يتساءل باسكون إن كان ممكنا للسوسيولوجي أن يحرم على نفسه العمل على بروز تضامنات جديدة، مع أن حضوره الميداني يغير الوضع القائم، ويزعج شيوخ القبيلة، ويهمس في آذان المهيمن عليهم. عليه، إن أراد فهم نمط اشتغال القوى الاجتماعية، المساعدة على ولادة رأي من تكرههم علاقة القوى على الكلام همسا أو بالأحرى على السكوت. تعد المرحلة الممتدة بين 1960 و1970 وحتى وفاة بول باسكون في أبريل 1985 أهم مرحلة في مغربة السوسيولوجيا المغربية، حيث ساعده موقعه الإداري كمدير للمكتب الجهوي لتأهيل الزراعة في منطقة حوز مراكش (وهو المنصب الذي عين فيه بظهير ملكي، فكان أول سوسيولوجي يشرف على مؤسسة يسيرها عادة مهندسون، وربما كان آخر السوسيولوجيين الذين تم تعيينهم في مثل تلك المناصب)، وكمدرس بمعهد السوسيولوجيا بالرباط (بين 1961 و1964)، وكذلك بمركز الدراسات الاقتصادية بالرباط (حيث كان يدرس سوسيولوجيا التنمية خلال سنتي 1964-65) وكأستاذ بمعهد الزراعة والبيطرة بداية 1969 إلى 1985، على تعزيز السوسيولوجيا المغربية ووضع لبناتها التأسيسية، ومن بين الأسماء التي عملت حينها بشعبة العلوم الإنسانية بالمعهد نذكر: بول باسكون، بودربالة، حمودي، تهامي الخياري، الراقي، الناصري، وآخرون... بول باسكون ذاته سيحصل على الجنسية المغربية في يناير من سنة 1964، وتذكر بعض الدراسات التي اعتنت بسيرته أنه من القلائل أو ربما المغربي الوحيد الذي أعلن بشكل رسمي تبنيه «الإلحاد». برغم المهام المتعددة التي تصدى لها بول باسكون وفي غمرتها سيتمكن من إنجاز أطروحة الدكتوراه سنة 1975 (بعدها بأقل من سنة اختفى كل من ابنه وابنته في الجنوب المغربي حيث لم يعثر عليهما منذ ذلك التاريخ) وهي الأطروحة التي عرفت تحت عنوان (حوز مراكش)، وهي دراسة وليدة معرفة جيدة بالمنطقة، مكنت باسكون من صوغ مفهوم نقدي في نظريته حول المجتمع المغربي كمجتمع مركب. قبل التطرق لعناصر المجتمع المركب كما حددها بول باسكون لا بد أن نتعرف على مفهومه الخاص للسوسيولوجيا والسوسيولوجيا القروية. أخلاقيات السوسيولوجيا: يتبنى بول باسكون، ككل سوسيولوجي ملتزم، موقفا يعتبر أن الباحث مطالب بالكشف عن السلطات التي يمسك بها في المجتمع المبحوث، وفي تطابق جلي مع أفكار بيير بورديو حول دور السوسيولوجيا في المجتمع، يدعو بول باسكون السوسيولوجيين إلى اختبار أشكال إقامة تلك السلط، والحرص على اكتشاف الأساليب التي تحول دون ممارسة التعسف في استعمالها. وعليه، فالباحث مدعو إلى الوعي بحجم موقعه (تثمين الموقع)، وبالتالي عليه أن يخضع نفسه لقانون أخلاقي (ميثاق أخلاقي لمهنة السوسيولوجيا) يلزم بممارسته العلمية. يراكم السوسيولوجي معرفة مكثفة في أثناء عمله، وهو لذلك مجبر على تقييم تلك المعطيات وفق منهج يمكنه من إعادة صياغتها لتجاوزها (التجاوز المعرفي). ولذلك، على الباحث أن يجمع بين امتلاك معرفة أكثر (المعطيات الكمية) ومعرفة أحسن (المعطيات المعرفية والمنهجية). موقف الباحث له تأثير وسلطة، بصفته السوسيولوجية، على صياغة الآراء وبالتالي على التراكم العلمي. ولذلك يجب الحرص على أن يكون الإنتاج السوسيولوجي دقيقا (ونزيها) لأنه مصدر لمعرفة المجتمع من قبل آخرين. السوسيولوجيا، كتفكير في المجتمع، تقتضي وضع مسافة بين الذات والجماعة التي ينتمي إليها الباحث، فبول باسكون يدعو إلى إحداث نوع من القطيعة بهذا الخصوص، كشرط لتحقيق الموضوعية. برغم وعيه بصعوبة تحقق ذلك. السوسيولوجي مهدد باستمرار بنوعين من المواقف: إنه يمارس التهميش كما يمارس عليه التهميش، إما أن يتخذ موقفا محايدا، وإما يتم التلاعب به. ولذلك يحذر بول باسكون من كل أنواع الاختراق التي قد يتعرض لها العلم ومن التوظيفات السياسية التي قد يتورط فيها الباحث لخدمة مصالح النظم السياسية الشمولية. لا يمكن للباحث في العلوم الإنسانية أن ينفلت من تأثيرات موقعه الاجتماعي. إن تعميق أخلاقية مهنة السوسيولوجي تستهدف تمكين الباحث من التعرف على إمكاناته والتحكم في المعارف المحصلة من خلال التزامات وواجبات أخلاقية عليه أن ينضبط لها بكل نزاهة واستقامة. ربما يكون بول باسكون أول باحث مغربي في العلوم الإنسانية يضع قواعد ومبادئ الميثاق الأخلاقي لمهنة السوسيولوجيا. ولذلك نقترح أن تكون هذه الأرضية مشروعا لميثاق أخلاقي يتداعى الباحثون في العلوم الإنسانية لتطويره وتحيينه بما يؤسس لممارسة أخلاقية للتقليد السوسيولوجي في المغرب. ميثاق أخلاقي يعي «مخاطر» العلم على المجتمع، كما يقول باسكون، ويستبقها، ويحرص في الوقت ذاته على جودة البحث والمنهج. وظائف السوسيولوجيا يدافع بول باسكون على سوسيولوجية في متناول المجتمع، ويطالب باستغلال واسع لمعطيات البحوث لتعميم نتائجها ومنجزاتها وخيباتها، لأن المهمة الأساسية للسوسيولوجيا هي تمكين المجتمع من معرفة ذاته عبر نشر الأبحاث وترجمتها. أكثر من ذلك في هذه الدعوة نوع من الانتباه إلى أهمية المجتمع ليس كموضوع للبحث فقط ولكن كمساهم فيه، دعوة تنم عن الثقة في المجتمع وفي قدرته على تطوير السوسيولوجيا ربما بطريقة غير متوقعة. رهان السوسيولوجيا هو اكتشاف المجتمع من خلال اكتشاف أفكاره. يتحدث بول باسكون عن إكراهات البحث السوسيولوجي في المغرب ويصف الصعوبات الميدانية التي تواجه الباحث في علاقته مع المجتمع خصوصا في المناطق القروية، حيث يكون مطلوبا تحديد المشاكل من خلال إشراك الفلاح في صياغة الأسئلة ومساعدته على الوصول إلى المعلومات. ويؤكد باسكون أن تأثير السوسيولوجيا مازال محدودا، وهي بحاجة إلى مزيد من الاستقلالية حتى تؤدي وظيفتها العلمية بعيدا عن تدخل البيروقراطية والتقنوقراطية، معتبرا أن هناك تمييزا بين العقلانية الناتجة عن جمع المعطيات وبناء النماذج التفسيرية التي تتجاوز الاعتبارات الجزئية لخلق وقائع جديدة وحقائق جديدة وبين العقلانية الشعبية. لكن بالرغم من تلك الإكراهات فالسوسيولوجيا ليست مخيرة إذ عليها ألا تكتفي بالتجمد أمام الواقع المعاكس بل تنطلق للعمل (المغامرة بتعبير باسكون) في ضوء تلك المعطيات كممارسة مضادة في انتظار تبدل موازين القوى الاجتماعية استثمارا في الزخم الهائل من المعلومات المتوافرة في الوثائق، لأن هناك حتما من سيستفيد من توظيف معطياتها. فالسوسيولوجي، على عكس المسؤولين الذين يحبون الحلول الجاهزة والسريعة والأقل تكلفة، يميل إلى الإزعاج أكثر مما يقدم خبرته بسخاء. (يتبع) * باحث في السوسيولوجيا