قال تعالى: ﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾. بعد الشكر والتقدير للجهات المنظمة لهذا الحفل التأبيني والتي جعلتنا نعيش هذه اللحظة المؤلمة، نحن طلبة المرحوم، جيل (89 – 93) بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر بأكادير، اللحظة التي نخجل فيها من أنفسنا ومن واقعنا الرديء الذي عاش فيه المرحوم مهمشا ومقصيا ومنسيا. فاسمحوا لي أن أقرأ بين أيديكم هذه الكلمة التي تحمل اعتراف جيل جامعي تشرف بالتلمذة على المرحوم. أيها الإخوة الأفاضل: تتدافع في هذا الموقف المهيب واللحظة الرهيبة خواطر تحفر بألم في أعماق ذاكرة تختزن تراكمات وتحولات في الزمان والمكان والإنسان. وتتدفق في مقول النص ومضمونه ومتأولاته فيوض تمتزج بإسار التاريخ، وانكسار الذات، وفروض اللحظة، وامتداد الآتي. إننا في هذه اللحظة المهيبة ننبش في حفريات ذاكرة نسجتها خيوط ضمير جمعي، ورفقة علمية وسيكولوجية، تشكلت في استقالة الشعور واستقلال اللاشعور؛ لذلك أجدني مقذوفا للحفر في تفاصيل زمن جميل غمرناه، نحن الشباب، جيل (89 – 93)، من طلبة المرحوم محمد ابزيكا، بأحلام متنوعة المرتكزات الفكرية والنفسية؛ شباب، حفزه الأستاذ محمد ابزيكا، بل استفزه، لاستكمال طموحات ذاتية وموضوعية تحفها هموم ذات أبعاد متوغلة في المشترك المحلي والوطني والقومي والإنساني، ذات تواقة إلى لم شتات مشروع شخصي يمتح من البنى الفكرية والحضارية، ويروز واقعا تسمه تحولات نهر، بل أنهار، لا يستحم فيها إلا مرة واحدة. أيها الإخوة الأفاضل: كان الزمن في المنحدر الأخير لألفية طويت صفحاتها؛ وكان بحق، بالنسبة لهذا الجيل الذي أطره المرحوم محمد ابزيكا، ووجهه واستفزه فيصلا في ثبات القناعات والمرجعيات، أو في اهتزازها وتزلزلها؛ فقد قدر لجيلنا أن يرى رأي العين انهيار اختيارات وتجارب أطرتها مرجعيات كانت قد ألهبت حماسات وانفعالات جيل من الرواد، وظهور اختيارات أخرى تغذت بها أفواج من الشباب الباحث عن التغيير، كما ضاعت فئات أخرى وسط الأمواج المتلاطمة لذينك الاختيارين. وأما المكان فهو بلدة طيبة آمنا أهلها، ترشف مياه وادي سوس الحاملة أسباب الخير والبركة. واختير لها من الأسماء "البياض"، الموحي على عالم واسع من دلالات العطاء والصفاء والحب. تنسلخ في تؤدة عن بداوة فطرية وأصيلة يعشق فيها الإنسان أمه الأرض التي تحنو عليه ببسائط طعام يمشي به إلى الأسواق، لتلبس أثوابا رئيت في التطاول في البنيان، والزحف غير المقدس على المروج الخضراء والسواقي الغناء، والتحول من عشق الأرض إلى عشق ثمن الأرض. وفي مثل هذه التحولات تسبر معادن الناس وتختبر. وفي خضم هذا، أتاح فضاء كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر، الوليدة يومذاك، لجيلنا فرصة معايشة ما يفعله الزمان في الإنسان بالمكان. وحيث إننا كنا في مرحلة استواء الأجسام والأبدان، وفي موسم الهجرة من مكان إلى مكان لبناء أعشاش الأفكار في الأذهان، فقد كان للحظات تقاطع الإنسان بالزمان في المكان أثر وأي أثر؛ كانت اللحظة لحظة اختيار النموذج المعرفي والنمط الفكري، وتلبس ذلك اللبوس الذي اعتبروه يوما أنه الرجل، أقصد الأسلوب، فوجدنا في أساتذة أجلاء في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير هذا المبتغى. ولكن مكر الزمان بالإنسان كان مكرا كبيرا؛ فمكر بأساتذة كانوا أقطابا؛ منهم من اختطفته يد المنون في غفلة من الجميع فقضى نحبه، ومنهم من عبث به المرض وأقعده الفراش حتى ملهم وملوه، فاختطفهم الموت؛ ومنهم أستاذنا الراحل محمد ابزيكا رحمه الله. أيها السادة الأفاضل: إن سيرة الأستاذ محمد ابزيكا، تختصر بالنسبة لنا، مرحلة كاملة من التدريس الجامعي المبدع، والبحث الطموح، والسؤال المقلق، والنضال الثقافي العضوي والملتزم؛ فقد كان المرحوم نموذجا للباحث المسكون بشغف القراءة والبحث والاستقصاء والتساؤل. عرفناه صاحب اطلاع واسع ودقيق على المناهج النقدية الحديثة: (البنيوية، والبنيوية التكوينية، والسوسيولوجيا، والتحليل النفسي، والتاريخ...) قرب إلينا هذه المناهج والمدارس، من حيث مرجعياتها ومناهجها ومفاهيمها، بأسلوب ممتع ولغة رشيقة وأمثلة تداولية عميقة. كما تعلمنا منه استثمار هذه المناهج والنماذج والنظريات من الناحية الإجرائية، وساعدنا عل تبين حدودها، وكيفيات الانتفاع بها في تحليل النصوص ومقاربة الظواهر الأدبية والثقافية والاجتماعية. وكانت حصص درس الأستاذ محمد ابزيكا، ورشات علمية وتحليلية، للتعمق في قضايا النقد الحديث، والشعريات العربية الحديثة، وقضايا النقد الثقافي مع انفتاح عميق على التراث الشعبي المغربي والشرقي؛ فقد كانت تستهويه، رحمه الله، الاتجاهات الثورية في الإبداع الشعبي، لأنها كانت تحمل أجزاء من رؤاه التغييرية، هذه الرؤى التي لم يكن يخجل من ذكرها، والدفاع عنها؛ رؤى تجد مستقرها في عمق المجتمع وفي طبقاته الشعبية المسحوقة؛ فقد كان الأستاذ محمد ابزيكا، ابنا أصيلا من أبناء المغرب العميق، ملتحما بمعاناته، ومساهما في رسم معالم آلامه وطموحاته وآماله. لذلك كان الأستاذ محمد ابزيكا متتبعا، بالبحث الأكاديمي الرصين، للمجموعات الغنائية الملتزمة بقضايا الشعوب؛ مثل ناس الغيوان، وإزنزارن، وجيل جيلالة، والثنائي أحمد فؤاد نجم/ الشيخ إمام. وقد كان قريبا جدا من مجموعة إزنزارن مكانا وروحا. أيها السادة الأفاضل، لقد عرفنا في الأستاذ محمد ابزيكا، رحمه الله، روح العمل الجدي والاجتهاد المستمر، ودينامية الشباب. كان قريبا من الطلبة ومنصتا إليهم، صاحب أخلاق علمية راقية، وصرامة أكاديمية لا تخطئها العين. وكان صاحب خط جميل، وصاحب ابتسامة تخفي حزنا دفينا. عاش كبيرا ومات كبيرا، رحمه الله. إنا نرى أن الأستاذ المرحوم محمد ابزيكا قد لخص تجربة حياته كما لخصها صديقه وشبيهه أبو حيان التوحيدي في شكل حوار ذاتي مع نفسه الباطنة، ثم مع عالمه الخارجي، يصعب معه في كثير من الأحيان فرز المخاطَب عن المخاطِب، خاصة في لحظات التوهج الروحي، والتشظي الذاتي قائلا: (حبيبي: أما ترى ضيعتي في تحفظي؟ أما ترى رقدتي في تيقظي؟ أما ترى تفرقي في تجمعي؟ أما ترى غصتي في إساغتي؟ أما ترى دعائي لغيري مع قلة إجابتي؟ أما ترى ضلالي في اهتدائي؟ أما ترى رشدي في غيي؟ أما ترى عيي في بلاغتي؟ أما ترى ضعفي في قوتي؟ أما ترى عجزي في قدرتي؟ أما ترى غيبتي في حضور؟ أما ترى كموني في ظهوري؟ أما ترى ضعتي في شرفي؟ لقد عاش الأستاذ محمد ابزيكا غريبا كما عاش التوحيدي، غريبا في غربته، غريبا بلا جنسية: (لا اسم له فيذكر، ولا رسم له فيشهر، ولا طي له فينشر، ولا عذر له فيعذر، ولا ذنب له فيغفر، ولا عيب عنده فيستر). (إذا قال لم يسمعوا له، وإذا رأوا لم يدوروا حوله(...)، إذا تنفس أحرقه الأسى والأسف، وإذا كتم أكمده الحزن واللهف (...)، إذا سأل لم يعط، وإذا سكت لم يبدأ (...)، إذا عطس لم يشمت، وإذا مرض لم يُتَفقد (...)، إن زار أُغلق دونه الباب، وإن استأذن لم يرفع له الحجاب). رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون.