ظل تاريخ الريف دهورا طويلة مطويا ومتناثرا في بطون الكتب القديمة، ثم انبرت في العقد الأخير طائفة من الباحثين والدارسين استنطقوا الوثائق القديمة، ونصوص المخطوطات والمطبوعات. فسلطوا ضوءا كاشفا على تاريخ الريف وقدموا معلومات وإن لم تكن غزيرة إلا أنها وافية في الدلالة على نشأة الإسلام بهذه البلاد وظروف انتشاره ومواقف الأهالي من عقيدته وتعاليمه، والتحولات التي حاقت بهم من جراء اعتناقهم للدين الجديد، فلهؤلاء الباحثين الشكر الخالص والثناء الجزيل على ما بذلوا من جهد، فسدوا بذلك ثلمات شاغرة في ميدان التاريخ الريفي، فمنهم أستفيد، وأجلس بين ما كتبوا تلميذا طالبا، وعنهم أتلقى الخبر. ومن أخبار ما نقلوا إلينا، أن مدينة غساسة غرب مليلية كانت السباقة لاحتضان دعوة الإسلام على عهد بني أمية، وكانت ميناء هاما ولا يزيدون على هذا لأن الآثار الباقية هناك لا تنجدهم بأكثر من هذا. هذا عن الجناح الشرقي لبلاد الريف، أما أول من وصل إلى الريف الأوسط وأدخل الإسلام إليه من الفاتحين المسلمين فرجل يسمى صالح بن منصور استقر بمنطقة تمسمان، كان هذا الرجل من الصلحاء الذين يصطحبهم عقبة بن نافع في فتوحاته، كما كان من أصحاب حسان بن النعمان، وبأمر من حسان توجه صالح إلى الريف وهو ينعت بالرجل الصالح دلالة على صلاحه وتقواه، خط على بعد أميال من تمسمان مدينة النكور اتخذها عاصمة لحكمه ومنها امتدت دعوته إلى شتى القبائل كغمارة زواغة وصنهاجة وغيرها. فقبل الأهالي الإسلام عن رضا وطواعية يتعلمونه ويتشربون معانيه في ظل صحبة وحكم هذا الرجل الصالح، فلما ولي أمر طنجة وما وراءها من شمال المغرب بما فيها بلاد الريف عبيد الله بن الحبحاب أراد تخميس البربر على أنها فيء للمسلمين العرب، ففشت الردة وثاروا على صالح عامله بالريف واستبدلوه برجل آخر، فازداد تأكدهم بالمقارنة والمقابلة من عدل صالح وصلاح أمره وظلم الآخرين "فتلافاهم الله بهداه وتابوا من شركهم... واستردوا صالحا" كما يقول الزياني. لم يكن الإسلام قد تعمق وترسخ بعدُ في النفوس، لكنهم باسترداد صالح وبجهود آل صالح و ذريته في الوعظ والإرشاد، وبما يخطبون في الناس ويعلمونهم على مذهب الإمام مالك عاد الإسلام وانتشرت السنة بين أهالي الريف خاصة الريف الأوسط. التحم هؤلاء الصلحاء واتصلوا بالأهالي فحملوا إليهم الإسلام غضا طريا، والتف حولهم الأهالي تعظيما وتبركا واقتداء بماهم صلحاء، فتعمق الإيمان في النفوس وتقرر، حتى كانوا جزء لا يتجزأ في كثير من حملات الجهاد في "الغرب الإسلامي" ولم يسجل التاريخ قط أن الريف في مجموعه تهاون يوما عن الجهاد إذا ما دُعي إليه، فكأنما الريف بمتطوعيه قلعة للجهاد والذب عن الدين. في سنة 230ه تعرضت مدينة النكور لهجوم النورمانديين من ساحل الشمال، وأسروا جماعة منهم فافتداهم عبد الرحمان بن الحكم، عاودوا الهجوم عام 244ه فقاوم السكان وأخرجوهم من البلاد بعد ثمانية أيام ومن تلك الفترة بدأت الفكرة المجوسية تغزو بلاد النكور ومع بدايات القرن الرابع الهجري استولى الفاطميون على النكور فقضوا على دولة صالح وبنيه. وما لبث الأهالي أن قاموا ضد الحاكم الشيعي مصالة بن حبوس بمساعدة الأندلسيين ويرى أحد الباحثين أن الصراع كان دينيا في جوهره ومعنى هذا أن سكان النكور والريف الأوسط رفضوا العقيدة الشيعية، إلا أن رواسب التشيع ورواسب الفكرة الوثنية وخطر المجوسية غزت البلاد وسكنت العقول، فتداركت العناية الإلهية الريفيين من هذا الخطر المهدد للأمن والعقيدة فتلافاهم الله برجل أمازيغي هو يوسف بن تاشفين، فخرب النكور فتهاوت معها أطلال الوثنية ومعالم المجوسية أن تسري إلى القبائل الأخرى .فحمى الله تلك الديار من كل نحلة فاسدة، وعادت الغيرة على الدين ولامس الإيمان القلوب فأحياها من جديد، ولعل هذا ما جعل الريفيين يشاركون مع ابن تاشفين في معركة الزلاقة عام 479ه كما يُستنتج من الأخبار ونصوص التاريخ. كان أبو داود مزاحم أول رجل صوفي عرفه المؤرخون في منطقة الريف، كان مريدا لأبي مدين الغوث ببجاية، ثم رجع إلى بلده تمسمان، فبنى هناك على ساحل البحر رابطة كان يتحنث فيها هو وأصحابه وتلامذته (فإلى هذا الشخص يرجع الفضل في إشعاع الحركة الدينية منذ النصف الثاني من القرن 6ه/12م... ولم يقتصر هذا الإشعاع على جبال تمسمان فحسب بل تجاوزه إلى القبائل التي نحن بصددها ونجد أول هذا التأثير الديني في تلمذة الحاج حسون الأدوزي على أبي داود الذي قام بنفس دور شيخه بجبال بقيوة حيث تمكن من تركيز نفوذه الديني بتأسيس رابطته بقرية أدوز، التي أصبحت المركز الرئيسي لتلقين التربية الدينية وتمكن تلامذة الحاج حسون وخلفاؤه من رعاية الحركة الدينية بالقبيلة، وتأسيس فروع لها بجهات بقيوة خاصة بالهضبة المحيطة بمرسى بوسكور، التي يوجد بها رابطة تدعى أم أيمن (للا ميمونة). والتي ظلت محطة بقيوة الدينية خلال القرنين 6ه و7ه...وهناك بعض الأسماء الأخرى التي كان لها نفس الدور بقبائل بني كميل وبني بوفراح منذ بداية القرن 7ه) الريف قبل الحماية لعبد الرحمان الطيبي ص221. وطوال العهدين الموحدي والمريني كانت رباطات الصالحين تذكي روح المقاومة ضد المسيحيين خاصة في سواحل المزمة وبادس والريف الشرقي (ن- م 40). وهؤلاء الصلحاء كانوا صوفية يتلقون التربية الروحية بين يدي أشياخهم، هم وحدهم من حافظ على الإسلام في بلاد الريف تربية وتعليما خاصة في ظروف عصيبة كانت البلاد فيها محط هجمات المسيحيين من سواحل الشمال، وتوغلهم في الداخل ينهبون ويغتالون وينشرون الرعب بين الأهالي، فهل نحن مدينون لجهود أولئك المتصوفة والصلحاء ببقاء الإسلام بديارنا إلى هذا العهد؟ والجواب أن إسلامنا مستفاد من بركات جهودهم فهُم من كانوا فقهاء وخطباء على المنابر يعلمون الناس و قدوات يربُون بالقدوة والمثال وناهيك بأبي داود وإسحاق بن مطهر المعروف بالأعرج من فقهاء القرويين وأصله من بني يملك، فقد كانت لهما الحظوة والمكانة لدى أمراء الموحدين يتواضعون لهما ويرجون بركتهما.. وكادت الدعوة الشيعية أن تعصف مرة أخرى بسكان الريف الأوسط أواخر القرن السابع على يد الداعية الفاطمي العباس بن صالح الذي استباح الحرمات وسبى وقتل لولا لطف الله وعنايته إذ قيض له جيشا من الوطاسيين فهزموه فصلبت جثته في باب المزمة عام 685ه، ويشير البادسي الذي روى الخبر في المقصد الشريف إلى جهود الشيخ علي بن مخوخ التوزيني وغيره في النصح والتوجيه وتحذير الناس من دعوة الفاطمي وذلك ردا لكل رأي دخيل فاسد. وانضاف إلى جهود هؤلاء الصالحين في التربية والتوجيه توافد عدد من أسر الشرفاء من ذرية الإمام إدريس الأكبر خرجوا من فاس قاصدين بلاد الريف فانتشروا بين مختلف القبائل، وأشهرهم شرفاء إمرابطن (المرابطين) بتماسنت وجبل حمام والمرتفعات، والعمرانيين الذين استقروا ببني بوفراح وصنهاجة وحوز بادس وبقيوة، والمسناويين الذين نزلوا ببني حذيفة، وهذه أمثلة لا أريد بها إحصاء الشرفاء ولا حصر الأماكن. التحم هؤلاء واختلطوا بالأهالي كما التحم الصلحاء بهم في عهود الإسلام الأولى فامتدت إليهم أنوار النبوة والهداية وملأتهم هيبتهم لما يرون من تبتلهم وإقبالهم على الله، فأحلوهم محل التعظيم والإكبار بما هم منتسبون إلى الجناب الشريف وسلموا لهم أمورهم في الدين والدنيا نصحا وتوجيها بالحال والمقال، وإصلاحا ورفعا للنزاع وما يعترض من خصومة وشقاق، وفصلا في الحكم والقضاء بشريعة الله، ونشطت الزوايا منذ القرن السابع ه ونشأت حولها كثير من القرى والمداشر فكانت الزاوية منطلقا لتوسع العمران وتألف القبائل كما كانت ملاذا للمريدين وقبلة لطلاب القرآن وعلومه، كان مشايخ الزوايا الشرفاء مُربين يلقنون مريديهم الذكر ويسلكون بهم طريق التصوف والزهد ويغرسون في نفوسهم هم الآخرة والاستعداد لها وفي بني ورياغل لا زلنا نذكر سيدي عيسى وسيدي يوسف وسيدي بوخيار (أبا خيا) كأسماء لامعة في تاريخ التصوف، والتصوف الريفي خلو من كل تعقيد يشوب صفاءه، بسيط بساطة الحياة الريفية، عملي لا نظري، وزاد من صفائه بُعد البلاد عن الحواضر الكبرى فهي شبه معزولة بين الجبال لا تصله شبهة جدل عقلي محدث أو نزغة ثقافة أجنبية دخيلة. وامتد إشعاع هؤلاء المشايخ إلى خارج بلاد الريف حتى كانوا قبلة لطالبي السلوك الصوفي مثال ذلك ما فعله الشيخ علي بن محمد هاجر من مراكش وحل ببادس واستقر فيها حتى مات ودفن بها. وقد لاقى أهل المنطقة خلال عهدي السعديين والعلويين ضروبا من العسف والظلم بحقهم رغم استماتتهم في الدفاع ضد هجمات الإيبيريين المغيرين على بعض الجزر، لم يكن شيء يبعدهم عن دينهم. جهاد طويل كان الإيمان باعثهم فيه وحاديهم. وإن ظهر منهم خائن خان وتدسس لعدو فتلك استثناءات لا تضير ولنقبل تاريخنا كما هو، نقرأ نصين ينمان عن نظرة الريفيين كيف كانت وذلك حين احتلت حجرة النكور عام 1673م "بقيت دار إسلام حياة مولانا الرشيد ونحو عامين من "خلافة" مولانا إسماعيل إلى أن باعها دح الخطيب كما روي عن كثير من أهل الريف ... ونازلها النصارى في المراكب والسفن وحاصروها" [1]. "احتل الإسبان البرج المقابل لحجرة النكور رغم المقاومة الشديدة التي أظهرها السكان بينما الباشا قائم في تلا بادس يستعد للرحيل عن الريف إلى مراكش... واتهموه بأنه باعه للنصارى وقبض ثمنه" [2]. المهم في نظرنا أن السواد الأعظم من الأهالي كانوا ينظرون إلى بلادهم على أنها دار إسلام وكان جهادهم جهاد مسلمين ضد نصارى ولذلك قاوموا جهد مُستطاعهم. ومن مفاخر ما يذكر للريفيين مُساندتهم لجهاد الأمير عبد القادر الجزائري، فقبلوا دعوته لما نادى فيهم حاسة الدين التي تأصلت في نفوسهم وذكرهم بواجب الجهاد وجزائه العظيم وهو الصوفي الذاكر المتبتل على طريقة شيخه محمد الفاسي الشاذلي فأنزل الله نصره على عباده في مواقع كثيرة لكن تقاعس السلطان العلوي آنذاك عبد الرحمان أمام ضغوط الأوربيين ألجأت الأمير للاستسلام لفرنسا عام 1847م فانتهت صفحة من أعظم صفحات الجهاد خلال القرن التاسع عشر الميلادي. ولم يفت هذا في عزم الريفيين فبعد بضع سنوات كانوا على موعد مع حرب أخرى في معركة تطوان التاريخية فاستجاب الريفيون لنداء السلطان فأرسلت القبائل متطوعين فأبلوا البلاء الحسن وسقط منهم شهداء على أرض المعركة بعدما حققوا انتصارات بهرت السلطان فجعل يكتب إلى السيد محمد أخمليش شيخ الزاوية الخمليشية "أما تهيئ القبائل للجهاد في سبيل الله فهو المراد وقد أصبت في توجهك معهم وأقدموا على أخينا مولاي العباس أصلحه الله فإنا أمرنا بدفع المؤنة لكم ولجميع من ذكرت من المجاهدين وأوصيناه بالإحسان إليهم" . كان الوعي العام آنذاك دينيا وهذا ما تترجمه عبارات الجهاد في سبيل الله والاستعانة بشيوخ الزوايا للتأثير على الأهالي لتنبعث إرادة الجهاد. يصف أحد المشايخ من أهل الدار البواعث الدينية للريفيين في حروبهم فقال "لكن الريف لا يقبل أي اعتداء عليهم لصلابتهم في الدين وصيانة عرضهم من المعتدين" [3]. ذلك أن الريفيين كانوا دائما في جهاد مع العدو، وكيف يتوانى عن الجهاد ويتخلف من كان في الدين صلبا وعن عرضه صائنا يقول الشاهد "ومنذ عقلت وأنا أسمع انتصار حملات الريف على الاسبان كلما رام الخروج من أي نقطة من نقط الشواطئ البحرية التي يتأتى منها النزول للبر.." [4]. ولم تمض فترة طويلة حتى قام بالريف الشرقي مجاهد آخر محسوب على الصوفية هو الشريف محمد أمزيان قاتلت معه قبائل الريف الأوسط من بني ورياغل وبني بوفراح وغيرها فكبد الاسبان خسائر فادحة وطارد الخونة وعلى رأسهم بوحمارة، طبيعي أن نقرأ عن استجابة القبائل لمشايخ الصوفية لأن الدين وحده هو المهيمن آنذاك. كان الولاء للدين يتصدر ويهيمن على كل ولاء آخر وكانت الساحة فارغة من أية أيديولوجية. لم يكن أمزيان إذن شهيدا للوعي الوطني كما يروجه البعض، ذلك لأن دوافعه دينية محضة وهو المتدين العالم بالشريعة صاحب الزاوية القلعية. يقرأ هؤلاء تاريخ أمزيان وغيره بذهنية وطنيي ما بعد الاستقلال، وهو خطأ شائع لدى الباحثين. استطاع هذا المجاهد إلحاق هزائم فادحة بالعدو قرب مليلية مما اضطر إسبانيا إلى أن تسلك سبيل إغراء القبائل بالمال فنفرت عدة قبائل كانت قد التفت حول أمزيان وشرطت عليها الكف عن مساندته، فصمدت معه أغلبية الورياغليين الذين كانوا يقاومون كل سفينة تحاول الاقتراب من جزيرتي النكور وبادس. سارع هؤلاء إلى السلطان عبد الحفيظ بفاس لطلب المدد ليقاوموا كل هجوم محتمل ولكن السلطان خذلهم بتوقيع معاهدة 1910 فحصلت إسبانيا بموجبها على امتيازات في المنطقة. واصل الشريف جهاده مع متطوعي الريف الأوسط فحققوا انتصارا عام 1911م زاد من حنق الاسبان فترصدوه في أحد المساجد وحاصروه فقاتل حتى سقط شهيدا عام 1912م. عرفت إسبانيا أن قوة الريف تكمن في توحدهم على الجهاد فسعت إلى تفكيك تلك الوحدة وإضعاف معنويات الريفيين. صرح أحد الاسبانيين "كانت الخطة ترتكز على العمل بشكل يصبح معه بنو ورياغل في حالة حرب مستمرة" ويصف السيد كوميز خوردانة مهمة فريق أعده لهذه الخطة "إن هذا الفريق الموجود رهن إشارتي في مجموع أراضي العدو هو الذي يتيح بسهولة تفكيك التكتلات المسلحة التي كانت قد احتشدت في جو حماسي لإبادتنا فأعضاء هذا الفريق لابد وأن ينفذوا داخل هذه التكتلات لكي يزرعوا فيها رُوح الهزيمة قبل أن تتعرض لأي هجوم وهذا الفريق هو الذي يثير بينها وحسب رغبتي صراعات دامية كتلك التي تمزق مثلا في هذه الآونة قبيلتي بقيوة وبني ورياغل بغية شل الريف" [5]. وقد نجحت إسبانيا في ذلك فعاد عرق العصبية ينبض في كل قبيلة ففشلوا وذهبت ريحهم أمام مخططات الاستعمار. الحالة الدينية كانت على حالها القديم ففي كتاب "حرب الريف التحريرية" جملة من أسماء الفقهاء والخطباء بمختلف المداشر والقرى يقومون بمهمة الوعظ والإرشاد وتذكير الناس بدينهم، لكنهم عزلوا أنفسهم عن ساحة الجهاد فسهل على المستعمر أن ينفخ سُمومه ويبث عملاءه إنجاحا لمخططه، فأصبحت البلاد أحوج ما تكون إلى من يصلح أمورها ويُذهب عنها دعوى الجاهلية، وإلى من يتوسط القبائل ليتألف قلوبها ويسمو بها عن الثارات الدنيوية ويوحدهم على كلمة واحدة ووجهة واحدة وهي المهمة التي سيحمل أعباءها ويتولاها سيدي محمد بن عبد الكريم الخطابي، كانت الدوافع الدينية حاضرة بقوة في قومة ونهضة الخطابي وعن ذلك كتب فقرة مهمة الأستاذ محمد العلمي في كتابه (زعيم الريف) أما عن جهوده التربوية فقد بدأ بتأليف القلوب والصلح بين القبائل، وتذكيرهم بتاريخهم وكيف كانوا سادة يرهبُ جانبهم، وبإحياء الشعور الديني في نفوسهم وربط قلوبهم بالله عز وجل، حتى صلحت نياتهم فصلحوا للجهاد، وعن المنهاج التربوي كتب المرحوم محمد سلام أمزيان في كتابه (عبد الكريم وحرب الريف) كما أشار إلى ذلك المرحوم المجاهد محمد عمر بلقاضي في كتابه (أسد الريف) والكتابان معلمتان تاريخيتان إذ يسلطان الضوء على هذا المنهاج التربوي وأثره في التغيير وإحراز النصر والذي يغفل عنه جل الباحثين فهم سجناء التحليل المادي الحداثي. وهذا موضوع يستحق أن يدرس في مقال أو كتيب مستقل ويا حبذا لو يتناوله باحث جاد في أطروحة جامعية مُفيدة. استطاع الأمير الخطابي تحقيق مجتمع إسلامي يسوده التكافل والتراحم، أرعب الأوربيين من ظهور دولة إسلامية منظمة في شمال إفريقيا ونجد صدى هذا التخوف في عبارة ليوطي: "إن انتصار الريفيين وتمكنهم من تأسيس كيان إسلامي في شمال أفريقيا سيجعل المشروع الاستعماري في مهب الريح" . لذا سعت إسبانياوفرنسا لتحطيم جهود الأمير وقطع الطريق أمام استمرار هذا البناء الإسلامي الضخم، وإذا أردنا أن نعرف أسباب انهيار المقاومة الريفية واستسلام الأمير فسنجد ثلاثة أسباب: 1- خذلان السلطان العلوي يوسف للأمير على نحو ما فعل السلطان عبد الرحمان مع عبد القادر الجزائري. 2- نفور بعض القبائل وخذلانها للأمير استكانة لتهديدات السلطان يوسف الذي أصدر ظهيرا قرأ في المساجد يحذر فيه من مؤازرة الأمير. 3- تواطؤ فرنساوإسبانيا مع تأييد أوربي وأمريكي للقضاء نهائيا على الثورة الريفية. أجعل هذا السبب آخرها وأضعفها فاعلية وتأثيرا بمنطق الدين والقرآن (قل هو من عند أنفسكم) وبمنطق التاريخ إذ تواطؤ القوى الخارجية حصل غيرما مرة وخرج الأمير منتصرا. وقد أفادنا عبر" قناة الجزيرة" رئيس جمعية ذاكرة الريف عمر لمعلم بتصريح للخطابي أنه قال: "الانهزام كان من أبناء جلدتي". هل أثر استسلام الأمير على نفسية ومعنويات الريفيين؟ هذا أكيدُ بل هو طبيعي وكيف لا تتأثر القلوب وتنفعل لحال ومصير رجل هو استثناء بين الرجال لا يتكرر في مآت السنين!. هل أثر ذلك على إيمان الريفيين ودينهم ؟؟ بقي الإسلام وسيظل- بإذن الله – الدين السائد في بلاد الريف، ولكن جذوة الإيمان التي كانت تصل المرء بخالقه وتشده لرضاه وتشوقه لقرباه ذبلت وضعفت وجهود الأمير التربوية أضاعها الاستعمار، ومع ذلك تابعت المساجد والزوايا دورها في التربية والتوجيه،ومع بدايات "الاستقلال" تغيرت ملامح الحياة العامة وطغت معالم الحياة الأوربية على المظهر العام للبلاد وتزايد الاهتمام بالهجرة إلى الخارج لأسباب اقتصادية كل ذلك أضعف الوازع الإيماني وصرف النفوس عن الاهتمام بالدين إلى الدنيا والاستكثار منها، ومع بدايات الثمانينات هجمت على البلاد ألوان من المذاهب والثقافات، هزت عقائد الناس وشككتهم في موروثهم من إسلام الآباء والأجداد. ظهرت الفكرة السلفية الوهابية وبنى أصحابها مذهبهم على نقض وهدم ما عند الآخرين، فبدأت الأسواق تغزوها الكتب والأشرطة المبدعة المشككة الغارسة في النفس حب الجدل والتميز عن الأقران، بما ظنوه وحده حقا ناسخا لكل باطل يجب إزالته، وامتد هذا المذهب فملأ الآفاق وانتسب إليه العامة والأغمار وكل ذي حظ من الفقه والثقافة جد قليل، فوجه حياتهم وأصبح الاهتمام بجزئيات من الدين على حساب كلياته، وبسننه الحرفية على حساب مقاصده العليا وبظاهر أحكام الجوارح على حساب أعمال القلوب الباطنة. فضعُف الوازع الإيماني وفسدت كثير من العلاقات كان التكافل والتراحم أساسها. ومقابل هذا التيار كانت هناك أيديولوجية توطدُ نفسها شيئا فشيئا داخل أسوار الثانويات والإعداديات: إنها الاشتراكية الماركسية، سرت عدواها إلى التلاميذ وأصبح الناطقون باسمها والمتشبعون بأفكارها ومقولاتها هم الموجهون، رغم قلة عددهم لحركة التلاميذ من مظاهرات واحتجاجات ومطالبات، وتشربت النفوس المتأثرة الغضة روح الإلحاد والتنكر للدين ممزوجة بلغة الثورة على الظلم. حتى إذا دخلوا إلى أقسام التاريخ والفلسفة وجدوا من يحدثهم عن دور الاشتراكية في الإطاحة بالنظام القيصري الروسي المستبد، فيزدادون تعلقا بها كما يجدون الحاضن المُربي لفكر الإلحاد والتشكيك بأثر الدين في توجيه الحياة المعاصرة: أستاذ الفلسفة المبجل عندهم المغرور بمادته والتفاتاته ووساوسه الذهنية.. الوهابية سطحت الإيمان وأضعفت وازعه.. والماركسيون رغم قلتهم ونفور الناس منهم أفشوا عدواهم في كثير من النفوس الطالعة فأجهزوا على إيمانهم. ذلك، وللتيار الأمازيغي حضور قوي في الساحة العامة، وموقف أصحابه من الإسلام موقف الخصم الناظر لخصمه الذي احتل فكره وزاحم ميدانه، لذلك فالنضال الأمازيغي الناشد لإحياء تراثه يسعى لربط الأذهان بتاريخ ما قبل "الغزو الإسلامي" بزعمهم وتغيير الولاء القديم للدين إلى الولاء للغة والتراث الغابر ولرموزه الخالدة، هي قومية عصبية أماتها الأمير الخطابي ويريد المناضل الأمازيغي إحياءها من جديد، ومع ذلك يتباهى بانتسابه للأمير الخطابي ويزعم أن نضاله استمرار لنضال الأمير. ماذا بقي من التراث الخطابي عند مناضلي الحركة الأمازيغية؟ وهل الروح والقيم الخطابية محل نظر واعتبار عندهم؟ لا شيء من ذلك عندهم لأنهم يعلمون أن الروح الإسلامية هي التي جعلت من الخطابي بطلا مجاهدا ولاشيء من تلك القيم سعوا لتجديدها لأنها مربوطة إلى الإسلام بحبل متين. وتبقى أغلبية الساكنة الريفية مسلمة رغم كل ما هب عليها من رياح التغريب ومظاهر الفتنة لا يقبلون مساسا بعقيدتهم وبمقدسات الإسلام، وهذا ما كشفت عنه التظاهرة الضخمة بالحسيمة ردا على فرية الصحافة الدنمركية في حق الرسول الأعظم صلوات الله عليه. الآن.. يمارس الريفيون دينهم على إيقاع صحوة إسلامية صاعدة وتبقى هذه الصحوة في حاجة إلى ترشيد وتوجيه حتى تثبت وتنبت نباتا حسنا لتؤتي أكلها بإذن ربها وهذا يحتاج إلى تعميق روح الإيمان في النفوس، وروح التطلع إلى مقاماته العالية وذلك بالتربية الروحية: التربية التي تصل فطرة الإنسان بخالقه تقربه إليه وتحببه وتشوقه إليه سبحانه.. فعسى ذلك يكون وعسى الأجيال الصاعدة أن تُقبل وتشارك فيها.. والحمد لله رب العالمين. [1] م-س 154. [2] ن- م، ص: 156. [3] الظل الوريف لأحمد سكيرج ص2. [4] ن- م، ص 2. [5] الريف قبل الحماية.. ص 376 [email protected]