التهراوي يعطي الانطلاقة لمعرض جيتكس ديجي هيلث ويوقع على مذكرات تفاهم    هواجس سياسية:(؟!)    نسبة ملء السدود بلغت 49.44% وحقينتها ناهزت 6 ملايير و610 مليون متر مكعب من الموارد المائة    جهة طنجة تطوان الحسيمة: إحداث أزيد من ألف مقاولة خلال شهر يناير الماضي    عودة التأزّم بين فرنسا والجزائر.. باريس تستدعي سفيرها وتقرّر طرد 12 دبلوماسيا جزائريا    ثغرة خطيرة في واتساب على ويندوز تستنفر مركز اليقظة وتحذيرات لتحديث التطبيق فورا    توتر غير مسبوق : فرنسا تتخذ قرارا صادما ضد الجزائر    المغرب يحصل على موافقة أمريكية لصفقة صواريخ "ستينغر" بقيمة 825 مليون دولار    أشبال الأطلس يتأهلون إلى نهائي كأس أمم إفريقيا على حساب الكوت ديفوار    إحباط تهريب 17 طناً من مخدر الشيرا في عملية أمنية مشتركة    دي ميستورا يدعو المغرب لتوضيح تفاصيل صلاحيات الحكم الذاتي بالصحراء والأشهر الثلاثة المقبلة قد تكون حاسمة    توقيف شبكة تزوير وثائق تأشيرات وتنظيم الهجرة غير الشرعية    السفير الكوميري يطمئن على الطاوسي    مولدوفا تنضم إلى إسبانيا في دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية    رغم خسارة الإياب.. برشلونة يتألق أوروبيًا ويعزز ميزانيته بعد الإطاحة بدورتموند    الطقس غدا الأربعاء.. أمطار وثلوج ورياح قوية مرتقبة في عدة مناطق بالمملكة    بركة يعترف بخسارة المغرب كمية ضخمة من المياه بسبب "أوحال السدود"    دي ميستورا يؤكد الدعم الدولي لمغربية الصحراء ويكشف المستور: ارتباك جزائري واحتجاز صحراويين يرغبون في العودة إلى وطنهم    تشكيلة أشبال الأطلس ضد كوت ديفوار    مصرع سائق سيارة إثر سقوطها في منحدر ببني حذيفة    نائب رئيس جماعة سلا يتعرض لاعتداء بالسلاح الأبيض والأمن يطلق الرصاص لإيقاف الجاني    الرباط: رئيس برلمان أمريكا الوسطى يجدد التأكيد على دعم الوحدة الترابية للمملكة    اتفاقيات "جيتيكس" تدعم الاستثمار في "ترحيل الخدمات" و"المغرب الرقمي"    تحفيز النمو، تعزيز التعاون وتطوير الشراكات .. رهانات الفاعلين الاقتصاديين بجهة مراكش أسفي    حين يغيب الإصلاح ويختل التوازن: قراءة في مشهد التأزيم السياسي    العلوي: منازعات الدولة ترتفع ب100٪ .. ونزع الملكية يطرح إكراهات قانونية    توقيع اتفاقية شراكة بين وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة ومجموعة بريد المغرب لتعزيز إدماج اللغة الأمازيغية    أرسين فينغر يؤطر مدربي البطولة الوطنية    خريبكة تفتح باب الترشيح للمشاركة في الدورة 16 من المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي    فاس تقصي الفلسفة و»أغورا» يصرخ من أجل الحقيقة    دي ميستورا.. طيّ صفحة "الاستفتاء" نهائيا وعودة الواقعية إلى ملف الصحراء المغربية    الاتحاد الأوروبي يؤازر المغرب في تسعير العمل المنزلي للزوجة بعد الطلاق    حرس إيران: الدفاع ليس ورقة تفاوض    إخضاع معتد على المارة لخبرة طبية    لقاء تشاوري بالرباط بين كتابة الدولة للصيد البحري وتنسيقية الصيد التقليدي بالداخلة لبحث تحديات القطاع    عمال الموانئ يرفضون استقبال سفينة تصل ميناء الدار البيضاء الجمعة وتحمل أسلحة إلى إسرائيل    "ديكولونيالية أصوات النساء في جميع الميادين".. محور ندوة دولية بجامعة القاضي عياض    وفاة أكثر من ثلاثة ملايين طفل في 2022 بسبب مقاومة الميكروبات للأدوية    دراسة أمريكية: مواسم الحساسية تطول بسبب تغير المناخ    فايزر توقف تطوير دواء "دانوغلبرون" لعلاج السمنة بعد مضاعفات سلبية    إدريس الروخ ل"القناة": عملنا على "الوترة" لأنه يحمل معاني إنسانية عميقة    توقيع اتفاقيات لتعزيز الابتكار التكنولوجي والبحث التطبيقي على هامش "جيتكس إفريقيا"    الهجمات السيبرانية إرهاب إلكتروني يتطلب مضاعفة آليات الدفاع محليا وعالميا (خبير)    محمد رمضان يثير الجدل بإطلالته في مهرجان كوتشيلا 2025    فليك : لا تهاون أمام دورتموند رغم رباعية الذهاب    نقل جثمان الكاتب ماريو فارغاس يوسا إلى محرقة الجثث في ليما    قصة الخطاب القرآني    اختبار صعب لأرسنال في البرنابيو وإنتر لمواصلة سلسلة اللاهزيمة    المغرب وكوت ديفوار.. الموعد والقنوات الناقلة لنصف نهائي كأس أمم إفريقيا للناشئين    فاس العاشقة المتمنّعة..!    أمسية وفاء وتقدير.. الفنان طهور يُكرَّم في مراكش وسط حضور وازن    ارتفاع قيمة مفرغات الصيد البحري بالسواحل المتوسطية بنسبة 12% خلال الربع الأول من 2025    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    خبير ينبه لأضرار التوقيت الصيفي على صحة المغاربة    إنذار صحي جديد في مليلية بعد تسجيل ثاني حالة لداء السعار لدى الكلاب    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أين نحن من العولمة؟
نشر في هسبريس يوم 02 - 04 - 2025

يبدو أنّ دول الجنوب وخاصة منها الدول العربية والإسلامية، في مرحلة مفصلية الآن. والقصد، إمّا أن تكون أو لا تكون اليوم قبل الغد، في الساحة الدولية التي تؤكّد كل المؤشرات الحالية أنّ أقوى صانعي منظومة العولمة وهي الولايات المتحدة الأمريكية قد غيّرت وجهتها إلى حيث تشاء، لتحقيق توازناتها الاقتصادية والتجارية والمالية ولبلوغ غاياتها الاستراتيجية.
ولا شك أن السؤال المركزي الذي يفرض طرحه الآن من لدن الدول العربية والإسلامية في ضوء الزلزال الاقتصادي والتجاري الذي أحدثته القرارات الأمريكية الأخيرة بشأن العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية لأمريكا وباقي دول العالم، وما الرسوم الجمركية المعلنة من طرف الرئيس الأمريكي " ترامب " إلاّ "غيض من فيض" ستبديه الأيام والشهور والسنوات القادمة، ( أقول) السؤال المركزي الذي يجب طرحه هو: أين نحن من العولمة؟. وهو سؤال يراد به ( الهدف منه) تقييم المرحلة التي ابتدأت على الأقل منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي حتى الآن، مما يفرض طرح مجموعة من الأسئلة التي تمكّن من ملامسة الإجابة على السؤال المركزي أعلاه. وليس ذلك بالهيّن لأنه يتطلب تضافر جهود المعاهد والجامعات ومراكز البحوث العلمية بمختلف مشاربها الفكرية والأقلام الجادة والأحزاب السياسية بمختلف ألوانها.
من هذه الاسئلة ما يفرض العود على بدء من قبيل: ما هي الوعود والتصريحات السياسية التي قدّمها صناع العولمة وفي طليعتهم أمريكا لقياس مدى التزامهم بها؟. ومنها ما يمكّن من تقييم النتائج على الأرض مثل: ما الذي تحقق فعلا من هذه الوعود والتصريحات؟ وما هو واقع الحال اليوم؟. ومنها السؤال الاستشرافي التالي، وهو استعجالي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على المستويين القصير والمتوسط: أية مخارج من الأزمة المركّبة التي نعيشها اليوم ولن تنتهي في القريب المنظور؟.
في الوعود والتصريحات السياسية...
تقتضي الأمانة الإعلامية تقديم بعض وعود وتصريحات صانعي العولمة من ذوي القرار السياسي عالميا ومنظّريها، دون تغيير أو تحريف لمضامينها. ولذلك عمدت إلى التركيز على شهادات وتحقيقات ثلاثة مفكرين مغاربة خبروا مجال العلاقات الدولية تنظيرا وممارسة ميدانية مكّنتهم من سبر أغوارها ومعرفة معظم تفاصيلها، يتعلق الأمر بالفقيه السياسي والقانوني عبد الهادي بوطالب ( رحمه الله)، وعالم المستقبليات الذي عمل بالأمم المتحدة وحاضر في العديد من الدول الأجنبية مثل اليابان المهدي المنجرة ( رحمه الله)، والخبير في الدراسات الدولية للبلدان النامية الذي عمل بالأمم المتحدة وشغل عدة مناصب سامية عباس برادة السني ( أطال الله في عمره). فما الذي جاء في شهادات وتحقيقات هؤلاء المفكرين، الموثقة في كتبهم حول العولمة وحواراتهم المسؤولة؟
كان المسؤولون الأمريكيون ومن بينهم " جورج بوش " و " ديك شيني" و " هنري كيسنجر" يلحّون في تصريحاتهم بعد سقوط جدار برلين في 1989 وفي أثناء حرب الخليج وما بعدها على القول: " إنّ النظام المزمع تأسيسه سيقوم على الحق الذي يضبط سلوك الأمم، وإنّ هذا النظام سيكون تحت قيادة أمريكا، وإنّ دور هذه الأخيرة لن يقتصر على المجالات الأمنية والسياسية، بل لابد أن يشمل المجال الاقتصادي أيضا، وأنّ ذلك يوفّر القدرة لأمريكا على مراقبة بحار ومحيطات العالم، وعلى القيام بالتزاماتها في الشرق الأوسط وأروبا، والمحيط الهادي، وجنوب شرق آسيا، وبناما. ومواجهة المفاجآت والدفاع عن أوروبا ومصالح الأمريكيين أينما كانت وحيثما تعرضت للتهديد ".
ومما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق " بيل كلينتون " مخاطبا الأمة الأمريكية: " ستكون العولمة حظ الولايات المتحدة الواعد، ولن تشكّل أية عرقلة لتقدمها. ستقيم عالما جديدا بحدود جديدة يجب توسيعها، ولن يشكّل قيام العولمة أي تهديد لنا، بل العكس سنكون في طليعة المستفيدين منه ".
وتمثلت الخطوط العريضة لمقاربة " المنظمة العالمية للتجارة " في تصريح جاء على لسان المدير العام السابق لها السيد " روناتو روجييرو " أمام قمة لرؤساء دول " مير كوزور" لأمريكا اللاتينية التي انعقدت بمدينة " أسونسيون" عاصمة البارغواي في يوليوز 1997 قال فيه: " إنّ العولمة لا تعني فقط تحرير التجارة وتنقل الرساميل والاتصالات والتكنولوجية، وإنما تعني التقارب المتزايد في المصالح والأهداف والتطلعات والآمال، وكذا في تماثل التصور والإدراك والرؤية نحو العالم. إنّ العولمة لا تعني الاندماج الذي يقتصر على تعميق الروابط التجارية فحسب بل إنّها تعني اندماجا يقضي إلى شبه تماثل في الهياكل التحتية، وإلى شراكة في شبكات الإنتاج والاستهلاك، وإلى نسج روابط متينة في علاقات التعاون عبر الحدود (...) ".
وفي غفلة من التفاؤل قال السيد " روجييرو" : " إنّ تصنيع دول الشمال قد تطلّب قرنين من الزمن، بينما لن يتطلّب وصول ملايير البشر ( في الجنوب) إلى نفس النتيجة أكثر من جيل واحد " حسب زعمه.
علاوة على ما تم تقديمه من تصريحات سياسية ووعود لصانعي العولمة وهي " غيض من فيض " فقد تعددت الكتابات الأكاديمية والصحفية حول العولمة في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، منها من " طبّل وزمّر" أصحابها لهذه الظاهرة واعتبروها آلية لتخليص دول الجنوب ومواطنيها من التخلف الاقتصادي ونشر حقوق الإنسان والحريات العامة.
ومنها من عبّر أصحابها عن رفضهم البات لهذه المنظومة. ومنها من دعا إلى التعامل معها بحدر ومنهم كاتب هذه السطور وذلك من خلال مقال بعنوان" العولمة الاقتصادية واقع يفرض التعامل معه بحدر" تم نشره بجريدة " السياسة الجديدة " في نهاية 1999 (أو بداية 2000).
ونتساءل اللحظة: ما هو واقع الحال منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن؟. وهو سؤال معقّد لا يمكن الإحاطة بجميع الجوانب للإجابة عنه لكن ذلك لا يمنع من تلمّس ولو اليسير من هذه الإجابة من خلال مساعدة المفكرين المغاربة الثلاثة المعتمدين في هذه الورقة.
واقع الحال: في حقائق العولمة على الأرض وبعض الخفي منها
منذ الثمانينيات من القرن الماضي، تلاحقت مجموعة من الأحداث والوقائع تركت بصماتها على العالم. وهي التي كانت وراء العمل على تغيير نظمه وتوحيدها في نظام عالمي جديد او لنقل في عالم جديد. وقد تضافرت جميعها مؤشرة على سقوط قطبية الاتحاد السوفياتي، وبداية عهد القطبية الأحادية مشخّصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي سنة 1991، اجتاح العراق الكويت. ودعت الولايات المتحدة الأمريكية حلفاءها الغربيين إلى حرب أسمتها " عاصفة الصحراء ". وحسب عبد بوطالب ( رحمه الله) فقد وقف الاتحاد السوفياتي يتفرج على المشهد، مسجّلا تخلّيه عن التنافس على القطبية. ودعا الرئيس الأمريكي " بوش" إثر الانتصار في هذه الحرب إلى إقامة نظام عالمي جديد. وحسب صناع العولمة، فإن الهدف من البدء بعولمة الاقتصاد هو تحقيق تنمية اقتصادية عالمية شاملة، وتشخيص تعاون العالم على صعيد الاقتصاد كمنطلق لتعاونه الشامل في سائر المجالات الأخرى.
وتقتضي عولمة الاقتصاد في منظور صناعها: تخلي الدولة عن دورها في الاقتصاد خاصة لفائدة الرأسمال الوطني والأجنبي، وأن تعتمد الدولة الوطنية سياسة تخصيص القطاع العام، وأن ترفع القيود على سياسة التخصيص حتى تنتهي إلى تجريد القطاع العام من صلاحياته السابقة التي كانت تعطي للدولة الوطنية الرتبة الأولى في تسيير الاقتصاد الوطني. وكل ذلك لفائدة القطاع الخاص الذي يتعين أن يصبح فاعلا رئيسيا في مجالات التشغيل والصحة والتعليم والمحافظة على البيئة، ويقوم بتسيير بعض المرافق الإدارية لمصالح الماء والكهرباء والمقاولات الوطنية.
لكن واقع الحال أتبث أن العولمة لم تقف عند حدود الاقتصاد، إذ طالت الفكر والإعلام والإبداع والثقافة وهو ما أوضحه المفكر بوطالب بشكل مستفيض في العديد من كتبه وحواراته. فحسبه، نجحت العولمة في مجالات الاقتصاد والسياسة والديبلوماسية، ولا سيما عولمة نظم الحكم. كما قطعت خطوات على صعيد عولمة الفكر، لا تقل عما اجتازته من الخطوات في المجالين الاقتصادي والسياسي.
ويقصد بمجالات الفكر حسب الفقيه السياسي عبد الهادي بوطالب، كل ما يتصل بالإعلام والثقافة، والملكية الفكرية والعلم، والبحث العلمي والإبداع وغيرها من مشمولات التفكير التي تفضي عولمتها في النهاية إلى: قولبة القيم والأخلاق والسلوكات المجتمعية في قالبها الخاص. نفهم، في قالب عولمة الفكر.
والثقافة التي أرادها صناع العولمة أن تسود حسب بوطالب، لا تتعلق بالعلماء والأدباء والباحثين والكتاب والشعراء ورموز المجتمع دعاة المثل والقيم، بل أصبحت القيادة الفاعلة هي: نجوم السينما، وعارضات الأزياء، والعاملون في الإشهار لترويج البضائع والمنتوجات، إلخ. وضاعت قيمة الشعر، وتراجع الاهتمام بالعلوم الإنسانية. وانتشرت برامج " سؤال – جواب " التي ترصد لها الشركات المنتجة جوائز مالية. وليت هذه الأسئلة تتعلق بأمهات الكتب والشعراء والأدباء والقيم.
أمّا العلم والبحث العلمي والاختراع، فهي مجالات تمتلكها وتمتلك من خلالها القوة الدولية الدول العظمى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وفيما يتعلق بجل دول الجنوب وشعوبها فإنها ازدادت وتزداد فقرا وتهميشا منذ الثمانينيات من القرن المنصرم نتيجة لآثار المديونية على الاقتصاد الوطني، في حين ازدادت الدول الغنية غنى.
ومن جانب آخر، فقد تنبّأ الخبير المغربي عباس برادة السني بما سيحدث منذ بداية الألفية الثالثة حيث ذهب إلى أن البلدان المصنّعة الغنية لا تجهل أهمية ودور المعارف التي توفّرها لها الثورة التكنولوجية للرفع من مستوى المعرفة لدى بقية دول العالم في جنوب المعمور من أجل مساعدة هذه الأخيرة على التطور في إطار الآليات الدولية التي وضعت وتنامت سواء ضمن منظومة الأمم المتحدة أو المؤسسات المالية الدولية أو خارجها بما أتت به تلك الهيئات وأبدعته من تجديدات في هذه المجالات. كما أنّ هذه الدول المصنّعة لا تكتفي بالاستفادة القصوى من الانتشار السريع لتكنولوجيا الاتصال باعتبارها وسيلة جديدة لخدمة أغراضها التوسعية والاستحواذ أكثر فأكثر على الثروات أينما وجدت، ولو كان ذلك على حساب الأغلبية الساحقة في العالم. وهي لا تدّخر جهدا في سبيل استقطاب علماء البلدان النامية.
عملية الاستحواذ هذه، لا تقف – حسب برادة السني – عند هذا الحد بل إنّها تبدو وكأنها تستهدف تطويع قواعد اللعبة التي سبق للدولة الوطنية أن شرعتها وأقرتها إلى أن تصبح تلك القواعد ميسرة لخدمة مصالح الشركات العملاقة وهي الحيثان الكبيرة كما كان يسميها بوطالب، باعتبارها الفاعل الرئيسي في منظومة العولمة بدل الدولة الوطنية، مما يفضي في النهاية إلى التحكم المطلق في شؤون الاقتصاد الوطني. وتلك هي المرحلة التي أخذ العالم يمر منها منذ بداية الألفية الثالثة.
أما عالم المستقبليات، المهدي المنجرة ( رحمه الله) فهو منذ البداية ارتأى أن ظاهرة العولمة بصرف النظر عن كل المقاربات والتأويلات، تشكّل مرحلة من مراحل الاستعمار الجديد الذي تعمل القوى الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية على التأسيس والترويج لها، ليس فقط على مستوى الممارسة والتطبيقات، ولكن أيضا على مستوى الثقافة والفكر. وفي ذلك تأكيد لما ذهب إليه المفكّرين عبد الهادي بوطالب وبرادة السني في هذا السياق.
والمهدي المنجرة لم ينتفض ضد العولمة باعتبارها ظاهرة استعمارية جديدة فحسب، ولكن باعتبارها أيضا توظيفا لغويا يحرم الدول والشعوب من حقها في اختيار مصطلحاتها ومفاهيمها ومفرداتها للتعبير عن واقعها وآمالها في التحرر والاستقلال والكرامة.
ولنا أن نتساءل الآن وذلك لكي نستجمع عناصر أخرى تتعلق بالحاضر الدولي الصعب لملامسة الإجابة على السؤال المركزي لهذه الورقة: ماذا عن القرار الأمريكي المستجد عن الرسومات الجمركية التي أربكت الحسابات التجارية والاقتصادية لدول العالم ؟
لحد كتابة هذه السطور، نسجّل موقفان واضحان على المستوى العالمي:
موقف الدول التي تسعى جاهدة للتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية ومنها كندا والسويس وانجلترا. وموقف دول أخرى، دول الاتحاد الأوروبي خاصة التي أبدت استعدادها للتفاوض ولكن في حالة عدم تراجع أمريكا عن قراراتها كما صرح بذلك رئيسها فإن الاتحاد الأوروبي سيردّ دون هوادة من خلال إجراءات وتدابير يعتبرها أقوى مما قررته الرئاسة الأمريكية. وستكون الولايات المتحدة أكبر متضرر حسب الرئيس الفرنسي. وعلى العموم فقد أبدى شركاء واشنطن وخصومها تنديدا بهذه القرارات الجارفة.
كما حدرت المنظمة العالمية للتجارة وصندوق النقد الدولي من التداعيات الخطيرة للقرار الأمريكي المتخذ في 02 أبريل من السنة الجارية ( 2025) والقاضي بفرض رسوم جمركية على أكثر من 200 دولة في العالم، بنسب تتراوح ما بين 10 بالمئة و49 بالمئة حسب ما تداولته كل القنوات الإعلامية والمواقع والصحف الالكترونية.
إنّ الأمر يتعلق بحرب تجارية عالمية ستكون كل الدول خاسرة فيها. وستطال هذه الحرب التجارية الاقتصاد العالمي برمته حيث ستنخفض نسبة نموه وربما ستعرف المرحلة القادمة ركودا اقتصاديا عالميا والحال أنّ جل الدول مازالت لم تتعاف من تداعيات مرحلة كورونا. ولاشك أنها ستؤدي إلى انتفاضات اجتماعية على المستوى الوطني لكل دولة في العالم بسبب تسريح العمال والموظفين من الشركات التي توظفهم ومقرات عملهم بصفة عامة.
... فأين نحن من العولمة؟
بناء على كل ما تقدم وغيره كثير، وبتركيزنا على الأسس الأربعة المعلنة لنظام العولمة وهي: الديمقراطية.، والتعددية.، والتنافسية.، والتحررية.، ما ذا نستنتج علاقة بالقرارات المتخذة من لدن الولايات المتحدة الأمريكية المنطوقة بلسان رئيسها حول الرسوم الجمركية الجديدة وما سيواكبها من قرارات ستطال السياسة والاقتصاد وغيرهما؟
1- انعدام ديمقراطية الأمر التنفيذي الأمريكي المتعلق بهذه الرسوم الجمركية والموقع مؤخرا من لدن " ترامب". وهو ما يؤكد بالملموس لدى العام والخاص في العالم، ما أكده بوطالب ( رحمه الله) وهو أنّ نظام العولمة لم يكن، وليس ديمقراطيا لأنه لم ينبثق من إرادة جماعية، ولم يطرح للنقاش على قواعد المجتمعات العالمية، ولم يطرح للنقاش والتفاوض القبلي مع دول العالم التي تتعامل اقتصاديا وتجاريا مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد نظّرت له وطبّقته وأدار دواليبه فريق الحكم برئاسة " ترامب" بشكل انفرادي في تجاهل تام للأضرار التي يمكن أن تنجم عنه بالنسبة لباقي دول العالم. وأعتقد أن الرئيس " ترامب " كان واضحا في خطابه فور تسلّمه مقاليد الحكم إذ قال: أمريكا أولا.
2- ضرب القاعدة المركزية لنظام العولمة وهي: التعددية. والحقيقة كما أكدها بوطالب أن نظام العولمة ليس تعدديا لأنه يعتمد خيارا وحيدا هو خيار السوق. ويبدو لي أن ما فرضته أمريكا من رسوم جمركية بالنسبة للواردات من الدول الأخرى يدخل في سياق " الحمائية الاقتصادية " وهو ما يتنافي كليا مع القواعد النيوليبرالية التي ارتكزت عليها العولمة أو هكذا قيل لنا والتي تجعل من السوق الضابط الأساسي في الاقتصاد العالمي.
3- الانقلاب على " المنظمة العالمية للتجارة ". كيف ذلك؟ مما جاء في كتاب عولمة الاقتصاد للاقتصادي الدولي عباس برادة السني الصادر في يناير 2000 " المنظمة العالمية للتجارة إنما هي في نظر الكثيرين جزء لا يتجزأ من تلك اللعبة المربكة التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها في نهاية القرن العشرين وعلى مشارف الألفية الثالثة لفرض هيمنتها على العالم تحت شعار: الكل من أجل السوق".
كما انقلبت على دول أوروبا الغربية التي كانت حليفة لها في حرب الخليج.
ويحق لنا أن نتساءل: أليست الحقيقة التاريخية هي أن أمريكا تريد أن يكون " الكل من أجلها في العالم ". وهي رسالة مفادها أن من حق الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرض قيمها وعملتها وسيطرتها وقواعدها على العالم لأنها هي الدولة القوية اقتصاديا وعسكريا.
4- انهزام الولايات المتحدة الأمريكية تنافسيا وتحرريا في الحرب التجارية والاقتصادية أمام الصين، إذ إن المنتوجات الصينية أصبحت تغزو السوق الأمريكية في عقر دارها.
5- الارتفاع المهول لمديونية الولايات المتحدة الأمريكية، فالدين الأمريكي يتخطى 34 تريليون دولار لأول مرة في التاريخ حسب موقع" العربية "، الأمر الذي جعلها تتخذ قرارات جمركية صادمة بالنسبة لشركائها وخصومها على حد السواء للخروج من أزمتها ولو كان ذلك على حساب دول وشعوب باقي العالم. ولذلك، صرّح " ترامب " أنّ يوم الأربعاء 2 أبريل من السنة الجارية هو " يوم التحرير" وهو يوم تاريخ الاستقلال الاقتصادي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
وما ذا عنا نحن الدول العربية والإسلامية؟
يبدو أن لا مخرج لنا من هذه الأزمة العالمية الجديدة إلا بتوحيد الصف العربي والإسلامي من خلال إحداث تكتلات اقتصادية وتجارية قوية على شاكلة " الاتحاد الأوروبي". وهو مخرج ديبلوماسي ممكن إذا استوعبنا الدرس الأمريكي الراهن، وقبله دروس" كورونا "، وقبله وبعده دروس " غزة " التي مازالت تطال المدنيين في أرضها الإبادة الجماعية أمام أنظار العالم في ظل " القانون الدولي للغاب " أو هكذا يجب أن يسمى. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال الانغلاق على الذات، وإنما يعني تهييئ أحد شروط التفاوض الوازن وهي التكتلات القوية لأنّ العلاقات الدولية تنبني على منطق القوة والمصالح وليس المحاباة. ونمتلك كل أسباب القوة إذا توفّر شرط الإرادة السياسية في كل الدول العربية والإسلامية.
أما بالنسبة للمغرب، فيبدو أن الأزمة الحالية تشكّل له فرصة أخرى، بعد فرصة كورونا، لتنويع شركائه الاقتصاديين والتجاريين ونسج علاقاته معهم على أساس القاعدة المغربية " رابح – رابح". وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أننا نشكّل استثناء وإنما نمتلك موارد طبيعية وصناعية وبشرية ستمكّننا من تجاوز الأزمة بأقل خسارة ممكنة. ويمكن الاعتماد على دوي الاختصاص والخبرة الميدانية المغاربة في كل المجالات التنموية لتحقيق التنمية المستدامة.
وقد أتبث التاريخ أن التنمية الحقيقية يتم بناؤها من الداخل، ولا تملى من الخارج.
ختاما:
يبدو أن نظام العولمة في منظوره الأمريكي قد أوشك على النهاية بيد صنّاعه. والعالم في حاجة إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يتم في ضوئه إعادة بناء إنسانية الإنسان، ويعيد للإنسان كرامته وحقوقه في التعبير والرأي والإبداع والثقافة والحلم. ويعيد للشعوب المستضعفة حقهم في اختيار مصطلحاتهم ومفاهيمهم ومفرداتهم للتعبير عن واقعهم وآمالهم في التحرر من الاستعمار الفكري والثقافي الذي طالهم من جراء " ثقافة العولمة " الجارفة.
نظام جديد، يدعو بقوة القانون الدولي إلى احترام الأديان والهويات والثقافات.
نظام يعيد للدولة الوطنية مكانتها الاقتصادية والاجتماعية، ويؤسس للتعاون والتكامل الاقتصادي والتجاري بين دول العالم على مبادئ المساواة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية العالمية.
نظام عالمي جديد، يفرض احترام المؤسسات الدولية وفي طليعتها الأمم المتحدة، وتحترم فيه كل دولة في العالم قواعد وضوابط القانون الدولي.
-إعلامي وباحث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.