نظرا لأهمية القانون التنظيمي للمالية في تقنين العمليات الموازناتية والمالية وتأطير عمل المسؤولين عليها، فإنه يرقى إلى مستوى دستور مالي. وبغض النظر عن الجوانب السياسية التي تحكم روح هذا المشروع فان الجوانب التقنية لا تقل أهمية عنها اذ يتواجد أللآمرون بالصرف والمحاسبون أمام نص قانوني ذو طابع تقني يتوجب تطبيقه. قانون يجب إذن أن يكون في مستوى التطلعات حيث أن كل غموض أو نواقص تكتنفه قد ينعكس مباشرة على تصرفات الأفراد و المؤسسات مستقبلا. ومن طبيعة الحال هذا القانون لا يشكل الا أداة من اجل تدبير عقلاني وناجع لأموال الدولة و استشراف تحقيق أهداف النمو الاقتصادي وتلبية الحاجيات الاجتماعية للمواطنين و الشغل في اخر المطاف والا ما الجدوى منه. ويجب التأكيد على انه لا أحد يجادل في كون المشروع يتضمن اجراءات مهمة تشكل نقائصا لقانون 1998. اجراءات تهم الاقتراب من المقاربة المرتكزة على النتائج و البرمجة المتعددة السنوات و ادخال البعد الجهوي في النفقات و ادخال تقييد العمليات على اساس الاستحقاق و تدعيم التقييم و الشفافية...الخ. ورغم كل هذا يثير المشروع الجديد تساؤلات جوهرية والتي يجب ربما تداركها ابان تقديم التعديلات في البرلمان. أولا، إن عدم تعريف الميزانية و العجز و التوازن ألموازناتي و التوازن المالي الذي نص عليه الدستور الجديد للمملكة، لن يمكن من تقريب الرؤى و الحد من الخلافات التي تظهر بين الفينة و الأخرى بين الخزينة العامة للمملكة ومديرية الخزينة و المالية الخارجية ومديرية الميزانية من جهة، و ما بين ما بين وزارة الاقتصاد والمالية و المندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب من جهة ثانية، ذلك لأن كل طرف يتوفر على هامش الحرية في تصنيف مكونات المداخيل و النفقات و كذا عجز الميزانية. لهذه الأسباب يجب التنصيص في مشروع القانون التنظيمي للمالية الحالي على جرد شامل ودقيق لمكونات المداخيل والنفقات على أن تضاف بناءا عليه فقرة تعرف ب ‘'الميزانية'' لضمان الانسجام مع المادة 9 التي تشير إلى الرصيد ألموازناتي المتوقع بشكل مقتضب فضلا عن جرد عمليات التمويل و الخزينة التي تحدد بدورها التوازن المالي. كما يجب التفكير في ضم المادة 3 الى المادة 1 ما دامتا تعرفان القانون المالي. فعلى سبيل المثال فإن مديريات وزارة الاقتصاد و المالية اعتادت في السالف تسجيل الهبات و الوصايا الممنوحة من قبل المؤسسات و الدول الأجنبية في صنف التمويل وليس في صنف المداخيل. فليس منطقيا اذن ان تتغير المنهجية ويتم احتساب الهبات و الوصايا في فئة المداخيل عوض التمويل ابتداءا من سنة 2012 أو 2013. ففي فرنسا ولتقريب المنهجيات في تصنيف العمليات في اطار المحاسبة العمومية و المحاسبة الوطنية تم إلحاق أطر عالية من المعهد الوطني للإحصاء و الدراسات الإقتصادية الى مكتب يعنى بمعالجة المعطيات الموازناتية والمالية التابع للمديرية العامة للمحاسبة العمومية بوزارة المالية .واتباعا لنفس النهج يمكن لوزارة الاقتصاد والمالية المغربية ضم أطر من المندوبية السامية للتخطيط وخلق فضاء تبادل الخبرات. ثانيا، إن عدم احترام بعض المعايير الدولية المنصوص عليها في اطار المعيار الخاص لنشر المعطيات (NSDD) وعدم تحديد مخاطب وحيد يجعل المتدخلين في انتاج المعطيات الموازناتية و المالية و الاقتصادية أكثرعددا. فلهذا و الى حين معالجة اشكالية المخاطب الوحيد يمكن أن نعتبر أن المعطيات الخاصة بالمالية العمومية و العجز و المديونية من اختصاص وزارة الاقتصاد و المالية و كل ما يتعلق بالقطاع الحقيقي و نسب النمو و البطالة من اختصاص المندوبية السامية للتخطيط. ثالثا، رغم الصعوبات التي تشكلها جودة التوقعات الموازناتية، يجب الحرص على مستوى القانون التنظيمي أو مراسيمه التطبيقية على الإستعانة بأدوات التوقع التي ستواكب المقاربة المرتقبة في إعداد وتدبير الميزانية المرتكزة على النتائج. والجدير بالذكر أن مديرية الدراسات و التوقعات المالية بوزارة المالية كانت إلى وقت قريب تستعمل نموذج الاقتصاد القياسي يدعى نموذج "نور" و الذي صرفت عليه 2 مليار سنتيم .إلا أن هذا النموذج تم التخلي عنه. ففي اعتقادنا لا مفر من اللجوء إلى نماذج الإقتصاد القياسي و بلورة فرضيات معقولة و اعداد التوقعات المدرجة خصوصا في جدول العمليات المالية للدولة (TOFE)الذي يعتبر قلب المقاربة الجديدة المرتكزة على النتائج و الذي غيبه تماما مشروع القانون التنظيمي للمالية الجديد. فمن شان هذه الأداة أن تؤطر لتحكيم ما بين ما هو ممكن (الوسائل المالية( و ما هو مبتغى (انجاز المشاريع(. فالدول الغير غنية تحتاج لهذه الأدوات من اجل التحكم في تمويل مشاريعها ذات الأولويات في الميدان الاقتصادي و الاجتماعي و الإداري. رابعا، ارتباطا مع ضرورة تأطير وتقييد عمل الآمرين بالصرف، ندرج مثالين على الاقل غيبهما المشروع الجديد للقانون التنظيمي للمالية : يتعلق المثال الأول بأموال المساعدة(Fonds de concours) حيث أن المشروع الجديد احتفظ بنفس المادة المدرجة في قانون 1998 . وتجب الإشارة إلى أن ما يهم المؤسسات و الدول المانحة للدعم الموازناتي للمغرب كيف وأين تصرف أموالها ؟ فعدم دقة المادة القانونية المتعلقة بأموال المساعدة تجعل هذه الأموال تضخ في الميزانية العامة لتمويل العجز دون ان تترك آثارا من أجل تتبع أداء القطاعات التي منحت من أجلها كالتجهيزات الأساسية و الصحة و التعليم و القطاع المالي و الحكامة،...إلخ. كما أن عدم دقة هذه المادة يجعل التقييم المباشر الذي تقوم به المؤسسات الدولية المانحة لاستعمالات أموالها معقدا. فوزارة الصحة أو التعليم مثلا لا تتوصل بهذه الأموال مباشرة لأنها تمر عبر الميزانية العامة تحت مسؤولية وزارة الاقتصاد و المالية. وما دامت وزارة الصحة أو وزارة التعليم تتوصل فقط بميزانياتها العادية المدرجة في القانون المالي فانها تعتبر نفسها غير مسئولة عن تقييم النتائج المنتظرة من هذه الأموال. في حين أن وزارة الإقتصاد و المالية ''أم الوزارات'' تعتبر عكس ذلك أن الأموال الممنوحة من طرف المؤسسات و الدول الأجنبية تترجم بالرفع من الميزانيات السنوية لوزارة الصحة التعليم. وأما وزارة تحديث القطاعات العامة فهي تعتبر أنها غير معنية ببرنامج ''حكامة'' و الذي تموله أيضا الدول المانحة. وبالتالي فالمشهد العام أمام هذه الجاذبات يوحي بتواجد إدارات مستقلة داخل الإدارات تعكس تصرفات الافراد و ليس المؤسسات. أما المثال الثاني و يتعلق بالحسابات الخصوصية والتي قام مشروع القانون التنظيمي المعروض للمناقشة و المصادقة على تقليصها من ستة أصناف إلى أربعة بإدماج الحسابات المرصودة لأمور خصوصية (CAS) مع حسابات النفقات من المخصصات (CDD) وتجميع حسابات القروض (Prêts)والتسبيقات (Avances) في فئة الحسابات النقدية. ويشكل هذا الإجراء تغييرا شكليا لن يحل معضلة كثرة الحسابات و تحويل الأموال من حساب إلى آخر بدون قيود، مما يجعل أبواب اختلاس الأموال العمومية مفتوحا على مصراعيه. لهذا نقترح تأطير هذه التحويلات من حساب إلى آخر على أن لا يتجاوز 3% أو 4% من حجم الاعتماد الاصلي كما هو معمول به في فرنسا. خامسا وأخيرا، يتحدث المشروع الجديد عن مفهوم "حسن الاداء" عوض مفهوم "النجاعة" مما يفرغ نسبيا هذا المشروع من الأهداف النبيلة التي يرمي اليها وهي الدفع بمسؤولي البرامج لتحقيق مزيد من النتائج والتي يتم تقييمها بمؤشرات "تقييم الاداء" . ففي الدول الاسترالية و الأمريكية و كذا الاوروبية خاصة فرنسا تترجم النجاعة كمفهوم شامل عمليا في خلق مديرية مستقلة لقيادة الإصلاح الموازناتي وتكوين عدد كبير من المكونين على المستوى المركزي و الجهوي و المحلي و تطوير أنظمة معلوماتية مواكبة للاصلاح و إعادة النظر في هيكلة الميزانيات القطاعية حيث يتم تقديمها في شكل برامج ذات وزن متساو و تقليص عدد المديريات من اجل ملائمتها مع البرامج المحددة سلفا كما هو الحال في فرنسا حيث تم حذف 50 مديرية من اصل 200 سنة 2009 و تقييم النجاعة عن طريق المجلس الأعلى للحسابات و لجن وزارية مستقلة . كما تعني النجاعة أيضا اعادة النظر في الانضمة الاساسية لمستخدمي الوظيفة العمومية حيث لجأت فرنسا الى اعادة تصنيف هذه الانضمة وضمها في 9 مهن محددة كالادارة والمالية والبحث والتعليم و الامن...باستثناء القضاة و العسكريون. أما في المغرب فاننا نتوفر على أكثر من 100 اطار أساسي. هذا ببساطة هو الإصلاح الحقيقي و الذي يتطلب انخراط الجميع و التحلي من اجل إنجاحه بروح وطنية عالية. ولا ريب أن هناك أيضا اكراهات لا يجب اغفالها. فإذا كانت وزارة الاقتصاد و المالية و المندوبية السامية للتخطيط مؤهلتين على عدة مستويات من اجل مواكبة الإصلاح نظرا لاحتكاك أطرهما المنتظم مع المؤسسات الوطنية و الدولية واكتسابهم لخبرة عالية فالأمر يعدو صعب التحقيق على المدى المتوسط لما يتعلق الأمر بترجمة هذا الإصلاح على مستوى باقي الوزارات. لهذا يبقى السؤال هل مشروع القانون التنظيمي للمالية الجديد مشروعا موجها للنجاعة كما هو الحال في جل الدول الفرنكوفونية أم مشروعا يعدل القانون التنظيمي للمالية لسنة 1998 فقط و كفى الله المومنين شر القتال. *أستاذ بجامعة محمد الخامس السويسي وخبير دولي في الاقتصاد والمالية