خلال الأسبوع الذي ودعناه فقدنا في العالم الإسلامي اثنين من كبار العلماء الذين أثرا في عقول كثيرة، أحدهما الدكتور مصطفى محمود الذي راهن على الاكتشافات العلمية وبحث سبل جعلها وسيلة لإرشاد العقول التائهة إلى الطريق السليم، وثانيهما الدكتور فريد الأنصاري الذي لا يذكره أحد إلا ونطق قائلا: كان رحمه الله هادئ الطباع لا يرى إلا صامتا، همه العلم والدراسة والتحصيل وكلها عنده وسائل لنصرة الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. في سنوات الإعدادية قرأ جيل السبعينيات والثمانينيات لمصطفى محمود، ولا شك أن كتابه "حوار مع صديقي الملحد" و"رحلتي من الشك إلى الإيمان" كانا في مقدمة الكتب الأكثر تداولا بين المراهقين والشباب وقتئذ. المثير في مؤلفات مصطفى محمود التي تنوعت بينما هو فكري وأدبي هو طابعها التحاوري الفريد، فهو لا يعطي الحقائق جاهزة ويفني وقته في إقناعك بها، بل إن القارئ يحس وهو يطالع الصفحات الواحدة تلو الأخرى أنه يحاور صاحب الكتاب فيما تخط يداه، فكرة فكرة، وسطرا سطرا.. كان رحمه الله يأتي بالإشكالية ويفككها ويحاورها ويروي ما يقوله كل واحد عنها، فيدعك تسمع للجميع وتسمع له هو أيضا وتقرر أنت كقارئ الصورة الختامية التي رسمتها بعد مطالعتك للكتاب. ثم في غفلة من الجميع ظهر الرجل بوجهه الهادئ ونظارته الشهيرة على شاشة الإ آر تي في برنامجه الرائع "العلم والإيمان". أشد ما لفت في تلك الأشرطة التي كان يعلق عليها هو نفسه هو طابعها الكوني بالمعنى الشامل.. فأنت ترى المسالك العلمية في مجالات الطبيعة والحيوان والإنسان والكائنات الأخرى ولا تحس بالتيه، بل تشعر أنك ترى كونا منظما متنوع المخلوقات يعيش على نواميس وقوانين واضحة المعالم كل ما يفعله العقل الإنساني هو اكتشافها وإبرازها في "صورة" للمتفرجين.. باختصار: إنه يبرز الجمال في كل شيء وقعت عليه عيناه وهذا ما ميز هذا الرجل الذي يتحاكى الناس في مصر عن مشاريعه الخيرية لصالح لفقراء ومنها مستشفى خاص لقي ربه داخله. وهذا الجمال الفريد، هو ما راهن عليه الدكتور فريد الأنصاري، هذا الرجل الحبيب رحمة الله عليه خلال رحلته العلمية في الدعوة إلى الله. الراحل كان يفاجؤ قراءه بالتنقيب عن الجمال في كل شيء حتى في الموت كنهاية طبيعية لمرحلة تبدأ بعدها مرحلة أخرى أكثر رحابة ورونقا إذا عمل الإنسان لم يجعله يراها ذات رونق. وفي الصلاة كذلك تحدث عن مكامن الجمال فيها مثلما تحدث عن معالم الجمال في التدين كله، وهو منهج جدير بالمتابعة والتطوير لأنه يبرز القوالب الجامدة في طابع جديد محبب إلى القلب. فالبشر بطبعهم ملوا رؤية الأشياء ذاتها منذ ولادتهم، السماء في زرقتها والأشجار في عنفوانها والجبال في شموخها.. لكن إذا ما أتى أحدهم ونفض الغبار عن هذه النمطية الجاهزة، وطلب إليك إعادة النظر في الجبال ما هي وما دورها وكيف نشأت ومتى ولماذا؟ فلا شك أنك سترى واقعا جديد يقودك إلى حقائق بديهية منعتك طبقة غبار الجهل والنسيان والوراثة من التطلع إلى بهائها. الأمر نفسه بالنسبة للسماء والأشجار والطيور ومعالم تكوينك أنت نفسك كإنسان. لقد انخرط الدكتور فريد رحمة الله عليه في آخر حياته في هذا المسلسل الجميل، وانكب على كتاب الله يستغرق فيه وقته وصحته وماله لاستخراج ما يتيسر له من كنوزه التي لا تنفذ، فجاءت بصائر القرآن التي لا يمكن لمن يقرأها أن لا يتأثر بها. قد يكون كتابه "الأخطاء الست للحركة الإسلامية في المغرب" من أكثر كتبه التي تدلك على شخصيته القلقة على الحقيقة بتجردها و"جمالها". فالدكتور فريد إنسان يرفض بطبيعته الصحراوية الصريحة المتواضعة أن يتم تحوير مجال العمل للإسلام إلى مجالات استنزفت الوقت والجهد وأوجدت ما كان الجميع في غنى عنه من المشاكل والعقبات.. قارئ الكتاب يحس بروح الدكتور الراحل قلقة على مصير العمل الإسلامي في البلد، وراغبة في أن يتم تجاوز تلك العقبات بالطرق الصحيحة.. فالسياسة في نظر الراحل الرائع جزء من الدين ولم يكن الدين أبدا ليكون جزءا من السياسة تحت أي مسمى. "" لا شك أن وفاة العلماء مصيبة كبيرة للدور الكبير الذي يقومون به في توجيه الأمة وإرشادها والذي يفقد بعد انتقالهم إلى رحاب الله، فكيف العمل ونحن نعيش عصر أجيال الإنترنت والشات والهوتميل والإيميلات والهواتف النقالة والفضائيات، أمة لا تقرأ وترى في القارئ أحمقا يضيع وقته.. إنها أعظم من المصيبة.. لكن لا مفر من الأمل، والأمل معقود على فقراء وبسطاء هذه البلد لإنتاج أجيال جديدة ترى في المستقبل شيئا آخر غير التيه في أحضان الضياع. لقد صدق الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي حينما قال حكمته الشهيرة "الإيمان عقل بلا حدود"، كما صدق حين قال "كل الثوريين متحمسون لتغيير العالم لكن لا أحد يفكر أصلا في تغيير نفسه".. وهذه هي البداية، أن يبدأ كل مراهق وشاب وشابة وكهل وشيخ بنفسه فيغيرها ولا يشغل باله كثيرا بتغيير الآخرين..رحمك الله سي فريد الأنصاري الخزرجي عاشق مكناسة الزيتون، ورحمك الله أستاذ مصطفى محمود عاشق العقل الذي يوصل إلى الله، ونسأل الله حسن الخاتمة في دنيا عابرة كل شيء فيها عابر.. [email protected] mailto:[email protected]