في إطار الترحال الاستطلاعي والنقدي مع أعمال وتأملات هانز كونغ في طرحه لمشكلة الدين في السياق الغربي، يعتبر كونغ أنه في هذه الفترة الصعبة من مأزق الحداثة، فإن المشكلة لا تكمن فقط في "نسيان الكينونة" كما توهم هيدغر، وإنما في نسيان الله. فالإنسان ذو البعد الواحد على حد تعبير ماركوز لا يستطيع أن يخلق لنفسه بعد التعالي، والأمل لا يمكن أن يتحقق في حالة انعدام أي تأسيس للوجود البشري أوفي حالة انعدام المعنى المطلق الذي يشعر الإنسان بالطمأنينة. والمعنى المطلق عجزت الحداثة عن توفيره ووحده الدين إذا ما فهم بشكل صحيح قادر على ذلك. إن الإنسان الغربي المعاصر الذي يعيش على فوهة العدمية أو العبثية لم يعد أمامه إلا خياران لا ثالث لهما: فإما أن ينتظر الله كمنقذ أو مخلص، وإما أن ينتظر غودو بحسب تعبير صموئيل بيكيت، ثم يسترسل هانز قائلا: إن الإنسان الأوروبي فقد الإيمان ولم يعد يعرف كيف يعود إليه. هنا تكمن الأزمة الحقيقية للحداثة. وقد أصبح حكماء الغرب وعقلاؤه يعترفون بذلك الآن. وعندما تسألهم يقولون لك: نعم إن الحضارة الغربية حققت تقدما كبيرا على المستوى التكنولوجي والعلمي والصناعي، ولكنها لم تحقق نفس التقدم على المستوى الأخلاقي والروحي. هناك اختلال توازن في هذه الحضارة، والدليل على ذلك أنانيتها وجشعها الذي لا يشبع وتكالبها على أسواق العالم الثالث الفقير الذي يئن من الجوع. كما هي ملامح عالم ما بعد الحداثة الذي يدعو إليه هانز كونغ؟ يرى هذا المفكر أن فترة ما بعد الحداثة لا يمكن أن تكون مجرد انقلاب على الحداثة والتنوير وعودة إلى الوراء كما يحلم المحافظون والرجعيون. إنه لا يوافق على تقديس الحداثة ولا على إدانتها، وإنما يدعو إلى غربلتها لفرز الصالح عن الطالح فيها. وهو يختلف مع هابرماس الذي يدعو إلى مواصلة الحداثة على نفس الخط لأنها "مشروع لم يكتمل" في رأيه. ويرى هانز أن الحداثة مشروع شاخ واكتمل وقد آن الأوان لتجاوزه من خلال المراحل الثلاث التالية: ينبغي أن نحافظ على الحس النقدي لعصر التنوير من أجل أن نحمي أنفسنا من كل الانغلاقات العقائدية أو الأصوليات الظلامية أيا يكون مصدرها. ولكن ينبغي في نفس الوقت أن نقول لا للنزعة الاختزالية التي تتميز بها الحداثة. فالحداثة الأوروبية أو الغربية بثرت الجوانب الروحية أو الدينية التي تشكل الطبقات العميقة من الواقع، واكتفت بدراسة الجوانب المادية أو الظاهرية من الواقع وقالت إنها هي وحدها الموجودة، وما عاداها فخرافات وأوهام. وهنا تكمن النزعة الاختزالية للحداثة الوضعية التي سيطرت على القرنين التاسع عشر والعشرين. ولكن عصر ما بعد الحداثة يرهص بالعودة إلى الإيمان من جديد. صحيح أن العقل والعلم والتقدم أشياء ممتازة بدون شك، ولكنها ليست كافية لوحدها وإنما ينبغي أن نضيف إليها البعد الإيماني والروحي. بعد أن نتجاوز مشروع الحداثة إلى ما بعد الحداثة نستطيع أن ننظر إلى الواقع في كليته المادية والروحية ولا نعود نهتم بأحد أبعاده ونهمل البعد الآخر. من هنا يتبين بجلاء واضح أن الرجل لا يدعو في تقدير هاشم صالح، للعودة إلى الوراء أي إلى العصور الوسطى، ولا إلى التخلي عن المكاسب الأساسية للحداثة والتنوير. كل ما يدعو إليه هو تحقيق المصالحة بين الأديان الكبرى للبشرية عن طريق التركيز على ما يجمع بينها: أي على الرسالة الجوهرية الروحية .فالقوالب والقشور الخارجية ليست هي الأساس على عكس ما يتوهم المتزمتون الأصوليون في كل الأديان والمذاهب. وعلاوة على ما سبق، نجد أن مثل هذه الممارسات القرائية الجديدة هي وحدها الكفيلة باجتنابنا العودة إلى إشكال تدين السلف الصالح أو بالأحرى ما كان يتم اللجوء إليه من شعائر وطقوس باسم هذا الأخير شكلا لا روحا والتي شكلت حاجزا سميكا أمام اندراج مجتمعاتنا في سيرورة التقدم الاجتماعي المعاصر التي طبعت الزمن الحاضر، فضلا عن أنها الكفيلة أيضا بإخراجنا من أنساق القراءات المذهبية الماضية، ومن القنوات التقليدية المحددة قبلا، وعلى رأسها القواعد الشكلية للنحو القديم، وكذا القواميس اللغوية القديمة التي أنتجها العقل اللاهوتي، والتي هيمنت بشكل كبير، طوال حقب تاريخية مديدة، إذ تمكنت بلا منازع، في إرساء قواعد أنظمتها السياسية وأسس أنساقها الثقافية ومنظوماتها الفكرية، وأصول حكمها بشروطها التاريخية وبصراعاتها الموضوعية والذاتية في آن، من أجل تدعيم إستمراريتها التاريخية وترسيخ مشروعيتها السياسية، لكي يظل دوما، استمرار مبدأ التغيير في أتون الاستمرارية بما هي تكريس لآليات إعادة الإنتاج الاجتماعي وتعميق للحضور الشمولي داخل كلية الحقل الاجتماعي العام. * باحث سوسيولوجي