يعتقد البعض بأن دستور 2011 استطاع أن يُقدم للمرأة المغربية ما تصبو إليه منذ عقود من النضال، وذلك من خلال تأكيد الدستور في ديباجته وفي فصله التاسع عشر على مسألة المساواة بين الرجال والنساء من جهة، وإقرار مبدأ سمو المواثيق الدولية على القوانين المحلية ممن جهة ثانية، مما حدا ببعض الباحثين والمهتمين بقضايا إنصاف المرأة اعتبار الدستور الجديد بمثابة وثيقة للمساواة بين الرجال والنساء، بحيث يكفي تطبيق الفصل 19 لأجل تحقيق هذا الهدف، وذلك من خلال ملائمة القوانين العادية مع بنود الدستور والإتفاقيات الدولية التي وافق عليها المغرب. لكن هل فعلا يتضمن الدستور الجديد ما يمكن أن يُعوّل عليه من أجل تجاوز الوضعية المَهينة التي تعيشها المرأة المغربية؟ قد لا يكون الأمر مستغربا إذا ما قلنا بأن الدستور الجديد لا يضيف الكثير لوضعية المرأة في القانون المغربي، كما أنه من المستبعد العثور على نصوص في مدونة الأسرة، مثلا، تتناقض ودستور 2011، فكثيرا ما يبرر البعض تقدّم وضعية المرأة بما جاء في النص الدستوري بخصوص مسألة التأكيد على مبادئ: الطابع الكوني للحقوق والحريات، وعدم قابليتها للتجزيء، وحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، و جعل الاتفاقيات الدولية تسمو على التشريعات الوطنية، وغيرها من المسائل التي أكّد عليها الدستور في ديباجته وفي فصله التاسع عشر، إلا أن ذلك يظل محض تمني سرعان ما تخفت وطأته، فما أعطاه المشرّع الدستوري بيده اليسرى لحقوق الإنسان بشكل عام وحقوق المرأة بشكل خاص، أخذه بيده اليمنى داخل نفس النص. ولاستجلاء ذلك لابد من استعراض أهم البنود الدستورية الواردة في هذا السياق، إذ جاء في الفقرة ما قبل الأخيرة من ديباجة الدستور ما يلي: "جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة". ونفس التعبير وظّفه المشرّع الدستوري أثناء حثه على المساواة بين الرجال والنساء، فالفصل 19 من الدستور يقول: "يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها"، ولأجل تحيقيق هذه الأهداف ألزم الدستور في الفقرة الثانية من نفس الفصل الدولة بأن تسعى إلى "تحقيق مبدإ المناصفة بين الرجال والنساء. وتُحدث لهذه الغاية، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز". من الواضح أن منطوق الدستور، في الديباجة كما في الفصل التاسع عشر، ينتصر لمبدأ المساواة ويدعو إلى تحقيق المناصفة من أجل تجاوز الوضعية المأزومة التي تعيشها المرأة المغربية، لكن هذا النفَس المُنصِف سرعان ما يتبدّد وتخفُت حدّته عندما نتمعّن في الإشتراطات التي وضعها الدستور على المضمون الايجابي للفصل 19، فغالبا ما يغفل بعض المدافعين عن المساواة بين الجنسين أن الدستور المغربي يُسيّج مبدأ سمو المواثيق الدولية بثلاث شروط: أولا، أن تكون مطابقة للدستور؛ ثانيا، أن تكون مطابقة لقوانين االمملكة؛ ثالثا، ألا تتعارض مع ما أسماه المشرع في التصدير "هويتها الوطنية الراسخة" و "ثوابت المملكة" في الفصل 19. وهو ما يطرح السؤال حول ما معنى سمو المواثيق الدولية إذا كان ينبغي لها ألا تتعارض والقوانين العادية مثلا؟ ألا يعني مبدأ السمو من باب أولى أن لا تتعارض القوانين المحلية مع المواثيق الدولية؟ أليس ينبغي للقوانين المحلية أن تكيف نفسها مع المواثيق الدولية بدل المطالبة بالعكس؟ يمكن القول بأن الدستور الجديد جعل المواثيق الدولية تحت تصرف المشرع العادي لكي يفعل بها ما يشاء، تحت مبرر المخالفة للثوابت والهوية الراسخة، أو مناقضتها للدستور الذي ينص على دينية الدولة. والواقع أن أهم الأمور التي تشكو منها المرأة في المغرب هي في الأصل مرتبطة بمقولة "التوابث". فحرمان المرأة من حقوقها يناقض عدم قابلية المبادئ الكونية للتجزيء أو التمييز على أي أساس. والحال أن أهم التحفظات التي أبداها المغرب على الاتفاقيات الدولية كانت بمبرر الهوية والثوابت؛ لقد رحّب المغرب بالمادة الثانية من اتفاقية ّسيداو" بشرط "ألا تخل بالمقتضيات الدستورية التي تنظم قواعد عرش المملكة"مما يفيد بأن المغرب يضل متمسّكا بالمنظور التوراثي الذي يرفض تولي المرأة رئاسة الدولة، كما تحفّظ المغرب على المادة 16 من نفس الاتفاقية وخصوصا ما "يتعلق منها بتساوي المرأة والرجل في الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج" وبُرّر قرار التحفّظ بداعي مخالفَة الشريعية الإسلامية التي تُقدس الزواج... إن المطالبين اليوم بتطبيق الفصل 19 من الدستور سيصطدمون، لامحالة أثناء عرض أي نص قانوني جديد يروم تكريس المساواة وينصف المرأة، بمطلب "اللادستورية"؛ فأي مقترح قانون في هذا السياق ينبغي ألا يخالف الدستور، وقوانين المملكة، وإذا توفر فيه هذين الشرطين فإنه سيجد صعوبة في أن ينفذ من التعبير الفضفاض "الثوابت" و "الهوية الراسخة"، ولن يألُ أيّ طاعنٍ في مثل هكذا قوانين جهدا من أجل جعلها في حكم العدم. لقد أشرنا في مقال سابق إلى أن المرأة المغربية لا تزال ممنوعة من ممارس مهنة العدول، كما تُمنع من جميع الشهادات اللفيفية، وكل ذلك بمبرر الهوية الوطنية، و"ما جرى به العمل" و"القواعد الشرعية"، وفي مقال قادم سنتطرق إلى قانون الجنسية الذي يتناسى أغلب المجتمع المدني أنه رمز للأبسية القانونية الموجودة في المغرب. أردنا بهذا التدخل المقتضب مناقشة بعض الأطاريح التي تريد أن تجعل من دستور 2001 وكأنه ثورة في صالح المرأة، وأنه يكفي تطبيقه لكي تحصل النساء على مبتغاهن، بينما الواقع أنه هذا الدستور يتضمن عدة ثغرات من شأنها إعاقة أي تطور في مجال الحقوق والحريات الممنوحة للمرأة. وهذا نموذج واحد فقط من نماذج متعددة تبرز أن المغرب في حاجة إلى دستور أكثر ديمقراطية. أما الفصل 19 من الدستور الحالي فهو لا يقل ألغاما عن نظيره في الدستور السابق. *باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة [email protected]