تقدم الأدبيات السوسيولوجية حول مجتمعات العالم الثالث، ومن ضمنهم المغرب، مادة خصبة من الطروحات والنماذج التحليلية الطامحة إلى تأسيس رؤية نظرية ومنهجية ملائمة لدراسة واقع هذه المجتمعات، والتعرف على الآليات والمركبات المختلفة التي تتحكم في هيكلتها وتطورها. غير أن الكثير من هذه المحاولات لم تسلم من الوقوع في شرك تصورات اختزالية لواقع هذه المجتمعات موضوع الدراسة. وذلك حينما ترجع ما تعانيه هذه الأخيرة من تخلف اقتصادي، وسياسي، وثقافي وما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات إلى جانب واحد من جملة الجوانب المتحكمة في سيرها ، وذلك باعتبار أن النظرة الشمولية للواقع المجتمعي المتعدد للمبحوث هي الكفيلة بتشريح بنياته، ومجالاته، وأبعاده، سواء السياسية أو الثقافية منها و نحن بهذا الصدد لا يسعنا في طرحنا المتواضع هذا إلا أن نغوص في أحد أكبر المحيطات المجتمعية أهمية و تعقيدا ألا و هو السير الإقتصادي الذي من شأنه أن يرفع من قيمة كل مجتمع باحث عن تنمية مستدامة تحت لواء مفهوم "السياسة الإجتماعية" العادلة. سعت الدولة منذ بداية الاستقلال، إلى خلق عدد من المؤسسات العمومية، لتكون بمثابة دعامة للاقتصاد المغربي، ومن هذه المؤسسات ما اتخذ صبغة اقتصادية تجارية مثل المكتب الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للماء الصالح للشرب ومكتب استغلال الموانئ، ومنها ما اتخذ صبغة مالية، مثل صندوق الإيداع والتدبير، هذا الأخير يعد مؤسسة مالية تم تأسيسها على شكل مؤسسة عمومية سنة 1959، دورها الأساسي يتمثل في تلقي وتخزين وإدارة موارد الادخار، والتي بحكم طبيعتها وأصلها تتطلب حماية خاصة.من هنا بدأت الحكاية، حكاية الحاضر و المستقبل المليئ بالمزيد من مؤشرات العبث المؤسساتي بأموال الصلح العام، فإيديولوجيا الخوصصة بدأت تفرغ مفهوم المصلحة العامة و التضامن الإجتماعي من مضمونهما أما استقالة الدولة و تراجعها عن دورها التقليدي في خدمة المواطنين، فهذه الإيديولوجيا تجهز على حقوق المواطنين من جهة و على سيادة الدولة و استقلاليتها من جهة أخرى من خلال تفشي مجموعة من المؤسسات الحاملة لصبغيات "فيروس" قاتل تنشر مزيدا من الفقر و الهشاشة الإجتماعية، حيث يواصل أحد أكبر هذه المؤسسات ثقلا في الحقل الإقتصادي المغربي و هو "صندوق الإيداع و التدبير" مع سبق الإصرار و الترصد تثبيط عزائم الشعب المغربي و ذلك بالعبث المتكرر بأموال العامة المتركزة في صناديق تخضع لسيادته و نذكر منها : "الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي"، و" الصندوق المغربي للتقاعد" الذي يلاحقه شبح الإنهيار، إذ يواجه صعوبات مالية جراء الإستنزاف المفرط لاحتياطاته من قبل أشباح السلطة و المالكين لأزرة القرار انطلاقا من السياسة العبثية المتبعة من قبل هذا الصندوق أي "صندوق الإيداع و التدبير"في تصريف الودائع و معاشات التقاعد و عوائد الإدخار السنوي، فقد وضع المجلس الأعلى للحسابات هذا الأخير في قائمة المنذرين بتوجيهه إياه البطاقة الصفراء في تقريره السنوي في إطار مراقبة التدبير و استعمال الأموال العمومية التي أنهكت بكافة مظاهر الخلل التسييري و عدم الشرعية التي لا تلقئ ردعا في غالب الأحيان و تطمس في أرشيفات تصبح مستقبلا مطاعم فاخرة ذات الخمسة نجوم للفئران الصغيرة. أي تنمية إذن هذه يعيشها مغرب 2010 ؟ أي سياسة اجتماعية هذه ترقى بمستوى حجم هذا البلد و موقع الإستراتيجي ؟ أي عدل اجتماعي ينعم به هذا المجتمع في ظل المؤامرات التي تحاك كل يوم ضده في دهاليز الواقع السياسي السحيق ؟ كيف لا نطرح كل هذه التساؤلات المعرفية لمحاولة تقييم حقيقة المرارة التي صرنا نتخبط فيها مغربيا. فمن جهتها و في مقال لها نشرته جريدة الصباح السنة الفارطة أكدت من خلال تحقيق أجري على هذا الصندوق إتلافه ل 550.000 ألف ملف مرض عمدا من قبل "الفراع" و حاشيته من المفسدين أمثاله، لكن الطامة الكبرى هي أن تم العثور على تلك الملفات عند بائعي "الزريعة" مما أدى إلى غياب أدنى تعويض لهؤلاء المرضى علما أن أغلبهم يعانون من أمراض مزمنة، و يرجع السبب الرئيسي للتخلف عن التسديد إلى نزيف حاد في السيولةالنقدية (عجز قدر ب 300 مليون درهم)، و من هنا تبرز لنا إحالة رمزية على طرح سؤال جوهري مفاده هو : كيف و أين أتلفت هذه المبالغ الخيالية ؟ من خلال حوار كنت قد أجريته مع أحد الأصدقاء "ي.س" هذا الذي مر بتجربة قصيرة في أحد مؤسسات "صندوق الإيداع و التدبير" حيث كان مكلفا بالعلاقات الخارجية يحكي عن أرستقراطية منقطعة النظير في جل المؤسسات الأخرى ينعم بها موظفوه، ينعمون بملايين الدراهم التي من المفروض هي من حق المرضى و الأيتام و أموال المحكوم لصالحهم في مجال حوادث السير، توزع هذه الغنائم على كل فرد يحمل شارة "CDG" كل يأخذ نصيبه حسب سلمه و مركزه، ناهيك عن باقي الإمتيازات الأخرى و ما خفي كان أعظم. إنه يحكي عن واقع عاشه بالصوت و الصورة لمدة ثمانية أشهر في تنظيم يرجع بالمغرب إلى عصر الماغول و التاتار الذين لا يأبهون لأي جماعة خارجة عن عرقهم و عشيرتهم، حقيقة الأمر هذا تتضح انطلاقا من نهج المؤسسة ذاتها لسياسة التبذير العلني لأموال العامة التي تمرر أحيانا في شكل صفقات مشبوهة أو لا صحة لها من الوجود، و تارة في صرف أجور باهضة على من أطلق عليهم إسم "الخبراء"، بالإضافة إلى المصاريف الباهضة في أضخم المطاعم لشراء ذمم بعض النقابيين و المسؤولين السياسيين و المتصرفين الكبار بمعدل ما يناهز 500 مليون سنتيم في السنة لفائدة 21 متصرف، دون أن نغفل تفاصيل أخرى تم التحدث عنها لكنها ذات طابع السرية تم تجاوزها لأسباب أمنية. 56 مليون دولار أمريكي هي حصيلة أرباح "صندوق الإيداع و التدبير" أي بمعدل 564 مليون درهم، نعم هذه هي الحقيقة الغائبة عن دهن العامة من هذا المجتمع،الغائبة عن عامل البناء الذي يتقاضى 60 درهما أو 70 درهما في أحسن الأحوال، الغائبة عن حارس الأمن الخصوصي "SECURITE" الذي لا يتعدى أجره 1500 درهم مقابل 12 ساعة من العمل، الغائبة عن الذين يجوبون الشوارع و الأحياء الراقية للبحث في القمامة أو جمع الخبز "اليابس" إلى غيرهم من المستضعفين. . . إلخ. هكذا كانت أحداث القصة الدراماتيكية التي تحكي استبدال مهمة التدبير بمرض التبذير، و وظيفة الإدخار بجريمة العبث و اللامبالات بشعور شعب برمته، لكن لا تبقى كل هذه الأمور إلا ثمرة في بستان الفشل الذي تعيش على إقاعاته الأغلبية الساحقة من قطاعات هذا البلد الجريح و المفتقد ليساسة اجتماعية قويمة خاضعة لمنهج التخطيط الإجتماعي المحكم و كذا منطق التنظير المستقبلي المسبق المرفوض رفضا تاما من معظم الجهات الرسمية من قبل أقطاب الفكر المغربي، الشيئ الذي أكد عليه عالم المستقبليات الدكتور "المهدي المنجرة" و القائل في كتابه "انتفاضة في زمن الذلقراطية" : "المغرب يحيا اليوم نموذجا من الاعتماد على الآخر حيث التقليد الأعمى، وحيث المواطن خارج المعادلة التي يسيطر عليها البنك الدولي والولايات المتحدة والسوق الأوربية المشتركة، وأن وفودا مغربية تلتقي بوفود أجنبية سواء داخليا أو خارجيا وتعقد الاتفاقات دون مشاورة ودون مراجعة وهذه ليست ديموقراطية على الإطلاق. فإذا كنا نعيش وضعا اقتصاديا مزريا فبسبب هذا النموذج الاقتصادي، حيث ستة ملايين من المغاربة يعانون الفقر الأقصى. "