احتار المؤرخون في فهم حقيقة شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي، والسر وراء انتصاراته في المجال العمراني والإجتماعي والإداري والعسكري على السواء، كيف استطاع هذا الرجل المسالم أن يحقق ما يُعتبر معجزة بكل المقاييس؟ ففي فترة وجيزة، بل في لحظة في حكم التاريخ، استطاع أن يؤلف بين قلوب قبائل الريف المتناحرة والمتصارعة التي تحكمها عادات الثأر لأي سبب والتي تتناحر فيما بينها كل يوم، فجعل منها زمرة واحدة بل أمة واحدة يجمعها التآخي والتعاون والتضحية والتفاني وخدمة الغير والتمسك بالحق ومبدأ الحرية. "" وكيف استطاع، وهو من لم يتلق علوما عسكرية، أن يخلق من هؤلاء الناس قوة ضاربة أدهشت العالم ولم يعرف التاريخ مثالا لها لا من قبل ولا بعد؟ وحتى الآن يحاول المؤرخون والكُتاب والمهتمون بالتجارب الإنسانية إعطاء تفسيرات شتى عن حقيقة شخصية هذا الرجُل وتجربته الفريدة، وهذه التفسيرات متباينة ومتناقضة. وسيبقى عبد الكريم لغزا حتى نتفهم حقيقة روحه وأخلاقه ومبادئه ورؤيته الواضحة للمستقبل وهي المكونات التي تكمُن فيها عبقرية عبد الكريم الخطابي. يرى البعض أنه مجرد قائد لعملية تحريرمنطقة الريف من قوات الاحتلال الأجنبي، ويرى فيه آخرون رائدا اجتماعيا أراد تنظيم المنطقة الشمالية من المغرب سياسيا وإداريا بشكل حديث، وينظر إليه آخرون كزعيم لحركة تحريرية وطنية في إقليم من أقاليم الوطن العربي الكبير، ويرى آخرون أنه رجلُ مبادئ ثابتة لم تتغير منذ بداية كفاحه في العشرينات إلى آخر حياته في الستينات بالرغم مما عاناه من حروب ومصاعب، وما مر به من انتصارات وهزائم ومنفى كانت كافية لتغيير النفس. وهناك من يرى عبد الكريم كسيف من سيوف الإسلام ينشد الجهاد في سبيل الله في قرننا هذا، وهناك من يرى فيه مجرد مغامر متردد يحب الحرب لمجرد الحرب وعاشق للانتصارات العسكرية. ومنهم من يرى فيه القائد العسكري المحنك في فن الحروب، وواضع أسس حرب العصابات وخندق الرجُل الواحد، ومعتنق مبدأ أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع. فقد قال عنه المارشال اليوطي مبررا هزيمته: «لقد هوجمنا من أكفإ عدو لاقيناه في حروبنا الاستعمارية ولاتقل قيادته حنكة من الناحية التكتيكية والاستراتيجية عن أرقى الأمم الأوربية». وكذلك بعث المارشال اليوطي رسالة إلى وزير الحربية يقول فيها إن عبد الكريم لا شك يتمتع بروح قائد عظيم. وقال عنه الصحفي الأمريكي ويب ميلر: «إنه لم يكن عبقريا فحسب، بل كان أكثر من ذلك»، وفي هذه العبارة القصيرة استطاع هذا الكاتب أن يلمس شخصية عبد الكريم الخطابي. فعبقرية عبد الكريم تكمن في أنه إلى جانب ذلك، هو مفكر وفيلسوف له وجهة نظر خاصة في الحياة والدين والإنسان. الحقيقة أن عبد الكريم الخطابي لم يكن عسكريا ولم يتخرج من أية أكاديمية عسكرية، وكان يكره الحرب والدمار، بل على العكس فقد كان يعشق الحياة والسلام، إلا أنه كرجل فطرة، لا يفهم معنى الحياة إلا مع الحرية والكرامة والمساواة والعدل، وأذكر أنه عندما سألتُه مرة ألا تحب المال والسلطة؟ فأجابني لا.. واستطرد قائلا إذا عرض عليك أحدٌ مبلغا كبيرا من المال مقابل أن يقطع أحد أصابعك فهل تقبل؟! عندما ترددتُ في الإجابة، ضحك قائلا: فما بالك بمن يريد أن ينتزع كرامتك وحريتك وحقك في الحياة؟ إنك تستطيع أن تعيش بلا يد وتحيا حياة كريمة، ولكنك لاتستطيع أن تحيا بدون حرية وكرامة. أما فيما يخص حب السلطة فكان عبد الكريم يستشهد دائما بالآية الكريمة « تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا» والتي عندما سمعها عمر بن الخطاب قال « أما الفساد فلا نبغيه، أما العلو ففي النفس منه شيء.» ويعقّبُ عبد الكريم الخطابي على مقولة عمر بأنه إذا أحب الإنسان العلو دون فساد فلا بأس. ولكي نتفهم شخصية عبد الكريم الخطابي فلنمر سريعا بتاريخ هذا المناضل العنيد الذي ينتمي إلى منطقة لم تسلم زمام أمرها لأحد عبر التاريخ، ولم تكن لتفعل ذلك إلا إذا تيقنَتْ من أن الزعيم الذي سيقودها تكتمل فيه الصفات الأخلاقية التي تؤلف بين قلوب أهلها. وحتى يلمسوا فيه حبه للعدل والإنصاف والإخلاص للمبادئ الأساسية التي تلقى قبولا في كل نفس بشرية صالحة. كانت المنطقة في فوضى واقتتال مستمر ولأتفه الأسباب، ومثال على ذلك تلك الحرب التي قامت بين قبيلتين بسبب قتل كلب، حيث طلبت القبيلة المتضررة فدية قدرها خمسون دورو، ولما رفضت الأخرى دفع الفدية، نشبت الحرب بين القبيلتين، فمات في اليوم الأول أربعون رجلا من الأولى، واثنين وستين من الأخرى، وكان سم الزرنيخ منتشرا وله أسواق للبيع لاستعماله في التصفية الجسدية والثأر المقيت. كانت الحرب إذن هي القاعدة والسلام هو الاستثناء. وكان عبد الكريم يبغض ذلك ويستنكره بالضبط مثل والده الذي كان له دور كبير في تنشئته على الحكمة والشجاعة الأدبية والوطنية الحقة بعيدا عن المزايدات والشعارات الزائفة، لقد دفع والد عبد الكريم حياته ثمنا لإنقاذ شعبه من الاقتتال فيما بينهم والذين اتهموه بالعمالة للإسبان فحرقوا داره وأرضه ثلات مرات، وكان يقابل هذا بالحكمة وضبط النفس وبعدم الانتقام، بل بمغادرة الديار إلى جزيرة النكّور وتطوان، وكذا بالعمل على إبعاد ولديْه محمد وامحمد وأخيه الأصغر عبد السلام – الذي كان يعتبره بمنزلة ولده- عن المنطقة خوفا من تورطهم في إشكالات الثأر المزمنة، فبعث بابنه الصغير إلى مدريد لتعلم هندسة المناجم تهيئة لتكوين الأطر والكفاءات المحلية القادرة على استغلال الثروات المعدنية التي يزخر بها الريف، أما الابن الأكبر عبد الكريم الذي نحن بصدده، فبعث به إلى جامعة القرويين بفاس التي مكث بها عامين ثم عاد للعمل بمليلية.