لعله من اللافت من الوجهة الموسيقية الصرفة، حصر مختلف الفنون المغربية الأصيلة، سواء العالمة منها أو الشعبية، لاعتبارات متعددة مرتبطة أساسا بالغنى الحضاري والإثني والعرقي للمغرب، فعلى مدى قرون تعاقبت على هذا البلد، حضارات وأجناس وإثنيات، شكلت بشكل تراكمي، مجموعة من الألوان الفنية، والتعابير الموسيقية، الحبلى بالعديد من التفاصيل، والتي غالبا ما لا نلتفت إليها، عن قصد أو غيره، مكتفين بظاهر الأمر عوض البحث عن بواطنه. ولعله من نافلة القول إن تراثنا، بمختلف مكوناته، يعاني من إجحاف ما بعده إجحاف، فكثيرا ما يختزل في جوانبه الفلكلورية، وغالبا ما يبخس حقه في التبريز والإظهار، فلا يمرر في وسائل الإعلام إلا على مضض، وبأشكال تسيء إليه أكثر مما تفيده. هذه الحلقات ستحاول أن تسلط الضوء على مجموعة من فنوننا التراثية، بغية إظهار جوانبها المشرقة، عن طريق مقاربتها من وجهة أكاديمية صرفة، علها تساعد في إعادة النظر في هذه الثروة الفنية التي يحق للمغرب الافتخار بها. من الأنماط الموسيقية المغربية، التي استحقت بجدارة وصف «العالمة» طرب الآلة، ولعل أول الأمور التي تستوجب التوضيح، وترتبط بهذا الفن مسألة المصطلح، فغالبا ما يسمى بالموسيقى الأندلسية، ومعلوم أن دارسي هذا الفن والملمين بتفاصيله، يرفضون هذه التسمية جملة وتفصيلا، مفضلين عليها مصطلح الآلة، كما هو الشأن بالعلامة محمد الفاسي الذي اختار هذه التسمية، تمييزا لهذا الفن عن السماع، باعتبار أدائه بالآلات الموسيقية المعروفة، بخلاف المديح المعتمد أساسا على أصوات المنشدين. أما الحاج إدريس بن جلون التويمي، في كتابه «التراث العربي المغربي في الموسيقى» وهو عبارة عن دراسة لكناش الحايك وتنسيقه وتصحيحه، في شأن تسمية الموسيقى الأندلسية: «أما تسميتها ب»الموسيقى الأندلسية» فلم نعرفها إلا في عهد الاستعمار، الذي أطلق عليها هذا الاسم، تشويها لعروبتها وتنقيصا من مقدرتنا العلمية والفنية. والواقع أنها كانت تسمى عندنا ب»الطرب» أو ب»الآلة» تمييزا لها عن موسيقى السماع المستعملة بالأصوات دون الآلات، والتي ما تزال معروفة بهذا الاسم إلى الآن». وفي كناش محمد بن الحسين الحائك التطواني، وردت هذه العبارة في مقدمته: «هذا تقييد ما وقع عليه اختيار من انتهت إليه صناعة الطرب، مما يستعمل في ترتيب نوبات الآلات». والواقع أن تسمية هذا الفن بالموسيقى الأندلسية، لم تتم إلا في عشرينيات القرن الماضي، روج لها بعض الباحثين من الأجانب، بهدف الانتقاص من دور المغاربة، في إرساء قواعد هذا الفن، ومعلوم أن التواصل كان مستمرا ودائما بين عدوتي المغرب والأندلس، مما ينفي هذا الادعاء، ويؤكد أن الموسيقى هي خير معبر عن التلاقح الثقافي، والتمازج الحضاري، في أبهى صوره وأوضح تجلياته، مما يجعل التسمية الأقرب للمنطق وللتاريخ والجغرافيا: طرب الآلة أو الموسيقى الأندلسية المغربية. يمكن إجمال الروافد الفنية، المساهمة في خلق هذا التراث، في العناصر التالية: العنصر الأمازيغي: ويمكن أن نضيف إليه العنصر الإفريقي كذلك، إذ يذكر الدكتور حسين مؤنس في مجلة الجمعية التاريخية المصرية، أن جيش طارق بن زياد في فتح الأندلس، والبالغ تعداده اثني عشر ألف جندي، كان يضم عشرة آلاف من الأمازيغ وسبعمائة جندي من السودان، كما أن عبد الرحمان الداخل، كان قد عزز جيشه بأمازيغ المغرب، كما كان لهم حضور قوي أيام حكم المنصور بن أبي عامر، دون أن ننسى إسهامهم الكبير إبان حروب الاسترداد، خاصة معركة الزلاقة على عهد المرابطين والأرك على عهد الموحدين. ويشير الدكتور عبد العزيز بن عبد الجليل، في كتابه «الموسيقى الأندلسية المغربية: فنون الأداء»، إلى بعض ملامح الموسيقى الأمازيغة والإفريقية، في موسيقى الآلة، مجملا إياها في الآتي: قيام بعض ألحان طرب الآلة على السلم الخماسي (نوبة الرصد)، مما يذكر ببعض الأغاني الأمازيغية بجنوب المغرب، كما يذكر بموسيقى دول إفريقيا الغربية (الموسيقى النوبية بالسودان وجنوب مصر). تطعيم موسيقى الآلة بأصناف شتى من الإيقاعات. احتمال أن يكون لبعض النماذج الفنية الأمازيغية، أثر في تكوين قالب النوبة، مثل رقصات أحواش وأحيدوس وما يرافقهما من غناء وعزف. الموسيقى المحلية: سادت بالأندلس قبل الفتح الإسلامي، الأناشيد الغريغورية، التي أصبحت في عهد غريغوريوس الأول أو الأكبر (590/ 604 م) أساس الموسيقى الكنسية الكاثوليكية، ويلاحظ بن عبد الجليل، في مؤلفه السالف الذكر، أنه من وجوه التفاعل بين الموسيقى العربية والموسيقى القوطية بالأندلس، لجوء المنشدين (في الصنائع الموسعة خاصة) إلى إشباع حروف لا يتبعها حرف مد، أو تجزئة الكلمة الواحدة إلى مقاطعها، بحيث ترجع هذه المقاطع مستقلة ومنفصلة عن بعضها، ويمكن أن نلاحظ هذا بجلاء في تصدرة بسيط رمل الماية «صلوا يا عباد»، فإن كلمة «صلوا» وحدها تأتي حافلة بالشغل الذي يتخلل مقطعيها على نحو يبتعد بأدائها عن الأسلوب العربي، كما يمكن ملاحظة التأثير الكنسي في هذه الموسيقى، في العديد من صنائع هذا الطرب، ومن أمثلة ذلك صنعة: «أصبحنا في روض بهيج» من ميزان بسيط نوبة العشاق. أستاذ مادة التراث الموسيقي المغربي بالمركز التربوي الجهوي بالرباط