1- خلال الحوار الذي أجريته مع الدكتور الهادي شلوف، طرحتُ سؤالا حول علاقة الإسلام بالديمقراطية، وسألت إن كان بإمكانهما أن يتعايشا جنبا إلى جنب، أم أن هذا الأمر مستحيل؟ طرحت هذا السؤال لأنني سمعت وقرأت غير ما مرة أن الديمقراطية والإسلام خطّان متوازيان يستحيل أن يلتقيا، وقد دار بيني وبين صديق لي نقاش بهذا الخصوص قبل أيام، تمسّك فيه صديقي بموقفه القائل بأن الإسلام والديمقراطية يستحيل أن يتعايشا مع بعض، مثلما يستحيل أن يتعايش قط مع فأر داخل جحر واحد، ودليله على ذلك هو أن الديمقراطية إذا أردنا أن نعتمدها، يجب أن نعتمدها بشكل كلّي، دون تجزيئها، وإذا فعلنا، حسب رأي صديقي دائما، فسنسقط حتما في تعارض تامّ مع كثير من أوامر ونواهي القرآن الكريم، وإذا أخذنا منها ما يلائمنا وتركنا الباقي، فهذه ليست ديمقراطية حقيقية، أو ما يمكن تسميته ب"الديمقراطية دْيال بلعاني"! 2- كلام صديقي يحمل نصيبا من الواقعية والدقة والصواب، فكثير من المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، تتعارض جملة وتفصيلا مع نصوص القرآن. الإعدام مثلا، حسب هذه المعاهدات، يعتبر انتهاكا صارخا لحق الإنسان في الحياة، لكن القرآن الكريم يقول العكس: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تفلحون). سورة البقرة، الآية 179. ومن هذا القصاص الذي أمر به القرآن الكريم، الاقتصاص من القاتل: (النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالإذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص). سورة المائدة، الآية 45. المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تنادي أيضا بتوفير الحرية الفردية للأفراد والجماعات، ومنها حرية ممارسة الجنس بعد بلوغ سنّ الرشد القانوني خارج إطار الزواج، أو ما يسمّى بالزنا في الإسلام، لكن القرآن الكريم يعارض هذه الحريات جملة وتفصيلا: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين). سورة النور، الآية 2. المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان تنادي أيضا بحرية الاعتقاد الديني، لكن البلدان الإسلامية/ العربية، تمنع هذه الحرية، مستندة إلى بعض الأحاديث النبوية مثل حديث (من بدّل دينه فاقتلوه). من خلال الأمثلة الواردة أعلاه، نكتشف فعلا، أن الديمقراطية بمفهومها الكوني الشامل، يستحيل أن تتعايش مع الإسلام. 3- لكن، هناك مسألة مهمة يجب عدم إغفالها، وهي أن الأوامر التي وردت في القرآن، يقتضي تنفيذها توفّر مناخ صالح وملائم لذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الخلفاء الراشدون، الذين كانوا ينفذون هذه الأوامر، إبّان نشوء "الدولة الإسلامية"، لا يمكن مقارنتهم بأي حال من الأحوال بحكام البلدان الإسلامية اليوم، بمن في ذلك الأكثر تشددا. فالشرط الأول الذي يجب أن يتوفر في أي حاكم قبل الإقدام على تنفيذ شرع الله هو العدل، الذي هو أساس الملك، وهو كما يعلم الجميع آخر خصلة يمكن العثور عليها لدى أغلبية حكام العالم الإسلامي، أما الحكام العرب فالجميع يعلم أنهم ظالمون. فهل يوجد في العالم الإسلامي، أو في أغلب دوله حاكم واحد، يستطيع أن يكون عادلا، ويساوي بين أفراد عائلته وأهله وأفراد شعبه، ويجعل أفراد هذا الشعب متساوين أمام القانون؟ بالطبع لا. إذن، هؤلاء لا يجدر بهم أن ينفذوا أحكام القرآن الكريم ما دام شرط العدل غير متوفر فيهم. فالله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين). سورة النساء، الآية 135. فالإمام أو القاضي الذي يحكم بقطع يد السارق، وينفّذ الحكم باسمه، وهو بنفسه يسرق أموال الشعب ويختلسها ويقبض الرشاوي، لا يجدر به أن يأمر بقطع يد أي سارق، سواء سرق جمَلا أو بيضة، لأن يداه هما أولى بالقطع من يدي السارق! 4- صديقي حكى لي واقعة غريبة لتأكيد استحالة تعايش الإسلام مع الديمقراطية بمفهومها الكوني، وروى، والعهدة عليه، أن أحد العلمانيين المصريين الداعين إلى الأخذ بالديمقراطية الغربية كما هي، شارك في أحد البرامج الحوارية على شاشة فضائية مصرية، وكان طيلة مدة البرنامج يدعو إلى العلمانية وتطبيق الديمقراطية بحذافيرها. وفي صباح اليوم الموالي، استيقظ على وقْع رنين جرس منزله، وعندما فتح الباب وجد شابا طلب منه بهدوء أن يأذن له بالدخول، وعندما استفسره عمّن يكون، أجابه الشاب بأنه واحد من الذين شاهدوا الحلقة التي شارك فيها، وجاء لمضاجعة ابنته تطبيقا للحرية الفردية التي دافع عنها الرجل في البرنامج التلفزيوني في الليلة الماضية! لتنتهي القضية لدى البوليس، لأن صاحب البيت لم يتقبّل "وقاحة" الشاب ودخل معه في عراك. هذه الواقعة التي استدلّ بها صديقي، تعبّر بشكل كبير على أن الكثيرين ينظرون إلى الديمقراطية فقط في علاقتها مع ما هو أخلاقي، عوض النظر إليها في بعدها السياسي، وهذا ما نلمسه اليوم من خلال الصراعات والحروب الوهمية حول منع الخمور، والسماح بالإفطار في رمضان، والحق في ممارسة الشذوذ الجنسي إلخ.. في الوقت الذي صار فيه الجميع تقريبا، بمن في ذلك الأحزاب السياسية والجمعيات الحقوقية غير مكترث بدمقرطة المجال السياسي، وهذا بالضبط ما يبحث عنه الحكام. شخصيا، أرى أن الأولى، هو دمقرطة المجال السياسي أولا، حتى تكون لدينا انتخابات تشريعية ورئاسية يستطيع من خلالها الشعب أن يحكم نفسه بنفسه، وهو التعريف الشامل لمصطلح الديمقراطية، وبعد ذلك يمكن التفرغ لما هو اجتماعي. فحتى في البلدان الديمقراطية العريقة، هناك تفاوت في هذا المجال، هناك على سبيل المثال دول تبيح زواج المثليين، بينما دول أخرى تمنع ذلك، ونفس الشيء بالنسبة للإجهاض وغيرها من "الشؤون الاجتماعية"، لكن هذه الدول جميعها، يجمعها قاسم مشترك، وهو دمقرطة الحياة السياسية. 5- وبما أن العرب والمسلمين متخلفين في المجال الديمقراطي، مع استثناءات قليلة جدا، فهم بحاجة إلى قدوة يقتدون بها في هذا المجال. بالنسبة للعرب مثلا، أكبر مثال يمكن الاحتذاء به هو تركيا، لكونها قريبة منهم ثقافيا وحضاريا ودينيا، ولديها حدود جغرافية تربطها ب"العالم العربي"، لكن المشكلة هي أن تركيا دولة علمانية، على الرغم من أن غالبية سكانها مسلمون، والعلمانية كما يعلم الجميع عدو لدود لكثير من العرب! هناك من يقترح نماذج أخرى، مثل النموذج الإيراني، ونموذج تنظيم "القاعدة"! كما فعل الأخ نور الدين لشهب من خلال تعليق على الحوار الذي أجريته مع الهادي شلوف، وهنا أفتح قوسا لأقول للسيد نور الدين، بأن إيران ليست، ولا يمكن أن تكون نموذجا يُحتذى به في مجال الديمقراطية، لأن "الديمقراطية الإيرانية" ليست سوى وهْما، ما دام أن القرار الأخير في الملفات الكبرى لا يعود للرئيس، بل للمرشد الأعلى للجمهورية، فالجميع يعلم أن السلطات المخولة للرئيس في إيران، بمن في ذلك الرئيس الحالي أحمدي نجاد، لا فرق بينها وبين السلطات المخوّلة لعباس الفاسي! أما "نموذج تنظيم القاعدة"، فأنا لا أفهم لماذا اقترح الزميل نور الدين هذا النموذج السيئ للغاية. قد يعود الأمر ربما إلى "زلة قلم"، لأنني متأكد من أن السيد نور الدين لن يستطيع العيش تحت ظلال حكم يتزعمه أحد أتباع بن لادن، مثل حكم تنظيم "الطالبان" في أفغانستان قبل سنوات، لأنه بكل بساطة، سيفقد حتى القليل من الحرية الذي يتمتع به الآن، ولن يستطيع أن يكتب مقالا تحت عنوان "الرجل الذي باع مؤخرته" وينشره في موقع هسبريس، لأنه إذا تجرأ وفعل ذلك، سيتم جلده مائة جلدة أو أكثر، وربما قُطعت يده التي يكتب بها، بعد أن يلفقوا له تهمة الإخلال بالأخلاق والآداب العامة! فما هو الحل إذن؟ الحل في نظري، هو أن يترك الجميع دمقرطة المجال الاجتماعي جانبا، ويتفرغوا للسعي لدمقرطة المجال السياسي، وعندما يحصل ذلك، فسوف تكون لدينا أحزاب قوية، ببرامج مختلفة، تستطيع الشعوب أن تختار منها ما يلائمها، إذ ذاك إذا أرادت هذه الشعوب أن تشرْعنَ زواج المثليين وحرية الاعتقاد الديني وممارسة الجنس خارج الزواج، فأهلا وسهلا، وإذا قررت أن تظل محافظة على أعرافها فلن يستطيع أحد أن يمنعها من ذلك. الأهم إذن، في الوقت الراهن، هو البحث عن سبل تمنح للشعوب حرية حكْم نفسها بنفسها، وما سيأتي بعد ذلك مجرد تفاصيل. [email protected]