تناقلت وسائل الإعلام العربية في الفترة الأخيرة ذلك الحوار "العلمي" الذي دار بين سيد طنطاوي "الإمام الأكبر للأزهر" و تلميذة في القسم الثاني إعدادي، و الذي أبان فيه الشيخ "الإمام" عن قدرات هائلة في الحجاج و الإقناع، جمعت بين الحجة العلمية الدامغة و الأسلوب الدعوي المفعم بالحكمة و الأدب اللغوي الجم، مما أفحم الطفلة التلميذة حتى أماطت نقابها للتو أمام الشيخ المناظر النحرير! هنيئا لك فضيلة الإمام، فلا ينقص سوى أن يحرر بعض الكتبة أطوار هذه المناظرة، و التي أقترح لها عنوان "الدليل الأنفع في المناظرة الابتدائية بين الإمام الألمع الطنطاوي و الطفلة صاحبة البرقع"، و لا شك أنها ستبقى خالدة لأنها أول مناظرة بين شيخ للأزهر و طفلة في القسم الابتدائي، و ستبقى شاهدة على زماننا هذا عند الأجيال القادمة، كما احتفظت لنا المراجع التاريخية بمناظرات السلف الشهيرة و التي أطلعتنا على المستوى الذي كان عليه ذلك الرعيل من العلماء الذين انتصبوا في المساجد يناظرون أرباب الفرق الفكرية المختلفة و أئمة النحل و الملل المتعددة منتصرين لكلمة التوحيد و فلسفة الإيمان، و كان سلاحهم العلم و الإيمان و الخلق الرفيع، و التي لازالت لحد اليوم ترفع رؤوسنا أمام الأمم في زمن الهزيمة و الانكسار. و هيهات هيهات بين الشموخ في ذلك الزمان و هذا الانحدار الذي أبان عنه شيخنا "الحجة". وهاكم بعض قواسم الشيخ الإمام في مناظرته، فقد هاجم الشيخ "الإمام الأكبر" التلميذة بعدما لم تبد اقتناعا بما أدلى به لحملها على ترك نقابها بحجة أنه ليس من الدين بقوله "أنا أفهم في الدين أفضل من الذين خلفوك" غير أن الشيخ قالها بلسان عامي مبين و أسلوب تهكمي مشين اعتدنا نحن غير المصريين على سماعه في المسلسلات المصرية من سفلة القوم أو من صعاليك الأزقة الخلفية للقاهرة، و هو على أي حال لا يليق أن يصدر من فقيه أو عالم أو داعية أو إمام، أما أن يصدر من شيخ الأزهر فأي عار هذا؟! و أي عار يلحق بالأزهر و علمائه؟! بل و بكل منتم إلى هذه الفئة التي نسميها "العلماء"، أن يتصرف الشيخ الطنطاوي بهذه الخفة البعيدة عن العلم و الحلم؟ فهو عار كبير خاصة إن هم سكتوا عن مثل هذا السقوط العلمي و الأخلاقي التي تردى إليه "الإمام الأكبر". أبهذا نريد أن ننور الناس و نردهم إلى المحجة البيضاء؟ أ بمثل هذا اللسان و هو أشد حمرة من لهيب النار و بأفئدة تحمل ضغينة و كرها لا تنفث إلا السباب و الإهانة!؟ لم يكتف "الإمام" بهذا القدر من سوء الأدب، الذي لا يليق بمقامه، بل بلغ مبلغا من قلة الحياء و انعدام الذوق مبلغا سار السكوت عنه خطيئة، فقد خاطب "الشيخ" الطفلة البريئة بعد أن كشفت النقاب عن وجهها بقوله: و هذه المرة بلسان عامي و لئيم "... أنت هكذا؟!... لو كنت جميلة ما كنت فاعلة..؟!" و هو بهذا يقصد عدم جمال وجهها، حسب رأيه، و في ذلك ما فيه من الإهانة الشديدة لبراءة طفلة و من اعتداء نفسي عنيف على شخصيتها، قد يسبب لها أمام زملائها و زميلاتها جرحا نفسيا غائرا ينعكس على مستقبلها الدراسي و الاجتماعي. و لو وقع مثل هذا في بلد تراعى فيه حقوق الإنسان و تصان كرامته لقُدم هذا الشيخ "المسؤول الأول عن الشأن الديني في بلده" للمحاكمة بتهمة الاعتداء اللفظي و النفسي على طفلة قاصر، و لأخذت الإدانة منحى أخطر حيث أن المعتدي مسؤول كبير و أن الاعتداء تم في مؤسسة تعليمية و داخل حجرة الدرس، التي ينبغي أن تتمتع بنفس الاحترام و القداسة التي للمسجد. و لتم إرغامه صاغرا على الاعتذار العلني للطفلة و المدرسة و المؤسسة التي يمثلها، و في أحسن الحالات كان سيقدم بعد الاعتذار للعلاج النفسي لأن هذا الذي صدر منه يشي بكل موضوعية باحتمال علة نفسية خفية. إن الجوانب التي تدين هذا السلوك اللاأخلاقي و اللامسؤول الصادر عن شيخ الأزهر متعددة، و لا يمكن حصرها في هذه السطور. فبالإضافة إلى المدخل العلمي و الأخلاقي كما سبق، فهناك المدخل الإداري، حيث سمح الشيخ لنفسه بالتدخل في قضية جد شخصية متعلقة بلباس تلميذة في الفصل، و هو بذلك يتجاوز صلاحياته كشيخ للأزهر معتديا أولا على صلاحيات الإدارة المباشرة للقسم الذي تدرس فيه التلميذة، و معتديا ثانيا على صلاحيات المعلمة، و هي المسؤولة التربوية الأولى على تلاميذها في القسم. فما هي إذن الصفة التي تسمح للشيخ "و إن كان المسؤولَ الأول عن الأزهر" أن يحشر أنفه في خصوصية من خصوصيات تلميذة و في حجرة الدرس؟. و من جهة أخرى، ما يضير الشيخ أن تختار الطفلة لباسها أو يختاره لها أبواها من أعرافهم الصعيدية؟ ألم يقل هو بلسانه أثناء مناظرته بأن النقاب عرف!؟ أيمنع الناس من ممارسة أعرافهم في بلدهم يا نيافة الحبر؟! ماذا تركت إذن للمؤسسات التعليمية و غيرها من المؤسسات في أمريكا و أوربا التي لا تعرف أعرافنا و لا تعجبها؟ أو لعلك آثرت أن تكون قدوة و مرجعية فقهية و علمية لمن خلفك في الداخل و الخارج في التضييق على لباس المسلمات و خصوصياتهن الثقافية؟ خاصة بعد أن تزامن موقفك هذا مع القرارات الصادرة في نفس الأسبوع لمنع المنقبات من دخول بعض المؤسسات التعليمية بمصر المحروسة، و أنتم من حراسها كما يبدو؟ أم أن للموضوع أولوية خاصة عند "الإمام" جعلته يجند نفسه لمواجهتها و مطاردتها بنفسه في أقسام المدارس الابتدائية التابعة للمؤسسة التي يشرف عليها؟ أم هو استغلال النفوذ و مواقع المسؤولية كما اعتدنا في وطننا العربي، لا فرق في ذلك بين مسؤول أمني و مسؤول ديني أو تربوي؟ كل يوظف نفوذه لتحقيق نزواته النفسية الدفينة، أو لتصفية حسابات مع جهات معينة؟ و لم يجد الإمام إلا هذه التلميذة للمبارزة؟! أكان الشيخ سيسمح لأي من الناس، مهما كان موقعه، أن يتدخل في خصوصيات بناته هو أو في أحد اختياراتنهن بغض النظر عن سلامتها أم لا؟ إن هذه الواقعة المشينة تستدعي من العلماء بالدرجة الأولى في مصر و خارجها رفع أصواتهم و الوقوف في وجه مثل هذه الانزلاقات العلمية و الدعوية و التربوية و الأخلاقية، و التعبير الواضح عن موقفهم منها حتى لا تطال الإهانة العلم و العلماء. و أرجوا ألا تتدخل اعتبارات ضيقة، "فالمعني بالأمر شيخ الأزهر" للوقوف أمام قولهم لكلمة الإنصاف و العدل، و على الأقل أن نسمع أصواتهم كما سمعناها منهم في قضية "زواج بنت التسع سنوات". و في حالة إيثار السكوت و عدم الاكتراث ستلصق بهم رذيلة الكيل بمكيالين و التملق لبعض الجهات. لقد أهنت يا شيخ "الأزهر" العلم و العلماء في كل مكان، و مرغت كرامتهم في الوحل، و أسأت إلى الأزهر و الأزهريين، و تعديت على الحرمات بتطاولك على براءة الطفولة و حرمة المدرسة، و وضعت من مستوى الدعوة إلى الله بقول التي أسوء، و لا يجبر هذا الكسر سوى الانصياع للحق و الاعتذار العلني للطفلة و للمؤسسة التي تمثلها سيادتكم عن ما وقعت فيه. أما إذا كنت ممن يقدر المسؤولية قدرها و يهمه أن تصان مكانة "شيخ الأزهر" فعليك بالقضاء و الكفارة و هي الاعتذار و تقديم الاستقالة، فإن لم تفعل، و ما أظنك فاعل، فسيتكفل التاريخ بتخليد مناظرتك في العالمين إن شاء الله.