نقاشاتٌ حول الحفاظ على "الغناء المغربي الأندلسي" استقبلها المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب بالرباط، التابع لأكاديمية المملكة المغربية، في اليوم الثاني من "الملتقى الدولي الأول للموسيقى المغربية الأندلسية"، الذي ينظّمه "كرسي الأندلس" و"المعهد الأكاديمي للفنون"، التابعان لأكاديمية المملكة، بشراكة مع سفارة إسبانيا بالمغرب، ومشاركة أكاديميين وعلماء موسيقى وموسيقيين من المغرب والمغارب وأوروبا والولايات المتحدةالأمريكية. وشهد اليوم الثاني من الملتقى استمرارا لورشات صناعة الآلات الموسيقية، والغناء، والإيقاع، وتقنيات العزف على الآلات، التي يستفيد منها عشرات الطلبة والموسيقيين والمهتمين، إضافة إلى ثاني الحفلات الموسيقية التي تزاوج بين أداءات ضفتي المتوسط، من المغرب وإسبانيا. الفنانة بيكونيا أولافيدي تحدثت في المائدة المستديرة الثانية للملتقى عن مسيرة بدأت بدراسة المزمار بإسبانيا، ثم محطة دراسية بهولندا، قبل أن تنجذب لمعرفة "الموسيقى الأندلسية"، فأرادت "معرفتها لا من أوروبا، بل المغرب"، لتعرض بعد ذلك على أسرتها العيش في طنجة، وكذلك كان. وذكرت المتدخلة اكتشافاتها الفنية بأن هذه موسيقى معقدة ومركبة، وهو ما تستمر في اكتشافه لأن "الموسيقى تُعاش ولا يكفي النظر إليها من الخارج". عالم الموسيقى عبد العزيز بنعبد الجليل ذكر، من جهته، أن "قوام الغناء اللغة"، وتتوزع الغناءَ "الكلمات واللحن والإيقاع"، مردفا أن "الأداء فاعل أساس لتحقيق جمالية التلقي، فيمكن أن تجدَّدَ صور التلقي كُلَّما تجددت طرق الأداء". بنعبد الجليل الذي قال: "لا مبرر للَّحن إذا لم يكن خدمةً للإنسان وتنمية للروح والوجدان"، سجل أنه "لا سبيل لتحقيق جمالية التلقي في غياب جمالية الأداء"، وتوقّف لدى موسيقى الآلة بوصفها "موسيقى الحجرة" أو "موسيقى الصالون"؛ فقد "نشأت نوبات الآلة بالأندلس، ولا تنفك الجمعيات الوفية الجادة عن تقليد الصالون، وقلّما تنقلها إلى الفضاءات العمومية والحانات وما في حكمها من أماكن مشبوهة". وأكّد بنعبد الجليل على شرط ثان لتحقيق "جمالية التلقي"، هو "حظٌّ من الثقافة العامة والمعرفة الموسيقية للمتلقي"، و"لا سبيل لتجاوز مستوى التفاعل الساذج إلا بسبر أغوار (هذا الفن)، وهو ما لن يتحقق دون الأساليب البيداغوجية لتعليمه، ووضع حد للتحفيظ القائم على شحن الذاكرة". وفي معرض حديثه، استحضر المتدخل تجربة مولاي أحمد الوكيلي، الذي "أتاح أشكالا جديدة للتعبير"، وتجاوز عيوب "الغناء الجماعي"، الذي يحول دون تنويع الأداء الصوتي وبروز الأصوات المميزة، ويكون وسيلة للتستر عن عيوب في الإنشاد عبر "تبني الأصوات النسوية، وتبني الغناء الفردي والجماعي، وتبني الحوار في إنشاد أبيات الصنعة الواحدة". المتدخل الأمريكي كارل دافيلا اهتم، من جهته، بتاريخ تقليد "النوبة" في المغرب، باحثا عن بدايته عبر المخطوطات والمرويات الشفهية والأبحاث، ليخلص إلى أن "هذا التقليد موثق بشكل أفضل في المغرب، مقارنة بشمال إفريقيا، لثلاثة قرون على الأقل"، لكن "قليل ما يمكن قوله عن ولادته وتطوره بالمغرب". محمد سيف الله، أستاذ جامعي تونسي، اهتمت مداخلته بتشابه واختلاف "مدارس الموسيقى العربية الأندلسية في المغرب العربي" أو "الموسيقى المغاربية الأندلسية"، عارضا مقارنات بين طرب الآلة والصنعة والمالُوفْ والغرناطي. ومن بين ما يجمع هذه التقاليد الموسيقية التي بدأت في الأندلس أنها "كلها معتمدة على النقل الشفهي رغم تبني الكتابة مؤخرا"، وكان هناك "دور للزوايا الدينية في حفظ هذا التراث"، وتحدث عن ثلاث نوبات لها نفس الترقيم في المغرب والجزائر وتونس. وفي الأغراض أيضا تحدث عن التشابه، فهناك الحب، والفراق، والألفة، والنوستالجيا، والاهتمام بالعين، والقلب، والروح، والبيئة، والخضرة، والسلام، والنبي وصفاته، والفردوس المفقود وزمن السيادة والحضارة. وفسر سيف الله هذه التشابهات بأن "بذور هذا الفن أندلسية، والمشتركات نابعة من أرضه الأم، بتعدد وغنى لأنه تراث لجأ بالمغارب، وانتعش وأثمر في عدد من المناطق المغاربية". الباحث عبد السلام الخلوفي تطرق، من جهته، إلى "ما وصلنا من الموسيقى الأندلسية المغربية قبلَ التوثيق السمعي عبر التواتر الشفهي للتلقي المباشر لحنا وبنية نغمية وإيقاعات"، وذكر أن هناك "عوامل كثيرة أثّرت فيه نقصانا وإضافة وتحويرا يبتعد به عن البنية الأصلية"، بل بالعودة إلى التسجيل الأول للطرب المغربي الأندلسي في الربع الأول من القرن العشرين، نجد "تغيرات في العزف" مقارنة باليوم. واهتمت مداخلة الخلوفي بوسائل نقل هذا الطرب عبر التاريخ، معددا مصادر حاولت توثيق الأشعار وبنيات الألحان، ووثقت صنعات، وطبوعا وطبائع، فضلا عن الشفاهة. وقال إنه في القرن العشرين "ظلت شعلة الموسيقى الأندلسية مستمرة رغم الاستعمار، عبر عناية القصر، ومستعملات الزوايا، وبيوت مولوعة"، ثم "دور جمعيات ناشئة في حفظ الطرب بوجدة وفاس وطنجة على سبيل المثال". ويرى الباحث أنه "لا دور يذكر لأسطوانات الفونوغراف في توثيق الطرب المغربي الأندلسي إلا قليلا، نظرا لاهتمام أصحابها بالفنون الشعبية ذات الإقبال التجاري". وتحدث بعد ذلك عن "إنشاء أول مركز استقبال إذاعي بالرباط في 1928′′، وزيادة قوى البث مع مرور السنوات إلى حين حضور "الأندلسي بالبث المباشر في هذه الإذاعات، فلا مجال كان للتسجيل" عبر جوق أحمد الوكيلي. أما في الخمسينيات فقد بدأت هناك "مزاوجةٌ بين المباشر والتسجيل على أسطوانات حجرية، لكن تسجيلات أشرطة ممغنطة أعيد استعمالها للتسجيل فمحى اللاحق السابق" إلى حين الاستقلال والانخراط في الاتحاد الأوروبي للإذاعة، حيث سجّلت أجواق مولاي أحمد الوكيلي، والبريهي، ومحمد العربي التمسماني"، وهو ما شكّل "ثروة ومدرسة للشّغوفين بالصّنعات والميازين والنوبات". وفي مرحلة التلفزيون بالمغرب الذي كان أول بث له سنة 1954، وكانت بدايته الحقيقية سنة 1962، فإن "طرب الآلة كانت له حصص قارة خاصة في شهر رمضان، والمناسبات الدينية والوطنية، وتخلت عنه في وقت قريب التلفزة بعدما صارت تبرمج بمنطق اقتصاد السوق". أما عهد "وسائط التواصل الحديثة"، فهي "على علاتها"، وفق الخلوفي، "ساهمت بقوة في التوثيق والنشر على أوسع نطاق، وأتاحت ما لم يكن متاحا للعامة من المعلومات والنصوص والتسجيلات، وسهلت تواصل الفنون الأصيلة مع جمهورها"، لكن هذا يبرز "حاجةً لتصورات واستراتيجيات مدروسة للثورة الرقمية حتى لا يُقضى على روحها وجوهرها وأصالتها".