سترتبط نهاية العقد الثاني من القرن الحادي و العشرين باندلاع جائحة (كورونا) التي تسببت في زعزعة العديد من اليقينيات و فضحت خلال أسابيع محدودة مدى هشاشة الانسان في محطة متقدمة من العولمة من خلال حدة الصدمة الاقتصادية التي أفرزتها عالميا. و رغم اننا ما نزال غير متحكمين في الخروج من هذه الأزمة الصحية، فإن كل الملاحظين يتفقون على أن مسار العولمة سيتأثر حتما بعواقبها نتيجة الانخراط العالمي في الحجر الصحي الذي فرض نفسه كظاهرة معولمة ذلك أنهم يتفقون على أن هذه الأزمة ستؤدي مستقبلا لمراجعات عميقة للتدبير الاقتصادي و للسياسات العمومية بل للمنظومات السياسية و المجتمعية و للعلاقات الدولية بين الأقطار. فالعالم يعيش بشكل مؤكد منعرجا بين ما قبل و ما بعد كفيد19. من الواضح أن الأزمة الاقتصادية و المالية لسنة 2008 كانت قد أفرزت اهتزازات ضمن حركيّة العولمة و عجلت بتغيير موازين القوى الاقتصادية داخل العالم لصالح القارة الآسيوية. وفيما لا تزال نيران هذه الأزمة مشتعلة لحد ما، جاء فيروس صغير ليدخل العالم كله في أزمة جديدة أكثر حدة من التي سبقتها. هكذا، فخلال عقد من الزمن فقط ، كان على العالم و على العولمة مواجهة أزمتين اقتصاديتين كبيرتين. قد تكون أزمة 2020 مطابقة لتعريف أنتونيو كرامشي « تكون الأزمة حينما ينقرض وضع ما قبل أن ينبعث وضع جديد ». لاشك أن أزمة 2020 تختلف من الناحية الاقتصادية عن أزمة 2008، لأنها اندلعت من قلب الاقتصاد الحقيقي في حين أن أزمة 2008 (وكما هو الأمر كذلك بالنسبة لأزمة 1929) كانت في أصلها أزمة مالية قبل أن تنتقل الى مجال الإنتاج و بعد ذلك إلى الفضاء الاجتماعي حيث كان لها تأثير سلبي واسع تجلى في ارتفاع مستوى البطالة وتفيقر أجزاء من ساكنة المعمور . وكل المؤشرات تدل على أن مخلفات الأزمة الجديدة على التنمية و على التوازنات الإجتماعية ستكون أكثر حدة . وهذا سيفرض تعبئة هائلة للسياسات المالية للحكومات و تدخلات جريئة للبنوك المركزية و لكل مكونات المنظومات التمويلية عبر العالم. من حسن الحظ أن كبريات البنوك تتسم اليوم في البلدان المتقدمة بمناعة مؤكدة بالنظر لمستوى راسميلها التي تمثل اليوم ضعف ما كانت عليه قبل 2008 بفضل الضوابط المشددة التي فرضت عليها في بداية العقد الثاني، الشيء الذي يسمح لها اليوم بمقاومة الصدمات التي تولدت عن الأزمة الجديدة. ستصبح الصحة ضمن الخيرات المشتركة للانسانية على غرار الاستقرار و السلم. مادام أصل هذه الاخيرة مرتبط بالمجال الصحي فقد كان من الطبيعي أن تعطي السلطات العمومية في كل الأقطار الأولوية هذه المرة للجبهة الصحية من أجل إنقاد حياة الناس و تحجيم جائحة الفيروس و البحث عن التعرف على طبيعتها و تشجيع الأبحاث العلمية و صناعة الأدوية قبل الوصول الى اختراع اللقاح الضروري من أجل التحكم مستقبلا في الوقاية. هكذا ستفرض الحاجة الى الصحة و معها ضرورة إنقاد البشر نفسها مستقبلا ضمن الإختيارات الاستراتيجية للسياسات العمومية. بل ستصبح الصحة ضمن الخيرات المشتركة للانسانية على غرار الاستقرار و السلم. بالإضافة الى ضرورة انقاد حياة الناس، ستكون الحكومات قبل و بعد مغادرة الحجر الصحي مطالبة بالتحرك بسرعة للحيلولة دون انهيار النشاط الاقتصادي و المنظومات الإنتاجية و بعد ذلك وضع أدوات انطلاقة جديدة. واضح أن هذه الأزمة لها خصوصيتها كما يقول دومنيك ستروسكان المدير السابق لصندوق النقد الدولي : فهي أزمة مثلثة الأطراف تمس الكائن (من خلال هشاشته) والملكية (العرض و الطلب) والسلطة (الحكامة المحلية والإقليمية و العالمية). إن المقارنة بين أزمتي 2008 و 2020 تبرز تلاقيهما في نقطة إنطلاقهما من القوتين الإقتصاديتين الأساسيتين. هكذا كانت الولايات المتحدة مصدر الأزمة الأولى، و الصين منبع الأزمة الثانية. وفي كلتا الحالتين استوطنت أوروبا الشيء الذي يدل على هشاشة القارة العجوز التي كانت تاريخيا نقطة ميلاد العولمة. وهو ما يعنينا نحن جنوب المتوسطيين و الأفارقة بحكم جوارنا للأوروبيين. كما أن الخروج من أزمة 2020 سينطلق من مصدرها الصين القوة الإقتصادية الكبرى على غرار ما كان الخروج من أزمة 2008 من الولايات المتحدة، القوة الإقتصادية الكبرى التي انطلقت منها. الخروج من أزمة 2020 سينطلق من مصدرها الصين القوة الإقتصادية الكبرى على غرار ما كان الخروج من أزمة 2008 من الولايات المتحدة، القوة الإقتصادية الكبرى التي انطلقت منها. واضح ان مأساة الفيروس التاجي تعكس أحد تجليات عولمة القرن الواحد و العشرين بانحرافاتها و بسبب حدة التبعية المتبادلة القائمة بين الأنسجة الإنتاجية بالعالم. هكذا فإندلاع الوباء من الصين يمثل أحد أوجه العولمة الجديدة باعتبار أن هذا البلد أصبح قاطرة الإقتصاد العالمي. فهو يغطي وحده 30% من دينامكية نموه و 15%من مبادلاته . هكذا أدى انهيار الطلب الصيني إلى انخفاض سريع في أسعار المحروقات الذي غدته في ذات الوقت و بشكل غير منتظر حدة الخلافات بين كبريات الأقطار المنتجة للنفط: العربية السعودية و وراءها أقطار الأوبيك من جهة و روسيا من جهة ثانية الى حد ان سعر النفط انهار الى حدود عشرين دولارا للبرميل في نهاية مارس 2020. تجلت هذه الصدمة المضادة التي تذكرنا بما حدث سنتي ( 1986و2014) عبر تداخل العوامل الإقتصادية بالعوامل الجيوسياسية ضمن فعل القوى العظمى ( الولايات المتحدة، الصين، روسيا) و كذا تأثير التناقضات الصاعدة بين القوى الإقليمية خاصة السعودية و ايران، حيث تسعى الأولى الى تكثيف الضغوط على الثانية ، فيما رفض الرئيس بوتين في البداية السير وراء السعودية لتقليص الانتاج ساعيا نحو زعزعة الموقع الغالب الذي أصبحت تحتله الولايات المتحدة بفضل تعاظم إنتاجها من النفط الصخري . ضمن هذه المعادلة المعقدة كان الرئيس الامريكي ترامب ينشرح من تشديد الخناق على ايران في ذات الوقت الذي أصبحت فيه هذه الأخيرةالبؤرة الأولى للجائحة في الشرق الأوسط و كان يتردد بين موقفين متناقضين : من خلال ميله إلى الدفع لتحافظ أسعار النفط على مستوياتها (60 دولار للبرميل) استجابة لرغبات مالكي الشركات الأمريكية الذين كان يعتمد عليهم كمساندين سياسيا له من جهة ، ورغبته من جهة ثانية في أن تنحدر أسعار البنزين ليستفيد منها المستهلك الأمريكي خلال الظرفية الحالية المهيأة لانتخابات الرئاسة المنتظرة (نونبر 2020). في آخر الامر تمكنت كل هذه الأطراف من الوصول الى توافق ( 12 ابريل 2020) يقضي بتقليص انتاج النفط بعشرة ملايين برميل يوميا ابتداء من فاتح مايو، وهو قرار قد لا يكون له مفعول جلي بالنظر لظروف الأزمة و محدودية الطلب عالميا. إثر تهاوي أسعار النفط و بعدها أسعار المواد الأولية ( على حساب الأقطار النامية و الصاعدة) تراجع الطلب على كل السلع الصناعية و التجهيزية و الوسيطة و الاستهلاكية باستثناء المواد الغذائية و الأدوية و إلى حد ما سلع الاستهلاك الرفيع التي أصبحت مبادلاتها تنظم عن بعد. هكذا فرض تفشي الوباء حجرا صحيا معولما أدى إلى شلل المنظومات الإنتاجية و إغلاق المتاجر وإفلاس المقاولات وانكسار شبكات التزود و تهاوي القيم في البورصات العالمية الى حد أن بعض الأصوات تعالت في البداية لتطلب الإقفال المؤقت للأسواق المالية . خطر الموت بإفريقيا من مخلفات الفقر المدقع أكبر من خطر الموت بالفيروس التاجي يعرف العالم كله أن التعافي من الركود الإقتصادي سينطلق من الصين و كذا من اقتصاديات اليابان و كوريا الجنوبية و سنغافورة التي تحضر نفسها قبل غيرها لمغادرة الحجر الصحي. لكن عودة الحياة الإقتصادية لن تصبح عملية إلا بعد أن تتمكن أوروبا و الولايات المتحدةالأمريكية من توقيف تفشي الفيروس، و بعد أن يتمكن بلد كبير كالهند من مغادرة مرحلة الحجر و بعد أن تظهر بوادر إيجابية لتطويق الجائحة حتى لا تلج القارة الإفريقية المعروفة بهشاشتها. و إذا كانت العديد من المؤشرات تدل على أن هذه الأخيرة ستبقى على هامش شيوع الجائحة فإن أكبر الأخطار المحيطة بهذه القارة ترتبط بانهيار أسعار المحروقات و المواد الأولية. فخطر الموت بإفريقيا من مخلفات الفقر المدقع أكبر من خطر الموت بالفيروس التاجي. رجوع للتاريخ إن تموقع جائحة كفيد 19 ضمن العولمة المتقدمة بالقرن الواحد و العشرين يرجعنا الى تاريخ البشرية الذي يبرز أن انتشار الجائحات و الأمراض الفتاكة لم يكن يأخد بعين الإعتبار الحدود الوطنية. لقد بين المؤرخون أن غياب الأدوية و اللقاحات ساعد الجائحات على غزو مختلف القارات عبر موجات متلاحقة و خلال عدة قرون أحدثت قطائع ديموغرافية بما يفسر جمود عدد الساكنة بالمعمور الى غاية القرن التاسع عشر. هكذا جاء الطاعون الذي ارتبط باسم الأمبراطور البيزنطي قستنطين ليتفشى بين 541 و 592 في فضاء البحر الأبيض المتوسط الذي كان يعتبر بمفهوم (بروديل) مهد العولمة، حيث تجاوز عدد ضحاياه 25 مليون نسمة. كما جاءت حملة الطاعون الأسود بين 1348و1352 لتقضي على أكثر من ثلث ساكنة القارة الأوروبية، وكانت في نفس الوقت من أسباب بروز تحولات سياسية و اقتصادية هائلة داخل كياناتها. كما يجب الإشارة الى مخلفات اكتشاف الامريكتين من طرف الابيريين و الذي أدى إلى ولوج العديد من الأمراض الى العالم الجديد مثل الزكام و السل و الجذري و الملاريا و الحمى الصفراء . وهي أمراض ساهمت في الإبادة السريعة لجزء كبير من الساكنة المحلية التي كانت تفتقد المناعة الضرورية . كما أن استعمار البلدان الجنوب المتوسطية و الافريقية أخضع ساكنتها للعديد من الأمراض المعدية المستوردة من أوروبا التي انضافت الى الأمراض ذات الأصول المحلية و التي كانت تتفشى في سنوات الجفاف والمجاعة. و مع حملات الاحتلال الأوروبي ولجت أدوات الوقاية الصحية مختلف المستعمرات، فارتفع النمو الديمغرافي بها بشكل مُلفت لأول مرة. كما انتشرت عبر العالم مند القرن الثامن عشر عدة موجات من الأمراض المعدية ذهب ضحيتها حسب المؤرخين 40% من ساكنة المعمور . فعلى سبيل المثال حصد طاعون 1720 عشرات الآلاف من الأرواح في جنوبفرنسا. وجاءت جائحة الطاعون الصيني سنة 1855 انطلاقا من موقع هويان لتنتشر عبر العالم. كما عرف القرن 19 ستة موجات قاتلة لداء الكوليرا بين 1817و1881. وعند انتهاء الحرب العالمية الأولى انطلق الزكام الإسباني من الولايات المتحدة عبر ثلاث موجات بين 1919 و 1920 ليصيب أكثر من ثلث ساكنة العالم حيث وصل عدد ضحاياه الى أكثر من 50 مليون فرد ليكون أكبر جائحة عرفها العالم . ومع ذلك فإن جائحة الفيروس التاجي التي اجتاحت المعمور تعكس أكثر من سابقاتها ظاهرة العولمة، لأنها أدت في بضعة أيام إلى إحداث قطيعة في دينامية الإقتصاد العالمي. فارتبطت بالعولمة من خلال عواقبها السلبية على كل أبعادها (انتاج، تجارة، تنقل البشر) وهي العولمة التي أصبحت تتسم في مراحلها المتقدمة بثنائية القطبية المتمثلة في الولايات المتحدة و الصين و تأثيرها ما يزال ملموسا من طرف أوروبا رغم تراجعاتها المؤكدة. هكذا انطلق الوباء من قلب الصين، القوة الاقتصادية الثانية بالعالم ثم استقر مركزه باوروبا قبل أن ينتقل بعنف الى الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الأولى و التي أصبحت بعد ثلاثة أشهر بؤرته الأساسية. ولقد تجلى من خلال متابعة تفشي مختلف أشواط الجائحة أن انجح سلاح للحد منها يتمثل في الحجر الصحي على مجموع الساكنة عالميا مند اعتماده من طرف الصين الى ان اصبح ظاهرة معولمة تغذي أكبر انكماش اقتصادي عرفه العالم مند بداية القرن. أزمة عولمة جديدة لاشك إذن أن للأزمة الحالية طابع عالمي لأنها أثرت سلبا على الإنتاج و النمو العالميين. انطلقت كما هو معروف من يوهان، مدينة صناعية وسط الصين وواحدة من كبريات معامل العالم. فهي تمثل بالتالي المحطة الأولى لشبكة القيم العالمية بالنسبة للعديد من القطاعات الصناعية مثل قطاع السيارات المنكوبة اليوم، الى قطاع الأدوية الذي أصبح بفعل الأزمة الصحية السائدة موضع ضغط كبير عبر العالم. إن تعقيدات شبكات الإنتاج يفرض على كل المنتوجات الصناعية استعمال مكونات (قطع الغيار) التي تنتج في كل مناطق العالم. وهذا يعني أن أي انكسار داخل الشبكة (خاصة إذا حدث منذ ميلادها كما هو الحال اليوم انطلاقا من يوهان) تكون له عواقب سلبية على كل محطات الإنتاج عبر الأقطار و يؤدي الى انكماش يتفشى عبر العالم (على سبيل المثال المحطات الصناعية النهائية لشركتي رونو و بوجو بالمغرب). ولقد تولد عن توقيف الانتاج العالمي داخل محطات الشبكات تقلص للطلب على المواد و الخدمات و انهيار لأنشطة المبادلات الخارجية و لحركية الدوائر اللوجيستيكية التي تمثل قاعدتها : النقل بكل أنواعه الطرقي و الحديدي و البحري و الجوي و كذلك منصاتها من موانئ و مطارات و محطات. كما أن لهذه الصدمة الإقتصادية الحادة تأثير سلبي على الاسواق المالية و البورصات التي تهاوت قيمها بعنف قبل أن تتعافى جزئيا. وفي ذات الوقت تعبأت الموازنات الحكومية من أجل دعم الواجهة الصحية و توقيف نزيف انهيار المنظومات الإنتاجية قبل التحضير لمصاحبة انطلاقها من جديد. هكذا أقبلت الحكومات و البنوك المركزية للبلدان المتقدمة في بداية النصف الثاني من شهر مارس 2020، في عز تفشي الجائحة، على التدخل بقوة قطريا و إقليميا و دوليا. هكذا إنطلقت مشاورات دولية ضمن مجموعة السبع و بعدها مجموعة العشرين (26مارس 2020) في محاولة لتحجيم العواقب المدمرة للأزمة و إنقاد الاقتصاديات الوطنية. و لقد كان عليها أن تتخلى عن كثير من اليقينيات المتمثلة في المعايير التقليدية و الأرتدوكسية للتدبير المالي. هكذا قامت كبريات البنوك المركزية (الفيديرالي الأمريكي و البنوك المركزية لاوروبا والصين واليابان و بريطانيا العظمى) بتخفيض معدلاتها المديرية الى حدود الصفر و بادرت بمباشرة تدخلات غير كلاسيكية عن طريق شراء سندات عمومية وخصوصية. هكذا أقر البنك المركزي الأوروبي برنامجا استعجاليا في حدود ألف مليار أورو لشراء مكثف لديون الدول والمقاولات داخل منطقة الأورو بهدف التخفيف على البنوك و حثها على توزيع المزيد من القروض للعائلات والمقاولات دعما للإنتاج والتشغيل. هكذا انتصر منطق « مهما كان الثمن » الذي ردده الرئيس الفرنسي ماكرون وهي عبارة يرجع مصدرها الى المدير العام الايطالي للبنك المركزي الأوروبي دراكي الذي قال بها سنة 2010 و اتفقت دول الاتحاد الأوروبي على إقرار برنامج انطلاقة بقيمة 540 مليار أورو عن طريق منحها ضمانات للبنك الأوروبي للاستثمار ليُقرضَ بدوره المقاولات في حدود 200 مليار أورو وإعطائها الضوء الأخضر للجنة الأوروبية لكي ترفع 100 مليار أورو من داخل الأسواق المالية و تُقْرِضها للأقطار التي تحتاج لذلك. و رغم تردد حكومتي ألمانيا و هولاندا المتشبتتين بالضوابط الأرتدوكسية، فإن الأقطار الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتقدم نحو استعمال » الآلية الأوروبية للتثبيت » التي أُحدثت سنة 2012 باعتمادات تصل الى 450 مليار أورو وهي الآلية التي تعتبرها إيطاليا و اسبانيا غير كافية لمواجهة التحديات الراهنة. وهذا ما جعلها تطالب بإحداث آلية أوروبية للتضامن الاستثنائي تقضي بجمع كل الديون العمومية و إقرار قرض مشترك و موحد سمي ب(سندات كورونا) حيث يتحقق التضامن بين البلدان المنيعة ( ألمانيا، هولاندا ) والبلدان التي تعرف نوعا من الهشاشة ( اسبانيا، إيطاليا، و إلى حدّ ما فرنسا). على المستوى الداخلي قررت الحكومة الألمانية اخراج مدفعية بازوكا في شكل خط ائتماني في حدود 550 مليار أورو خدمة للمقاولات المحتاجة من أجل انقاذها من الافلاس. في الولايات المتحدة أقرت السلطات العمومية برنامج انطلاق استثنائي في حدود 2000 مليار دولار (أضيف لها 750 مليار دولار)، حيث خصصت إعانات مباشرة في شكل توزيع شيكات على العائلات المحتاجة ( 1200 دولار للفرد و 2400 للزوج و 500 دولار لكل طفل ) من أجل إعادة الاستهلاك و عبره آلية الانتاج. كما خصص هذا البرنامج 700 مليار دولار لمد المساعدة للمقاولات الموجودة في وضعية حرجة و 100 مليار دولار للمستشفيات. يقدم الرئيس ترامب اللبرالي من أجل تمويل هذا البرنامج على خلق العملة، أو ما كان يسميه منتقدا الاقتصادي ميلتون فريدمن « عملة الطائرة المروحية » . في اجتماعات مجموعة السبع و بعدها مجموعة العشرين، اتفقت الدول الأعضاء على ضخ 7000 مليار دولار للحدّ من مخلفات الجائحة صحيا ودعم الاقتصاديات بالعالم. كما أوصت بتعليق خدمات الدين خلال سنة لصالح 76 قطر الأكثر هشاشة. من الواضح أن هذه الأزمة لها أولاً و قبل كل شيء بُعد انساني بالنظر لمصدرها الصحي. لذا كان من نتائجها إقفال الحدود الوطنية حتى داخل المجموعات الإقليمية (الاتحاد الأوروبي) و توقيف الأنشطة السياحية و معها النقل الجوي و كل الخدمات المرتبطة به. كما تقرر إلغاء أو تأخير كل التظاهرات الرياضية و الثقافية و الفنية ( الألعاب الاولمبية بطوكيو، مهرجان كان للسينما ). ضمن هذه الأجواء المشحونة برزت نقطة تفاؤل مضيئة، حيث أفرزت أزمة كورونا بعداً معولماً على مستوى البحث العلمي و الطبي من خلال العمل الدؤوب الذي يستهدف إختراع الأدوية واللقاحات المضادة للوباء، والترابط الإيجابي الذي بعثه هذا العمل بين مختلف مراكز البحث والمختبرات. هكذا تعبأ البحث العلمي عالميا عبر تبادل المعلومات لإيجاد الأجوبة الضرورية لمواجهة هذا المرض. دروس يجب استخلاصها بينت جائحة الفيروس التاجي مدى هشاشة المجتمع المعولم كما فرضت على الجميع إجبارية العمل الجماعي من أجل التغلب على الإكراهات و العواقب التي أفرزتها. لقد أدى تفشي هذا الوباء إلى بروز حاجة الإنسانية إلى مزيد من التضامن و توحيد الصفوف : تضامن بين الدول والأمم، و تضامن داخل هذه الأخيرة بين الطبقات و الأجيال. كما اتضح بجلاء مدى محدودية المغالاة في التوجهات و المقاربات اللبرالية الفردانية. و تأكد كذلك أن ضوابط السوق لا يمكن أن تدبر العالم وحدها وأن الدولة الحامية لها دور استراتيجي للحد من الانحرافات والانزلاقات التي تعددت في مجال تدهور الطبيعة ( البعد البيئي) و تفاقم اللاتكافؤ (البعدالاجتماعي) والان في مواجهة الأوبئة و الجائحات (البعد الصحي). ذلك أن هذه الأبعاد الثلاثة ترتبط بشكل مباشر بمستقبل الانسانية في المعمور. فكما قال الاقتصادي الفرنسي كسافييه راكوُ « إن كُنْه الدولة هو حماية حياة الأفراد » كما هو في الحرب. لا شك أن الاعتراف بالهشاشة المشتركة سيدعونا الى مراجعة منظورنا حول منظومات التدبير القائمة حاليا. و في ذلك كثير من الأمل مستقبلا، مما يتجلى في النقاشات الراهنة حول وباء الفيروس التاجي. من المفيد تجويد توظيف الكوارث كما وصل لذلك المفكر الفرنسي رجيس دوبري في كتابه « حول الاستعمال الجيد للكوارث » التي يمكن أن تكون مفيدة لأنها حسب هذا المفكر المتميز « تنبهنا و تعلمنا ». سيكون علينا كذلك نحن الاقتصاديين أن نستوعب محدودية الأنماط التنموية السائدة، مما يفرض ابتكار مفاهيم جديدة ترنو دائما للتقدم لكن على أساس ان يستند على مزيد من التضامن. إن هشاشة العولمة و تعقيداتها و توالي انحرافاتها تقضي بإغناء المفاهيم التي يستند عليها علم الإقتصاد ليصبح فعلا سياسيا و يتخلى عن عجرفته و يجعل الإنسان و المدى البعيد محوره و مركزيته. إن الوعي بهشاشة الانسان يدفع بأن نقبل بمزايا التقاسم في العلاقات بين الامم. و التقاسم يعني حماية الضعفاء خاصة في القارة الافريقية. إن إبراز الترابط ( او التبعية المتبادلة) بين البلدان يفرض التخلي عن منطق الانانية (أمريكا أولاً) والشعبوية و القومية المتطرفة، كما يقضي بالعمل من أجل الوصول الى مزيد من التنسيق الإقليمي و الدولي على مختلف المستويات : مجموعة الاثنين التي تضم الولايات المتحدة و الصين القوتان الاقتصاديتان الأولتان، ثم مجموعة السبع التي تجمع البلدان الأكثر تطورا و ضمنها الدول الأوروبية الأساسية، و هناك كذلك مجموعة الخمس ، العضوة الدائمة في مجلس الأمن و التي لم يسبق لها أن إلتأمت منذ تأسيس الاممالمتحدة، و أخيرا مجموعة العشرين التي توجد ضمنها الأقطار الصاعدة الكبرى. من المهم في إطار العولمة المتقدمة أن تأخد كل هذه المكونات بعين الاعتبار مخلفات هذه الأزمة الاقتصادية الجديدة على البلدان النامية و الفقيرة. ذلك أن انهيار النشاط الاقتصادي عالميا يمثل خطرا كبيرا على الساكنة الأكثر فقرا و المقدرة ب 500 مليون نسمة. وهذا ما جعل العديد من الأصوات ترتفع لتطالب بإلغاء الديون التي تثقل كاهل الأقطار الافريقية. كثير من المؤشرات تدل على أن القارة الإفريقية لن تمس بوباء كفيد 19 على غرار القارات الاخرى، لكنها ستتحمل عواقب الأزمة الإقتصادية بسبب تهاوي الطلب العالمي على المحروقات و المواد الأولية و انهيار مداخيل تحويلات المهاجرين و السياحة. إن الأمل هو ان تؤدي كل هذه المشاورات الى تجديد التدبير العالمي سياسيا ( الاممالمتحدة) واقتصاديا (البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و منظمة التجارة الخارجية) و في استهداف تقوية التنسيق و مزيد من التقاسم لحماية الكيانات الضعيفة. لكن لا يمكن أن تغير كل هذه المؤسسات منطقها إلا إذا حدث تغيير فوقي للمنطق السائد في تدبير كبريات القوى الاقتصادية و الجيوسياسية والتي تؤثر بقوة في سير هذه المؤسسات. تلك هي الشروط التي ستسمح للأزمة أن تصل الى تحويل الحكامة العالمية التي يجب أن تدمج بجانب المجالات السياسية والاقتصادية والمالية هواجس جديدة تتصل بالبعد البيئي و قضية التكافؤ الاجتماعي و كذا الصحة التي فرضت نفسها اليوم كمكون للأمن الجماعي عالميا. إن اعتبار هذه المستلزمات الثلاثة ( الصحة، البيئة والتكافؤ) يقضي بإقرار مساعدة ضخمة على المستوى العالمي من أجل تحقيق انطلاقة نوعية جديدة للاقتصاد العالمي على غرار ما حدث عندما وُضع برنامج مارشال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و الذي ساعد على إعادة بناء البلدان الأوروبية. لا شك أن الكيانات الأكثر تماسكا و مناعة ستتمكن من تقوية إشعاعها بعد 2020، و سيكون ( البيك داطا) Big Data و الرقميات و الذكاء الاصطناعي مصدر قوة الأقطار التي ستتمكن من إنتاجها والتحكم فيها. هكذا ستسعى البلدان الأكثر فعالية في صناعة عالم الغد كما تمكنت القوى الكبرى بالامس من وضع بصماتها على مسار تاريخ العالم بعد 1945.هذه الأقطار هي التي ستشيد مجتمعات ما بعد الحجر الصحي من خلال الاستثمارات في التجهيزات الاساسية و في الإعلاميات عالية التدفق (haut débit) و في التكوين عن بعد. ضمن هذا الإطار يتنبأ الاقتصادي دانييل كوهن بانبثاق رأسمالية جديدة …رأسمالية الرقميات. إن أزمة 2008 كانت قد أنتجت عبر عواقبها الوخيمة مزيدا من الأنانية و الشعبوية و أفرزت « الترامبية » اسم الرئيس الامريكي الحالي ، وهي تدفع المتشائمين أن يقولوا بأن عالم ما بعد 2020 سيكون » أكثر إنغلاقا وفقرا وقبحا » و سيرسخ المد الشعبوي و الممارسات الديكتاتورية. هناك احتمال بالفعل بأن تتغير كثير من الأشياء بعد 2020 دون أن يتغير أي شيء في العمق. لكن إذا أخدنا بعين الاعتبار « تعقيدات » الأحوال السائدة التي أصبحت مصدر « اللا يقين الراديكالي » (تيري دومونتريال) سيكون على العالم أن يقبل بالعيش أكثر من الماضي مع « الغير منتظر » (إدكار موران). و يعتقد المتفائلون أن الحلول ستأتي من الأقطار التي يعترف لها اليوم بفعاليتها التدبيرية للازمة الصحية مثل الصين و كوريا الجنوبية و الفييتنام في آسيا، و ألمانيا و كذا أقطار أوروبا الشمالية. وهي كلها بلدان أصبحت ذات مرجعية في تدبير هذه الأزمة الصحية الشيء الذي يجعلها مهيأة للتأثير في المسار العالمي نحو مزيد من التعددية القطبية . في آخر الأمر سيبقى التقدم مستقبلا نتاج مساكنة بين المثالية و الواقعية. و مهما كان الامر فإن العالم الذي سينبثق بعد زوال أزمة 2020 سيكون مختلفا و في ذات الوقت ستبقى عدة عناصر الاستمرار حاضرة . إن الهشاشة التي اتضحت بفعل كفيد 19 تسائلنا نحن المغاربة و المغاربيين و جنوب المتوسطيين والأفارقة. سنكون مطالبين بإعلاء وعينا بقيمة الجوار كخير مشترك مما يفرض فتح الحدود المنغلقة و خلق أسس المصالحة و التقارب من أجل تحسين موقعنا التفاوضي في تدبير عولمة ما بعد 2020 وأفكر هنا في المشروع المغاربي الغائب مند عقود و كيف يمكن أن ننتهز فرصة المنعرج الذي يعيشه العالم لندفع به اعتبارا لملحاحيته . ما بعد 2020 سيؤدي بالضرورة الى توازنات جديدة بين مختلف الأقطاب الإقتصادية. وهو ما بدأ يتجلى قبل ذلك بعد أزمة 2008 حيث تأكد صعود الاقتصاديات الأسيوية و على رأسها الصين على حساب أوروبا و الولايات المتحدة. هكذا سيترسخ مسار العالم نحو المزيد من القطبية المتعددة. إنها فرصة للمنطقة العربية لتخرج من المنغلق الذي توجد فيه. هل لنا أن نحلم ؟ إن انبثاق القطبية المتعددة قد يبعث فرصا جديدة للوصول الى حل عادل للقضية الفلسطينية. هل من حقنا أن نحلم بإمكانية البلدان العربية النفطية بأن تستفيد هذه المرة من الصدمة المضادة الجديدة لتغيير نمطها الريعي الذي كان له منذ أربعين سنة تأثيرات سلبية على مجتمعات المنطقة سياسيا و اقتصاديا و فكريا . إن الأقطار الذكية هي التي توظف الصعوبات لتخلق الفرص. هذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية (1945) عندما قررت البلدان الأوروبية المنهارة بفعل الحرب إغتنام التحديات لتوحد أطرافها انطلاقا من التقارب الحاصل بين ألمانيا و فرنسا. من الدروس التي يجب أن نستخرجها من هذه الأزمة ضرورة العمل من أجل تقليص التبعية إزاء الفضاءات البعيدة على مستوى شبكات القيم العالمية و مقابل ذلك خلق روابط قوية مع فضاء القرب. في هذا الإطار تدخل إعادة تموقع الأنشطة الاقتصادية ضمن بُعد إقليمي يهم الفضاء الإفريقي المتوسطي مما قد يسمح بإعادة الإعتبار لمركزية المتوسط بوصفه بحرا اوروبيا و افريقيا في ذات الوقت. لابد هنا من الإشارة لبعض المبادرات المفيدة على غرار ما أقدمت عليه الهند بتنظيم لقاء بين البلدان الجنوب آسيوية لوضع خطة إقليمية مشتركة لمواجهة الجائحة و كذا الفكرة المتميزة التي طرحها العاهل المغربي محمد السادس بتقاسم الإجراءات الجيدة بين البلدان الإفريقية فيما يخص تدبير الأزمة الصحية الحالية، وهي مبادارات من شأنها بعث التضامن و الترابط على المستوى الإقليمي و ترسيخ التعاون جنوب/ جنوب . فالعديد من المؤشرات تدل على أن بعد 2020 ستحل لحد كبير شبكات القيم الإقليمية مكان شبكات القيم العالمية. و بذلك سيتمكن القرب من الثأر على حساب البعد. ضمن هذه المقاربة سيكون علينا أن نسائل أوروبا الجارة التي أبانت مرة أخرى على ترددها في توحيد مكوناتها سياسيا و اقتصاديا و تكنولوجيا وعلميا. فلها اليوم أن تقوي اندماجها و أن تمدّ اليد إلى جوارها المتمثل في الفضاء الجنوبي المتوسطي و الإفريقي لتشيد معه قطبا جديدا له إشعاعه، وتساهم عبر ذلك في بعث أسس عولمة جديدة متكافئة و متقاسمة. سيكون على أوروبا أن تستخرج قبل غيرها في منطقتنا الأفرو-الأورو-المتوسطية الدروس من الأزمة الصحية و الإقتصادية من أجل تقليص التبعية إزاء شبكات القيم العالمية مع الفضاءات البعيدة وخلق ترابطات منيعة مع الفضاءات القريبة. هذا يتطلب إعادة تموقع بعض الأنشطة الصناعية من أجل إدماجها في الفضاء الأفرو متوسطي مما سيعيد للبحر الأبيض المتوسط مركزيته كما سبق ذكره. يجب كسب الحرب .. وما بعد الحرب عرف القرن العشرون حربين عالميتين في شكل مواجهة بين كبريات القوى كما فرض على البلدان الضعيفة المشاركة فيها الشيء الذي كان له تأثير على مستقبلها. هكذا تمكنت الدول الكبرى بعد 1945 من وضع أسس منظومة دولية سياسيا و إقتصاديا فيما انخرطت المستعمرات في نضالات تحررية أدت إلى إستقلالها. لم يعرف القرن الواحد و العشرين مواجهات حربية ذات بُعد عالمي، لكنه عرف خلال العشرين سنة الأولى أحداث ذات تأثير كبير على مسار العولمة جيوسياسيا واقتصاديا أولها حدث 11 شتنبر 2001 الذي اعتبر زلزال جيوسياسي أدخل العالم في مواجهات دينية و ممارسات إرهابية. ثانيهما الأزمة المالية ل2008 التي كانت لها عواقب اقتصادية واجتماعية هائلة و أدخلت تغييرات في توازن القوى الإقتصادية بالعالم، وثالثها سنة 2020 أزمة صحية أصبحت ذات طابع معولم خلال شهرين من الزمن. فانهارت كل المنظومات الإنتاجية في المعمور. لكن الاهتمام إنصب عالميا على محاربة الفيروس و إنقاذ الحياة . بعد تجاوز الأزمة الصحية ولو جزئيا، سيكون على العالم أن يتكلف بإنقاذ الإقتصاد العالمي. لكن النجاح في هذا الرهان و إدخال الحياة الإقتصادية ضمن مسار سليم يقضي باستخراج الدروس من كل ما عرفه العالم من الأحداث و الاهتزازات التي عرفها خلال العشرين سنة الأخيرة و استيعاب أسبابها العميقة. كما يجب في ذات الوقت إيجاد الأجوبة للالتزامات التي اتخذتها الدول لمحاربة الانحصار الحراري بباريس في دجنبر 2015. إذن بعد نهاية الحرب يجب كسب رهان ما بعد الحرب و الحد اولا و قبل كل شيء من مخلفات الإنكماش المنتظر ( يتوقع صندوق النقد الدولي إنهيار النشاط الإقتصادي سنة 2020 بسبب الحجر الصحي في حدود -3% عالميا حيث سينقص ب -7,5% بمنطقة الأورو، و -6,5% بانجلترا ، و -5,9% بالولايات المتحدة ، -0,6%. بامريكا اللاتينية و -1,6% بافريقيا جنوب الصحراء، بينما سيزيد ب 1% بالبلدان الصاعدة الآسيوية و من بينها الصين 1,2%) لكن لن يكون الامر هينا فعندما ستصل الأزمة الاقتصادية الى ذروتها سيصل معدل المديونية بالنسبة للإنتاج الداخلي الاجمالي الى 181% بإيطاليا و 141% بفرنسا و 133% باسبانيا حسب البنك السويسري UBS، وهي مستويات تتجاوز بكثير معيار 60% التقليدي المحدد من طرف عهد التثبيت الأوروبي. كما يؤكد نفس المصدر أن برامج الانطلاقة التي أقرتها الحكومات ستتجاوز 2,6% بالنسبة للإنتاج الداخلي الإجمالي ( وقد تصل إلى 10% بالولايات المتحدة ) مقابل 1,7% غداة أزمة 2008. كما لن تتمكن الصين من التدخل بقوة كما فعلت سنة 2009 لمساعدة العالم على القيام من كبوته آنذاك لأن معدل مديونيتها سيصل الى 300%. هكذا ستطرح إشكالية رد كل هذه الديون مما يفرض تنظيم مشاورات على المستوى الدولي. كما أن ملف تدبير المديونية المرتفعة بأوروبا و تحضير إنطلاقة جديدة لإقتصادياتها يتطلبان مزيدا من التضامن بين الدول الأوروبية و تدخلا عنيفا من طرف البنك المركزي الأوروبي من أجل » تنقيد » الديون العمومية لمختلف الدول في إطار التعاضد بينها. إن مواجهة تحديات ما بعد كفيد 19 يقضي بإنخراط كل القوى الكبرى ضمن منطق القطبية المتعددة استنادا على توافق بين الولايات المتحدة و الصين و أوروبا من أجل إحداث أسس حكامة جديدة للعالم و التي يجب أن تأخد بعين الإعتبار مستلزمات نمو بلدان الجنوب وأساساً إفريقيا في كليتها. و إذا لم يحدث ذلك سنرجع الى مقولة تيري دومونتبريال مؤسس المعهد الفرنسي للابحاث الدولية حيث كتب سنة 2008 « بدون مراجعة عملية و سريعة للحكامة عالميا سيواجه المعمور بشكل ممكن بل مؤكد مآسي عظمى » . إن اعتبار الهشاشة و « غيرالمنتظر » يفرض على السياسات الإقتصادية وهي تتفاوض مع العولمة المتقدمة أن تأخد بعين الإعتبار مزيدا من التواضع و اعتبار الإنسية و الهوية الوطنية و الثقافة و كذلك نوع من الروحانية التي تخترق مجتمعات المسلمين في شهر رمضان وهو يصاحب هذه السنة ظاهرة الحجر الصحي. هكذا فإن كسب الحرب و ما بعد الحرب يفرض الانتصار لمنطق الترابط و التقاسم. فالعالم يحتاج اليوم الى برنامج تحول كبير وإعادة بناء وابتكار جديد و ليس فقط لبرامج انطلاقة. والعالم يحتاج الى برامج تدمج الكيف والكم من أجل تطويع هشاشة الجميع و تأطير » التشظي المنتظر ». من الجهاد… إلى الجهاد الأكبر كل المتتبعين اعتبروا أن المغرب نجح في تدبير الأزمة الصحية بالرغم من أن لا أحد يمكن أن يؤكد الآن متى و كيف سيخرج العالم من هذا المنغلق الصحي. لقد اتخدت السلطات العمومية المغربية قرارات استباقية صائبة من بينها إقفال الحدود مبكرا ووضع خطة متكاملة لمواجهة الوباء متلائمة مع مستوى تقدم البلاد. كما أن تأسيس صندوق متخصص و تقعيده على أساس قيم التضامن و تدبيره من طرف لجنة اليقظة و توظيف الإمدادات الخارجية ( تسهيلات صندوق النقد الدولي و الاتحاد الاوروبي لدعم ميزان الآداءات ) كانت كلها أدوات ساعدت البلاد على مواجهة تفشي الوباء. لكن من المؤكد أن روح الإنضباط و المواطنة التي أبان عنها المغاربة خلال مرحلة الحجر الصحي كانت وراء نجاح تدبير الأزمة. في الواقع لقد شعر المغاربة بثقة أن الدولة عازمة على القيام بدورها لحماية الذات و أن وراء ذلك ريادة ملكية مؤكدة حيث سمحت بتعبئة العمل على مختلف الجبهات. هكذا عاش المغرب مرحلة « جهاد » تذكرنا بنضاله من أجل الإستقلال قبل 1956 وعند استرجاع الصحراء سنة 1975 . إذا كان الأوروبيون كما سبق ذكره قد استعملوا مفهوم الحرب في مواجهة الجائحة فمن حق المغاربة استعمال مفهوم الجهاد بالمعنى الإيجابي بالنسبة لمرحلة حماية الذات صحيا. و سيكون عليهم الآن كسب ما بعد كفيد 19 أي تحقيق إنطلاقة للاقتصاد الوطني وهو موضوع الجهاد الأكبر. كما سبق القول قد تخلق الصعوبات فرصا للوصول الى الحلول المفيدة. سيكون الآن على الدولة أن توظف دورها الإستراتيجي لمواجهة مخلفات الانكماش المنتظر خاصة أنه يصاحب هذه السنة موسم جفاف طبيعي قلص من الانتاج الفلاحي. فبلادنا مطالبة بمواجهة الإكراهات الناتجة عن توقف نشاط المقاولات و التأثير السلبي للازمة عالميا على النشاط السياحي و الصادرات سواء منها المهن العالمية (السيارات، الطيران) أو النسيج فضلا عن تجميد حركيّة الانتاج و الخدمات داخليا. في هذا الإطار سيكون على الدولة وضع برنامج لاعادة الحياة للاقتصاد على المدى القصير والمتوسط و البعيد يأخذ بعين الاعتبار كذلك ما ستصل اليه أعمال اللجنة الوطنية المكلفة بمراجعة النموذج التنموي و التي سيكون عليها بدورها إغناء أعمالها عن طريق استخلاص الدروس من الأزمة الحالية. فعلى المدى القصير سيكون الهدف هو تحقيق إعادة حياة جديدة للنشاط الاقتصادي مع إعطاء الاولوية للقطاعات المنكوبة (السياحة و النقل الجوي) و لوحدات الانتاج والخدمات الصغيرة و للاقتصاد الغير مهيكل و مصاحبة إعادة الحياة للمقاولات المتوسطة و الكبرى في قطاع النسيج و المهن العالمية اعتبارا بطبيعة الحال لتدرج خروج الاسواق العالمية من كبوتها. كما سيكون على الإدارة العمومية أن توجه استثماراتها و طلبياتها لإخراج المقاولات من المأزق الذي توجد فيه مع إعطاء العناية طبعا للفقراء و المعوزين. على المدى المتوسط والبعيد على بلادنا أن تستوعب التحولات المنتظرة و أن تسعى للاستفادة منها. فعالم ما بعد 2020 سيعرف بشكل تدريجي تحولات مؤكدة استمرارا للتحولات التي ظهرت ملامحها الاولى منذ 2010. فرغم أن عامل أللاّ يقين سيترسخ حضوره مستقبلا سيكون على بلادنا الأخذ بعين الاعتبار التوجهات التالية : -ستعرف وظائف الدولة اقتصاديا تغييرات تفرض عليها الاهتمام بقضايا حماية الذات و الصحة و قضايا البيئة (بالرغم من التهاوي الظرفي لأسعار النفط) و قضايا التوزيع و العدالة الاجتماعية و التكافؤ. ستعرف ثورة التكنولوجيا الجديدة مزيدا من التحولات تتمحور على مركزية البيك داطا (big Data) و الرقميات والذكاء الاصطناعي، وهي كلها آليات استعملت بكثافة مرحلة الحجر الصحي ( العمل عن بعد مثلا) مما يفرض التعجيل باصلاح المنظومة التعليمية و التكوينية و إعطاء الاعتبار للبحث العلمي و التطور التكنولوجي. -المتابعة عن قرب للتغييرات التي سيعرفها العالم في توازن القوى بين الأقطاب الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، أوروبا) ضمن حركيّة تتقاطع فيها المواجهات و المطاحنات من جهة مع إمكانيات التفاوض و التعاون بالنظر لارتباط مصالح كل الأطراف. كل ذلك سيؤدي إلى تأكيد مسار العولمة حول القطبية المتعددة مع صعود متنام للصين و للقارة الآسيوية. كما قد يؤدي الى ادخال تطورات جديدة في مجال الحكامة الدولية سياسيا و اقتصاديا. – الاستعداد من أجل توظيف إمكانية تراجع ديناميات شبكات القيم العالمية لصالح شبكات القيم الإقليمية (القرب على حساب البعد) مما يقضي بفتح نقاش مع القارة الأوروبية من أجل تطوير علاقة الشراكة معها لتستند على الإنتاج المشترك و ليس على مجرد تحرير المبادلات، و ترسيخ التعاون جنوب-جنوب مع القارة الإفريقية . الهدف هو دفع الأوروبيين ليعملوا على بعث قطب جديد إنطلاقا من قارتهم الى القارة الإفريقية يفرز انبثاق مركزية جديدة للبحر الأبيض المتوسط. هذا ما سيجعل مكونات منطقتنا تساهم في بناء العولمة الجديدة على أساس مزيد من الإقتسام و التكافؤ والتوازن. – ضمن كل ذلك سيكون على بلادنا تقعيد نموذجها التنموي على مزيد من التضامن و الفعالية. إن العمل من أجل مزاوجة التضامن و الفعالية ضمن إطار إقليمي أفرو-أورو-متوسطي ( مع التمني أن يكون يومها الفضاء المغاربي حاضرا) هو الذي سيمكن بلادنا من الانتقال من الجهاد لحماية الذات إلى الجهاد الأكبر جهاد ما بعد 2020.