الخروج من فم الثعبان ربع قرن في سجون الجزائر البوليساريو ملحمة إدريس الزايدي ربع قرن في سجون الجزائر البوليساريو ملحمة إدريس الزايدي أرسلت رفقة عشرة آخرين لمخيم أوسرد الجديد.اشتغلنا في صناعة "البريك" الأحمر، وهو ما سبب تشققات في قدمي لحد الآن، تراب أحمر كأنه الحديد يسري مع الأرجل ويخترق الجلد.بعد عشرة أيام أرجعونا لأوسرد على متن شاحنات، ومباشرة اقتادونا إلى المعتقل.التقينا إخوة لنا صاروا عبيدا مع مرور الوقت، عبر الاشتغال في تنظيف القادورات.سلمنا الحراس لرجل يسمى محمد من أولاد دليم، طلب منهم الابتعاد وأخذ في التحدث إلينا.سألني عن إسمني فأجبت أني إدريس فبدا كما لو أنه سبق له أن سمع بي.قدم لنا فطورا ثم صارحنا بقصته وطلب منا نحن"أبناء عمه" أن نعينه في أمر.قال لنا محمد إن الزبانية ينهبون ويسرقون وانه لن يضيع فرصة مشروع مساعدات إسباني قيمته حوالي مليار يقضي بأن يقيم الرجل ضيعة لتربية النوق والماعز لتقديم الحليب لمرضى السل. وأضاف أنه سينتهز الفرصة وسيعود للمغرب.وفعلا بدأنا في مساعدته ونقل الحجارة وزرع الأعمدة في التراب، ثم أضرمنا النار في عجلات السيارات واستخرجنا منها أسلاكا شبكناها مع أعمدة خشبية مسروقة من ضواحي تندوف وأقمنا زريبة لتربية المواشي ليبدو الأمر جديا.كان تمويها منا لنضمن وصول المساعدات الإسبانية للرجل، وهي الأموال التي سيوصلها لاحقا للمغرب بطريقته الخاصة.وبالمقابل أكرمنا بأن ذبح لنا خروفا وقدم لنا فواكه إسبانية وحلويات.وأمر الحراس بألا يقتربوا منا في غيابه.وفعلا جاء وفد إسباني لمعاينة المشروع، وقد راقبنا الإسبان من مخبإ قريب.كان عليه إبعادنا ريتما يرحل الأجانب.انتهزنا الفرصة لكي نرتاح قليلا، ونرشف بعض الشاي الذي تكرم به علينا ذلك الصحراوي الطيب. في تلك الأيام نظم عدد من السجناء الصحراويين عملية فرار نوعية إلى المغرب ساعدهم فيها محمد ولد الركراكي الملقب بجامع.كان من بين الأسرى أخ مكنى سكالامان.وكانت لجامع فكرة بسيطة، لكنها تقتضي عملا بطوليا: كان يقول إنه هو من أعتقل الناس وعليه إرجاعهم للوطن.كان صنديدا قوي الشخصية.في منتصف النهار، وفي واضحة النهار، فر بالأسرى.بعد أن علمنا بالعملية أخذونا إلى الرابوني، وتزامن وصولنا إلى هناك مع ترحيل الضباط المغاربة الأسرى إلى عوينة بلقرع، مخيم الداخلة، إبعادا لخطر سجناء غير عاديين عن الموقع.وفي إثر العملية عاقبوا سجناء "الوحدات" بشكل بشع.المخابرات الجزائرية هاجت وماجت، وفي مثل هذه الأحداث يكون حسابهم للبوليساريو شديدا. ذلك الأسبوع قدمت قافلة مساعدات إسبانية ضخمة محملة بما يلزم لبناء ستة مدارس في مناطق متفرقة.كنت ضمن المجموعة التي أخدوها من الرابوني إلى مخيم تسعة يونيو.بعد أربعة أيام، جاءنا مسؤولان أمنيان هما حما ولد مالو وولد المولودي.نودي علي رفقة خمسة آخرين وأمرونا بألا نشتغل صباحا ليأخدونا مجددا إلى الرابوني.في الرابعة صباحا أيقظونا وتركونا ننتظر.حملونا في شاحنة ترافقها سيارة جيب للحراسة.من الرابوني وزعونا على مواقع جديدة،وكانت وجهتي مخيم الهلال، لأشتغل عند المسى امبارك ولد النبط، وهو قائد المركز.بمجرد وصولي،نادوا علي وعلى حسن الشاوي وأمروني بالوقوف.بعد ذلك سلموني لسائق عبيدة الشيخ المسمى لسياد، وهما من قبيلة سلام بالجزائر.السائق صارحنا بأن الغرض من استقدامنا ليس العمل بل للمشاركة في التهريب بتفريغ أكياس السلع ذات العلامات في أخرى لا علامات عليها، ونفس الشيء بالنسبة للعلب. أدخلونا إلى حاوية مليئة بالأرز وبدأنا في التفريغ بشكل متقن. وفي كل أسبوع كان عبيدة الشيخ يستفيد من شاحنة كبيرة من السلع، يعود ربحها عليه وعلى شريكه ولد البوهالي.بعد ايام انضم إلينا شخصان آخران، وصرنا نتناوب على العمل والحراسة، لأن الأمر يتعلق باختلاسات منظمة في قلب الجبهة الفاسدة.آلاف الأطنان من الأرز والدقيق والزيت والمصبرات مرت بين أيدينا قبل أن تجد طريقها إلى الأسواق الأفريقية.لكن أكبر قافلة مساعدات رأيتها تمثلت في مائتين وتسعين شاحنة محملة بالسلع والمصبرات واللباس وقطع الغيار والتجهيزات الطبية ومعدات الطاقة الشمسية.اختاروا الشاحنات المحملة بأغلى السلع كي تتوجه ليلا لما يسمى الكتابة العامة، التي صارت مخازن للتهريب خاصة بمحمد عبد العزيز شخصيا.الجهات المانحة حاولت فرض نوع من المراقبة عند تفريغ المساعدات لكن المرتزقة كانوا يجدون دائما في تقديم الفتيات لأعضاء لجان المراقبة مخرجا للاستحواذ على السلع.الجزائر، بدورها، أرسلت ضباطها، ليس بغرض المراقبة ولكن لتأمين حصة الطغمة العسكرية من الغنائم.الجنرال محمد العماري مثلا استفاد من شاحنة كاملة من الأحذية والملابس الجلدية قادمة من إنجلترا، وكان اسم القافلة "قوس قزح"،وعادت الشاحنات العسكرية التي ذهبت بالمساعدات إلى الجزائر محملة بثمر رديء جدا يترفع عن أكله الدواب.وللالتفاف على الإنجليز كان لابد أن تمر القافله بتندوف أولا،وليس بوهران، كي يبدو الأمر طبيعا وأن السلع متجهة "للشعب الصحراوي".وفي تندوف،وتحديدا في ما يسمى مقر التعاونية كانت الأيادي الجزائرية في الانتظار، ومن بين الأسماء المشتغلة هناك أذكر يربا ولد زعيدر وعبد الله ولد أحمد الزين الملقب بالظلي، وابراهيم السالم ولد صالح وبوجمعة،ولد مسعود المتزوج من جزائرية، محمد البشير الملقب بباسرو من سكان تندوف وأحد مسشتاري محمد عبد العزيز. كانت القوافل تأتي شهريا من أروبا باسم المخيمات، ولم يكن أهل المخيمات يشمون حتى رائحة تلك المساعدات ولا حتى أخذ صور تذكارية معها.ففي أحسن الأحوال كانت السلع تصل إلى مركز الهلال وانتهى الأمر.والطريف أنه حتى ما يسمى بوزير المجاهدين في جارتنا الشرقية كان يجاهد قدر نفوذه في تلك المساعدات ويستولي على ما يتيسر له من أطنان.وإمعانا في التسول الدولي المربح، كانت السلطات الجزائرية تعمد إلى تجفيف المخيمات من كل شيء ثم البكاء على "الشعب الصحراوي الذي يموت جوعا"، بينما الخيرات ترحل إلى مركز النخيلة حيث توجد ضيعات تربية الدواجن التي تحولت إلى مخازن للتهريب.ثلاجة ولد الميلس مثلا كانت مليئة بالأطنان، والبؤساء في المخيمات يتضورون جوعا. وللتخلص منا نحن الأسرى الذين أصبحنا خبراء في تقديم الدعم العضلي للمهربين،وبالتالي توفرت لدينا معلومات عما يحدث،واتقاء لأية وشاية منا، فكروا في استبدالنا بآخرين وإرسالنا لبناء سجن الدرك في "عظيم الريح" حوالي مائة كيلومتر إلى الجنوب الشرقي للرابوني، حيث أعدموا الشهيد اليوسفي شنقا. في ذلك المركز الملعون يوجد نوع من السجناء مثل من شاركوا في الانتفاضة.وهناك بنينا نوعا من الزنازين لا تخطر على بال.سجن تعتبر سجون المغرب مقارنة معه جنة فوق الأرض، ولا غرابة فالمرتزقة تلاميذ نجباء يستفيدون من خبرة الجزائر في تعذيب شعبها ومعارضي نظامها العسكري.هذا هو التجسيد العملي لتبادل الخبرات، بالمعنى القبيح. رياح الأممالمتحدة تهب كلفوني بالصباغة في قسم الأفراد ليوم واحد وبعدها أرسلوني إلى مركز "الهلال". تزامن وصولي إلى هناك مع قرب زيارة الصليب الأحمر الدولي لنا.ولنبدو أقل استعبادا، أمرونا بتنظيف ثيابنا.وقد أصر أعضاء الصليب على رؤية عشرة أشخاص بالإسم كنت ضمنهم، ولم يكونوا قد قابلونا من قبل. رحلونا صباحا إلى وادي بوكلفة،إلى مركز أبراهام السرفاتي تحديدا،حيث سيكون اللقاء مع الصليب الأحمر الدولي.أثناء أخذنا إلى هناك حاول المرتزقة التلطف معنا.المسألة فيها لقاء بهيئة دولية وأجانب.في مركز السرفاتي التقيت بالسيدة ماريا ومعها فلورانس من اللجنة الدولية للصليب الأحمر،وهناك تحدثوا إلينا في كل شيء واستغربنا أنهم يتقنون العربية وحتى اللهجات، بما فيها لهجتنا المغربية الدارجة. ماريا كانت تشجعنا على الحديث بالدارجة وتقول لنا إنها أختنا.ومع أننا لم نر النساء أكثر من عقدين، فقد كانت تجلس بيننا في اطمئنان وتتقرب منا.كنا نعاملها فعلا كأخت.وقد ارتاح الصليب الأحمر لسلوكنا ووعينا، وصنفنا أحسن مساجين في العالم وأكثرهم انضباطا وحسن خلق. أعطونا أرقاما دولية وضمنوا لنا إيصال رسائلنا إلى الأهل بأننا مازلنا على قيد الحياة.كتبت رسالة عادية تقول إنني مازلت حيا وسلمت على الأهل.لم أزد أية معلومة لأنني كنت أعلم بيد من ستقع تلك الرسالة.بيد الأعداء الذين لم نعترف يوما بكيانهم.ومازال الأحياء يذكرون شجاعة الأدجيدان قدور الذي قارع الجزائريين على مرأى من الجميع وتحداهم أن يقتلوه لو وجدوا بين الأسرى فردا واحدا خانعا أومستسلما، لقد رفع من هاماتنا عاليا ونحن بين يدي سجانينا.وأذكر الطبيب الفرنسي، لارك، وهو أخصائي أمراض عيون كان يزيل "الجلالة" لبعضنا.الرجل لامس عن قرب صلابتنا فلم يتمالك نفسه وصرح بصوت عال أننا شعب لا يمكن لأي بشر أن يذله، وعرج على تاريخنا وتصدي أجدادنا للنازية. [email protected] mailto:[email protected]