما موضع اختلاف وقد لا تتبناها التصورات السياسية المختلفة بداخل المجتمع. * المسار التطرفي يمر عبر المراحل التالية: في المرحلة الأولى يقوم المرشح إلى عالم التطرف بتخطي أحد الأعراف التي قامت الجماعة بتثبيتها وهي ليست بالضرورة ضد القانون وضد القيم السليمة. هذا التخطي الأولي يستحق عليه المرشح إلى مسلسل التطرف نعت متطرف من طرف المقربين منه من عناصر الجماعة التي ينتمي اليها، رغم أن فعل التخطي الذي قام به ليس تطرفا بمعنى القانوني للتطرف. هذا النعت الذي يتم إلصاقه بالمرشح إلى عالم التطرف في غياب وعيه بذلك يمنعه من الاستمرار في مزاولة نشاطه وتحركاته في إطار قانوني وسليم فيبدأ في استنباط صورة المتطرف والتكيف معها. يقول هوارد بيكر بأنه ليست المحفزات التطرفية هي التي تدفع بالمرشح إلى السلوك التطرفي ولكن السلوك التطرفي المستنبط هو الذي يصنع المحفزات التطرفية ويعطيها قوتها. يتطرق هوارد بيكر كذلك إلى المستثمرين في الأخلاق الذين هم في عمق ظاهرة التطرف قائلا:« لقد حان الوقت للتطرق للأشخاص الذين يهيئون الطبائع والقواعد والتي لا يقبلها المرشحون إلى التطرف »ص 145 يتساءل هوارد بيكر حول من يهيء الطبائع والقواعد وعبر أي صيرورة يدفع الآخرين الى احترامها. كإجابة لهذا التساؤل يطرح هوارد بدل النموذج التزامني الذي يرجع أسباب التطرف إلى وقت واحد وزمن واحد النموذج التجزيئي التدريجي ويقول:«كل الأسباب لا تتم مرة واحدة وفي نفس التوقيت، لهذا نحتاج إلى نموذج تحليلي يأخذ بعين الاعتبار نماذج السلوكات التي تتطور وفق سلسلة منتظمة»ص 46 هوارد بيكر جد متقدم في تحاليله، لكن سبقه إلى مثل هذه التحاليل أحد رواد السيكولوجيا الجماهيرية، لقد سبقه إلى مثل هذه التحاليل، وان كان بشكل مبسط، الفرنسي 1841-1931Gustave le Bonالذي يعتبر أحد رواد سيكولوجية الجماهير. يرى في كتابه "سيكولوجية الحشود" بأن الفرد حينما يجد نفسه وسط جماعة تميل إلى التطرف يصبح أكثر بدائية وأكثر تجيشا لأنه يوجد في حالة ما قبل الوعي وهي حالة من الحالات التي تقوم فيها الحشود بتنويم كل قدراته العقلية. بفضل هذه الملاحظة التي قام بها لوبون، أصبح أغلب رواد السيكولوجية الجماهيرية يتساءلون عن السر وراء القوة التي تجعل الأفراد حينما يكونون وسط جماعة يصبحون غير عاديين، لا عقلانيين و متجيشين إلى أقصى الحدود. [email protected]