الكاتبة الإسبانية كُونشا لوبث سَارَاسّوا .. وإشكالية الهجرة والإغتراب إلى الصّديق الأديب السّليقيّ فى لغة سيرفانطيس محمّد شقور "على مدى تحليق طائر فوق سماء المغرب" مجموعة قصص قصيرة بقلم الأديبة الاسبانية " كونشا لوبيث ساراسّوا" تدور موضوعاتها حول المغرب، كان قد مهّد لها الأديب الصّديق محمّد شقور، وقدّم لها بالتحليل النقدي، والدراسة، الشاعر، والناقد التشيلي" سرخيو ماتياس" ،أمّا غلاف المجموعة فهو من رسم معروف للفنّانة المغربية الرّاحلة مريم أمزيان تحت عنوان " نساء في حديقة القصر". تضمّ هذه المجموعة أربعة عشرة قصّة قصيرة وهي تعالج برمّتها مواضيع مغربية صرف، كما أنّها مستوحاة من صميم البيئة المغربية في المنزل، والشارع، والطريق، والغربة، والمهجر، والبادية،والحياة اليومية،بشكل عام. وهذه القصص حسب ترتيبها في الكتاب هي كما يلي: تسجيلات للرّيح، الزّائرة ، المتزوّجة حديثا،الطفل والخيزران،الوداع، توقّف في الطريق ،شالّة ، شجرة برتقال في حديقة الوداية ،خلف أشجار الإوكاليبتوس،غرائب الحياة ،رحمة الله،الأحبّة، أحلام القصور،كطائر مهاجر، وقد سبق لي أن ترجمت أعمالاً قصصية لهذه الكاتبة منها قصّتها الرّائعة "توقّف في الطريق" التي وضع لها في اللغة العربية عنوان " في الطريق إلي أرض الوطن "، ،وكانت هذه القصّة قد فازت بالجائزة الأولي في مسابقة "الأندلس" الأدبية . القصص التي بين أيدينا عمل يطفح بأنبل المشاعر الإنسانية، تتضمّن بين جنباتها دفئا إنسانيا صادقا،وإحساسا عارما بإنسانية الإنسان،وشعورا مفعما بهمومه وعذاباته ،إنّ نظرة الكاتبة تنطلق من عين ثاقبة نافذة،إنها تتحدّث عن أبطال قصصها، وكأنّها تحيك نسيج قصصها عن أفراد أسرتها، أو بالأحرى وكأنّها عايشت الأسر المغربية سواء في المغرب، أو في مهاجرها،أوبلدان إقامتها، أوإغترابها بأوربّا، أوفى بلدانهم الأصلية ،إنها تنفذ الي أعماق أبطال قصصها، وتعايش أطفالهم ،وأفراد عائلاتهم ،وتتلمّس آلامهم، وآمالهم ،بل إنّها تنفذ إلى أعماق القرى،والضيع، والمداشرالنائية الواقعة تحت سفوح جبال الأطلس الشّامخة، وترجع إلي الوراء، الي الماضي البعيد ،وتغوص في ثبج عادات أبطالها، وتقاليدهم وهي ليست منهم ، وتسجّل ما يعتمل في نفسياتهم من معاناة البعد عن الوطن الذي تنازعهم أنفسهم إليه.وتعالج القاصّة هذا الموضوع بذكاء حاد، إذ أوّل ما يتبادر الي ذهن المغترب بالفعل هي عادات بلاده وتقاليدها، وعوائدها، كلّ هذه المظاهر عرفت القاصّة كيف توظفها لتخدم السّياق العام للحكيّ في قصصها. إنّ كونشا لوبث ساراسّوا تمتلك مقدرة هائلة علي الوصف، ليس فقط وصف ما هو ظاهرأو بيّن، بل إستبطان مكامن النفس البشرية وإستغوارها .وتترى وتتوالى التساؤلات المحيّرة فى قصصها، ماذا تساوى الغربة والمال الذي يكسبه المرء من جرائها بالقياس إلي الأفق الطليق الأزرق الصّافي؟، إلي القطيع الهادئ يرعى في خنوع؟ ،إلي صوت المؤذّن وهو ينطلق رخيما من أعلى الصّوامع، والجوامع يدعو الناس للصّلاة ؟،إلي سلامة نطق نطق أبناء أبطال القصص، وبعدهم عن لكنة فجّة، أورطانة معوجّة فى لغة أجنبية ؟،إنّ قصص "علي مدى تحليق طائر فوق المغرب" لهي قصص مفعمة بالمعاني الإنسانية الشفّافة التي تلامس شغاف أنبل المشاعر لدى الإنسان في وقت شحّت فيه العواطف الإنسانية النبيلة، وحلّت محلّها الضغينة والأحقاد. بلد السّحر والعطر محمد شقور يشبّه الكاتبة بالورود الناعمة التي تماطل في أن تفتح أكمامها للنّور، إلاّ أنّها عندما تفعل ذلك فإنّها تملأ الدّنيا جمالا، ورونقا،وبهاء، وروعة، وتشيع بيننا ألوانا ربيعية زاهية . إنّ للكاتبة خيالا خصبا ومجنّحا، وهي تجيد إستعمال أو غمس اليراع فى دواة لغة سيرفانطيس بمهارة لتوظيفه في التفنّن في نسج أو كبك مختلف ضروب الإبداع، إنها تجعل أمام أعيننا شلاّلا منهمرا من صورفاتنة ، ومناظر خلاّبة فى بلد جار تربطه علائق وطيدة ببلدها إسبانيا، إلاّ أنّه بلد غير معروف بما فيه الكفاية لدى معظم الإسبان على الرغم من أنّ الوجود المغربي في الأدب الاسباني يرجع لأحقاب بعيدة خلت، إلي الكاتب المسرحيّ المعروف "لوبي دي فيغا"،مرورا ب"بيدرو أنطونيو دي ألاركون"،و"بينيطو بيريث غالدوس"،و"ميغيل دي أونامونو"،و"رامون سبيدر"،و"فيثنطي ألكسندري" وسواهم حتي نصل إلي يومنا هذا مع خوان غويتيسولو، وأنطونيو غالا وآخرين ،إنّ الكاتبة ترى أنّ المغرب بلد يحفل بالأسرار، والغرائب ، والمفاجآت الجميلة ،الشيئ الذي يجعلنا نجد في كلّ حكاية من حكايات هذا الكتاب شذى، وعطرا، وسحرا، وأساطير، وهمسًا ،وأعاجيب. يتّسم أسلوب الكاتبة بالسّلاسة والنقاء، ويقدّم الدّليل علي سعة ثقافتها، ورقّة حسّها الأدبي المرهف . إنّ إقامتها في المغرب، ومعايشتها الوديّة للمغاربة جعلاها تنفذ إلي أعمق أعاميق نفسيات أبطال قصصها، وجعلاها بالتالي تتلمّس عن قرب طريقة العيش، ورصد أحاسيس تلك الشخصيّات، فضلاً عن تمكّنها من لغتها، وتقنية قصصها. ويقول الشاعروالناقد التشيلي سرخيو ماثياس من جهته عن هذه المجموعة القصصية أنّ الكاتبة نظرا لمعايشتها للمغاربة، فإنّها تعرف بشكل جيّد خصائص أبطالها ،ويشير أنّ أسلوبها يتميّز بالبهجة، والفرجة،والمرح،والإنشراح، والأطياف،والألوان، وينبض بالثراء الشاعري.ويؤكّد ماثياس أنّنا واجدون في قصصها الأولي جوّا رومانسيا رقيقا، وتدور موضوعها فى الأساس عن المهاجرين أو المغتربين المغاربة في أوربّا ،وإشكاليات إكتساب عادات جديدة في المهجر، وتصادمها مع التقاليد العربية،والأمازيغية العريقة . مضامين هذه القصص في قصّة "الزّائر" نجد البطل يقوم بزيارة للمغرب إنطلاقا من مهجره بأوروبا للصّلاة في ضريح محمد الخامس،وهي قصّة حافلة بالذكريات الوطنية الحميمة، والمشاعر الدينية .وفي قصّة "توقّف في منتصف الطريق" تعود القاصّة مرّة أخرى إلي موضوع الهجرة والإغتراب، فى إتجاه أوربّا على وجه الخصوص،وهي تغوص بعمق في إشكالياتها معاناة البعاد عن الأوطان، والحنين إلى الماضي الجميل، وتطفو علي سطح أحداث قصصها مواضيع التقاليد بشكل دائم وملحّ. ويكتسي قصّة " شالة " جوّ إسلامي حيث تستهلّ الكاتبة قصتها بآية من القرآن الكريم، وتغوص القصّة في التاريخ، والموروثات،والعوائد المتواترة .وهي تتضمّن وصفا دقيقا، وتصويرا حيّا للمكان الذي تدور فيه الأحداث حيث تنتشر أطلال الآثار الرّومانية وبقاياها القديمة، إلي جانب الآثار المغربية ،بل إنّ القصّة تذكّر بأحداث تاريخية وقعت منذ أزمنة غابرة، أمّا "الطفل والخيزران" فهي تحكي قصّة زوجين يعيشان علي ضفّة نهر ،هذا النهر هو بمثابة مرآة لبطل القصة ،وهذه المرآة تعكس خيالات، وشطحات عقلية البطل الهشة ،وتحدث المأساة بوصول سرب من الخنازير البريّة التي تفسد المزروعات، وتتلف المحاصيل، وتقضي على كلّ شئ، وتملأ المكان فزعاً ورعباً. وفي قصّة "الوداع " نجد الأحداث تدور داخل مقبرة، وهي تترى علي لسان البطل،حيث تطفو على السّطح ذكريات يسترجعها البطل للأموات الذين عايشهم ،وتمتلئ هذه القصّة باجواء تقليدية مغربية عريقة، و يغلّفها جوّ درامي عنيف، قوامه الحزن،والشجن، والكآبة، والوحشة،ويكتنف قصّة "خلف أشجار الإوكالينتوس" طقوس السحر،والتعاويذ ،والتمائم، والطلاسم، والموت. وفي "غرائب الحياة" تتعرض الكاتبة لعائلة إسبانية تعيش في المغرب متغلغلة في التقاليد المغربية، ويدور الحديث عن هذه الأسرة التي تقاوم البؤس والشقاء ،ولم تبتعد الكاتبة في هذه القصّة عن إشكالية الهجرة ،ولا عن إسبانيا، وعن الأندلس الجميلة ،المكان الطبيعي الذي كان ينبغي أن توجد فيه هذه العائلة، حتي وإن كان الأمر هذه المرّة بشكل معكوس. وتحكي لنا قصة "رحمة الله" حكاية شابّ يحصل علي عقد عمل في أوربّا، وتسّر العائلة لهذا الحدث الذي سوف يخرجها من الفاقة والخصاص ،إلاّ أنّ البطل سرعان ما يقع فريسة إدمان المخدّرات، ويموت، ويخلف موته حزنا كبيرا، وفراغا هائلا لدى عائلته في المغرب التي لم تعد تجني سوى الألم، والندم، والحسرة .وتتعرّض قصة "المغرمون" للوجود الإسلامي في الأندلس، وتمرّ بنا خلالها أسماء تاريخية مشهورة مثل ابن خلدون، وابن زيدون، وابن بطوطة وسواهم، و تبدو لنا الأندلس في هذه القصة في إشعاعها الحضاري المتألق تحت راية الإسلام .وترمز الكاتبة بالعشق والوله الحاصلين بين بطلي القصّة مالك وإفرقيا إلي تداخل، وتعايش، وامتزاج الحضارتين الإسلامية والاسبانية. أحلام القصور مستوحاة من مدينة أصيلة المغربية، حيث تقدّم الكاتبة صورة سكانها، وطريقة ربح قوتهم، أو رزقهم اليومي.وسوق مدينة الرباط وهومكان لم يعد فيه أيّ سرّ بالنسبة للكاتبة، فهي كطائر مهاجرتحلّق عاليا، وتدني القارئ من هذه الأجواء المميّزة التي تنبعث منها أصناف شتي من العطور والألوان. جميع القصص المدرجة فى هذه المجموعة تعالج قضايا إنسانية حيوية هي من صميم الواقع المغربي والإسباني، حتى وإن كان بعضها يجعل من الأسطورة مطيّة لهذا الواقع ،وهي تحفل بالخيال، وتغلفها شاعرية رقيقة، وأحداث درامية. "علي مدى تحليق طائر فوق المغرب" تعكس بشكل أو بآخركذلك مدى المحبّة التي تكنّها الكاتبة للمغرب ،وإعجابها به،وببلدها الأندلس ذات الجذور العربية والأمازيغية الإسلامية ،كما أنّ هذه المجموعة تعتبر نموذجا للنضج الأدبي لدى الكاتبة ،ودليلا على قيمتها الفنية، وثراء مضامينها ، وسلاسة أسلوبها ،يضاف إلى ذلك كلّه روح الملاحظة الذكيّة، والخيال الطليق عند الكاتبة. *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا)