فند الواقع الوعود بعالم يغدق غنى في دول الشمال والجنوب على حد سواء، والتي قدمها صناع العولمة في منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. وقد أثبتت، وتثبت اليوم، تطبيقات العولمة على الأرض أن ما نعيشه فعلا هو عولمة التناقضات التي نعرف متى ابتدأت ولا نعرف متى ستنتهي. لقد أكد "روبيرت رايخ" (Robert Reich) عالم الاقتصاد ورجل السياسة الأمريكي، في كتابه "الاقتصاد المعولم" الصادر في 1993، أن التطورات العميقة التي سيعرفها الاقتصاد العالمي، ستعيد تركيب ساكنة العالم واقتصاد القرن الواحد والعشرين. فلن تبقى منتوجات وطنية. ولن تبقى شركات ولا صناعات وطنية. ولن يبقى اقتصاد وطني. سيبقى عنصر واحد بداخل حدود كل بلد: الأفراد الذين يشكلون الأمة. وسيصبح المحدد الرئيسي لوجود كل أمة هو الكفاءات ومثابرة المواطنين. وألح تقرير برنامج الأممالمتحدة للتنمية البشرية الصادر في يوليوز 1999 على الطبيعة غير التعادلية للتنمية، واستنكر التهميش الكبير للبلدان الفقيرة في اقتصاد تهيمن عليه تكنولوجيا الإعلام. وذكر بأن الفوارق تزداد تفاقما بين ال 5 بالمائة الأكثر فقرا وبين ال 5 بالمائة الأكثر غنى في العالم، حيث إن ثروة 200 شخص الأكثر غنى تتجاوز دخل 43 بالمائة من سكان المعمور أو ما يناهز 2.3 مليار من سكان الكرة الأرضية. ومما جاء في تقرير التنمية البشرية لسنة 2016 وهو صادر عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي كذلك، ففي العالم يعاني واحد من تسعة أشخاص من الجوع، وواحد من كل ثلاثة من سوء التغذية. ويقضي 18 ألف شخص يوميا في جميع أنحاء العالم بسبب تلوث الهواء. ويتعرض 24 شخصا في المتوسط كل دقيقة للنزوح قسرا من ديارهم. وحسب تقرير البنك الدولي الصادر في 17 أكتوبر 2018، فإن القضاء على الفقر يبقى تحديا ضخما رغم التراجع الكبير في معدلاته. فأكثر من 1.9 مليار شخص أو 26.2 في المائة من سكان العالم كانوا يعيشون بأقل من 3.2 دولار في اليوم سنة 2015. كما أن نحو 46 في المئة من سكان العالم يعيشون بأقل من 5.50 دولارا للفرد في اليوم. والآن، تواجه كل مناطق العالم احتمال التعرض لانتكاسات، حيث تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن جائحة كورونا أدت بمفردها إلى انزلاق 97 مليون شخص إضافيين في هوة الفقر خلال عام 2020. ولم يعد خاف على أبسط الناس، التبعات الاقتصادية والاجتماعية للحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا. والانعكاسات الكارثية لها في كل دول الجنوب وخاصة في إفريقيا. إننا مازلنا نعيش فعلا عولمة التناقضات، التناقضات بين الخطابات الرنانة بعبارات حقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية، والتضامن، وتحرير المبادلات التجارية، وصحة المواطنين والمواطنات في كل بقاع العالم (...) وبين الواقع الملموس في دول الجنوب حيث الجوع، والفقر، والتهجير القسري للمستضعفين من بلدانهم، والتعامل الخالي من الإنسانية مع المهاجرين العرب والأفارقة في دول تتبجح بالديمقراطية، وتقتيل إخواننا الفلسطينيين داخل بيوتهم بالسلاح الإسرائيلي (...). جراح لن تضمد بسهولة، الموت جوعا في دول الجنوب، وموت الأغنياء بالتخمة في دول الشمال. ولنا أن نتذكر، من طبل وزمر لإزالة الحواجز الجمركية أمام السلع ورؤوس الأموال دفاعا عن العولمة، أليس صناعها؟ ألا توجد حروب بالوكالة في العالم؟ هل سيعود العالم إلى مرحلة تعدد الأقطاب بعد انتهاء الحرب الروسية – الأوكرانية؟ هل ستعود الحرب الباردة في ثوب جديد حيث الصراع بين أمريكا والصين حول من سيتحكم أكثر في الأسواق الاقتصادية والتجارية والمالية العالمية، وليس بين معسكرين كما سبق، المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي؟ لا غرابة، إن قانون الغاب هو أساس السياسة الدولية في العالم منذ القدم، والمصالح الجيو- استراتيجية للدول العظمى هي التي تشكل منطق العلاقات الدولية. وما دون ذلك، فهو كذب على الشعوب في العالم. إن علينا، نحن العرب والأفارقة، أن نعترف لأنفسنا قبل غيرنا بأننا نتحمل الجزء الكبير من المسؤولية حول أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن ثمة فالواقعية تفرض علينا اليوم العمل على ثلاث واجهات إن نحن نريد فعلا تصحيح مسارنا: الواجهة الأولى: التطوير العام للعلاقات على كل المستويات بين الدول الإفريقية والعربية. وهو ما يتطلب إرادة سياسية قوية. ورحم الله المفكر المستقبلي المهدي المنجرة الذي دافع طوال حياته عن أطروحتي التعاون "جنوب – جنوب" والأخلاق باعتبارها قيمة القيم. الواجهة الثانية: الحضور الوازن في العلاقات الدولية، من خلال تكتلات عربية وإفريقية قوية اقتصاديا وسياسيا وحقوقيا. فلا تفاوض حقيقيا مع أمريكا والدول الأوروبية والصين وروسيا، من دون توفر هذا الشرط. الواجهة الثالثة: العدالة الاجتماعية والحريات العامة الملموسة لدى أبسط المواطنين، في كل بلد عربي وإفريقي. فكفى حروبا من أجل السلطة والمال والمناصب. إن العالم اليوم، في حاجة إلى عولمة أخرى أكثر عدلا وإنسانية. ولكي نكون نحن العرب والأفارقة من صناعها لا بد لنا من تبني مفهوم للتنمية يتلاءم مع واقعنا، والقصد أن يكون ابن بيئتنا الإفريقية والعربية وليس مستوردا من الخارج. ولا بد من بلورة وإعداد سياسات عمومية ونماذج تنموية تجسد المفهوم الحقيقي للتنمية المستدامة في كل بلد عربي وإفريقي. وتبقى الإرادة السياسية الحقيقية الشرط الذي من دونه، لن يتحقق أي تقدم في القارة الإفريقية والوطن العربي. ويبقى السؤال المطروح، متى ستنتهي عولمة التناقضات؟ الأكيد، لن تنتهي في القريب المنظور كما نبه إلى ذلك فقيه القانون الدولي، المرحوم عبد الهادي بوطالب. ولنا أن نضيف، ولن تنتهي في غياب توازن حقيقي للقوى الدولية، وفي غياب الديمقراطية في دول الجنوب.