حدثنا أحد الوزراء السابقين على سبيل النكتة فقال: ما أن يلج الوزير مكتبه لأول مرة، وقد انتهت مراسيم التنصيب وتبادل السلط، حتى يجد في درج مكتبه ملفا به ثلاثة أظرفة مرقمة ومغلقة تحمل ثلاث وصايا، مع التوصية بعدم فتح أي ظرف مهما كانت الإكراهات أو الصعوبات التي ستواجه الوزير في قيامه بمهامه وضرورة استمراره في المغالبة والمصابرة، إلا أن يجد نفسه مغلوبا في النهاية وقد انتهت كل أسلحة المقاومة لديه ففي هذه الحالة يمكنه أن يفتح الظرف الأول وإذا ألمت به نفس الظروف لاحقا أو أكثر منها شدة وَسِعَهُ فتح الظرف الثاني وإذا أتت عليه الشدائد من كل جانب فليفتح الظرف الأخير.. يبدأ الوزير عمله ومباشرة ملفات قطاعه، وما أن تنتهي أسابيع العسل بانتهاء مهلة المئة يوم حتى تبدأ أسابيع "البصل"، فيبدأ البرلمانيون في المساءلة والانتقاد ويَحِيرُ صاحبنا في الجواب والإقناع، فتحدثه نفسه بفتح الظرف الأول ثم يطارد الفكرة لكنه يستسلم في النهاية، فإذا به يجد الوصية الأولى له بضرورة مخاطبَة المنتقدين بلغة الإرث الثقيل الذي تركه له سلفه وأن جيوب المقاومة تختبئ داخل الوزارة ويلزمه الوقت لتصحيح الوضع الموروث، فيبدأ في ترديد هذه اللازمة ويصدقه المغفلون، لكن ما يلبث أن يطول الأمد دون أن يلمس البرلمانيون حصيلة مشرفة وتبدأ الثقة في الاهتزاز ويشتد الأمر مرة أخرى على الوزير المسكين فيتذكر الظرف الثاني فيتعوذ من الشيطان ويصمم أن يواجه الرياح العاصفة، غير أن مقاومته تنهار في الأخير، فلا يجد بدا إلا أن يفتحه ليجد الوصية الثانية له بأن يغازل المنتقدين بلغة الاستراتيجات والمشاريع وكون السلف كانت تعوزهم الرؤى والبرامج، فينقلب خطابه من لغة الإرث الثقيل إلى هذه اللغة الجديدة، وقد يستدعي مكاتب الدراسات فعلا ويغدق عليها الاعتمادات، فيتريث المنتقدون فاسحين المجال لهذه الاستراتيجيات أن تتبلور، غير أن الوقت يمر والولاية توشك أن تنقضي ولمَّا يروا في الواقع شيئا يذكر، فتبدأ العاصفة هذه المرة وبشكل أعنف ويضرب وزيرنا الأخماس في الأسداس ويبحث عن مخرج من الورطة فلا يجد من سبيل إلا أن يلتمس النصيحة الثالثة في الظرف الأخير فإذا به يجد فيه: هيأ ثلاثة أظرفة لمن سأتي من بعدك! شهدت الحكومة قبل أيام تعديلا جزئيا جديدا عصف بوزراء وأتى بآخرين، وهو التعديل الذي تناولته الصحافة من زوايا متعددة كما صدرت بشأنه مواقف سياسية متباينة، غير أني سأنحو في هذه المعالجة منحا مختلفا قائلا إن هذا التعديل إذا كانت له من حسنات فقد أعاد الاعتبار لأهل القانون في تولي المسؤوليات العمومية، التي لا يصلح في بعضها غيرهم، وإن كنا قد شهدنا في السابق وما نزال نشهد اليوم تعيين وزراء ومسؤولين سامين في بعض القطاعات ذات الطبيعة القانونية هم في مجال القانون ك" الأطرش في الزفة" كما يقول إخواننا المصريون، والأنسب لهم ربما أن يشيدوا القناطر أو يحفروا الآبار أو يديروا مصانع لصنع السيارات لا أن يديروا قطاعات، القانون مادتها وأداتها.. إلا أن المثير للحيرة في هذا التعديل هو أنه حامل لرسائل عديدة لعل من بينها هو أنك قد تشتغل وقد لا تشتغل، قد تكون متخصصا وقد لا تكون، قد تكون سياسيا وقد تكون تقنوقراطيا، قد تكون أمينا عاما لحزب أو تكون في ذيل التراتبية الهرمية داخل الحزب، قد تكون عضوا في حزب آل إلى المعارضة أو تكون في حزب منبطح لم تعد له لاآت1، كل هذا لا يهم في معايير ركوب قاطرة الحكومة ولا مغادرتها، ولكن الأهم عند صانعي القرار والمؤثرين فيه أن هناك "قواعد" تتحكم في اللعبة وعلى من يلج أسوار الوزارات أن يفهم الدرس جيدا وأن يعتبر بمن سبق، وغير المنضبطين لهذه القواعد أو من يريد النضال من موقع الوزير أو يبتغي الاستعفاء حين لا يسعفه الاستمرار أو ينتصر للقواعد المؤسساتية والقانونية ويريد حماية العاملين معه أو يحرص أحيانا على فرض استقلالية القرار داخل وزارته، أما هؤلاء ومن يشبههم فليسوا في حاجة لانتظار انتهاء ولاية خمس سنوات أو الاضطرار لقراءة الأظرفة الثلاثة، فقد تعصف بهم الرياح أو الأمزجة في أي وقت.. وفي الحقيقة، بالنسبة لهذه الشريحة التي لا يقبل أفرادها بغير ما يرتضيه المنطق الديمقراطي وقواعد دولة القانون والمؤسسات، من المفيد إذا استوزر أحدهم يوما ألا يجدوا في انتظارهم إلا ظرفا واحدا لا ثلاثة، وليسوا في حاجة لانتصاف الولاية أو انتهائها لقراءة ما بداخل الظرف، فيكفي أن تكون الوصية بضرورة الاستعداد منذ يوم التنصيب لمغادرة مكتب الوزارة في أي وقت، مثل الموت الذي "يترصد" الإنسان لا يدري متى يحل أجله، هل بعد ساعات أو أسابيع أو شهور أو سنوات.. أما الوزير الذي يلج الوزارة وهو في ملفاتها وقضاياها أفرغ من فؤاد أم موسى، دون أن يكون له أو لحزبه تصور أو رؤية لما ينبغي فعله ومباشرته، أو ألا تكون له الأهلية العلمية والمؤهلات الشخصية لقيادة التغيير في قطاعه ويستسلم في النهاية أسيرا لإدارته، أو لا يضع للإكراهات والتحديات الخارجية والإرث السلبي الذي ورثه عن سابقه موقعا في استراتيجيته ومقاربته، فمن الأفضل له أن يعود أدراجه ولو بعد حين، ولن تسعفه الخمس سنوات ولو اكتملت لمراكمة إنجازات مشرفة ترفع الملام، هذا إذا لم يكن عدم استوزاره أصلا هو عين الصواب..أما من انتفت منهم هذه الصفات القبيحة فلن يكون في حاجة للأظرفة الثلاثة وربما لن يروا داعيا لترك مثلها لمن سيخلفهم.. [email protected] mailto:[email protected]