منذ ثمانينيات القرن الماضي، تزايد الاهتمام بالتدبير العمومي في جل البلدان، والذي صاحبه من تغييرات ذات طابع إداري وموازناتي ومحاسباتي. إذ إنه لا يمكن تصور أي إصلاح فعلي دون المرور عبر إصلاح موازناتي. هذا، وبعد أن انطلق الإصلاح في أستراليا، إبان ثمانينيات القرن الماضي، انتقل التدبير المرتكز حول النتائج، أو ما يسمى أيضا بالتدبير الموجه، نحو نجاعة الأداء تدريجيا ليصل إلى أمريكا خلال عقد التسعينيات، وإلى أوروبا نهاية القرن العشرين، ثم إلى القارة الإفريقية حاليا. وكان من أهداف هذه المقاربة الجديدة التأسيس لتدبير عمومي هدفه الشفافية والمسؤولية وتقديم الحساب، وقوامه التخطيط الاستراتيجي وقياس آثار السياسات العمومية على المرتفق. إلا أن فلسفة هذا الإصلاح ما كان لها أن تكون إلا في تناغم تام مع ميزانية الدولة. وهو ما حذا بالقائمين على الشأن العمومي إلى التفكير في إصلاح موازناتي كمدخل لإصلاح الإدارة. جدير بالذكر أن النظام الموازناتي التقليدي، الذي كان يرتكز على المدخلات، "أي ما يتم صرفه من اعتمادات"، والأنشطة، "أي ما يتم إنجازه"، والمخرجات، "أي ما يتم إنتاجه"، أبان عن محدوديته لأنه لم يرق إلى مستوى طموحات الملزم الذي أصبح يصر اليوم على معرفة أين وكيف تصرف أموال الضرائب التي يؤديها. وأمام هذا الوضع قامت الحكومات في مختلف البلدان بتوسيع نظرتها التقليدية لممارسات التدبير العمومي، على غرار القطاع الخاص، باعتماد تدبير مرتكز حول النتائج ونجاعة الأداء. هكذا، تم استبدال منطق الوسائل بمنطق النتائج، وما صاحبه في العمق من انتقال من مقاربة قانونية وتقنية لاشتغال الإدارة نحو مقاربة مرتكزة على ثقافة تدبيرية في خدمة المواطنين. وقد تمثلت نقطة الانطلاق في المغرب في تكريس التدبير الموازناتي المرتكز حول النتائج من خلال سن القانون التنظيمي للمالية المتعلق بقوانين المالية، وهو ما سيفضي إلى تغيير كبير على مستوى الفعل العمومي. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن التدبير المرتكز حول النتائج يتطلب إصلاحا شاملا للمصالح الإدارية لملاءمتها مع حجم البرامج، وتكوين موسع للمسؤولين والموظفين بغض النظر عن مستوياتهم، ونظام معلوماتي متطور، فضلا عن إعادة تبويب الميزانية وهيكلتها حول البرامج كإطار لتجسيد منهجية نجاعة الاداء، بالإضافة إلى إصلاح الأنظمة الأساسية للوظيفة العمومية.. الخ. بالإضافة الى ذلك، هناك أدوات أخرى ضرورية تتعلق بالموازنة العمومية، التي تشكل أسسا لتدبير موازناتي مبني على النتائج كجدول العمليات المالية للدولة، وإطار النفقات على المدى المتوسط، ومسك محاسبة مبنية على الاستحقاق. هذه الأسس لا محيد عنها من أجل إرساء تدبير عمومي صائب للميزانية في المغرب موجه نحو النتائج. ذلك أنه يعتبر من الضروري استشراف ما سيقع على مدى يتجاوز السنة من أجل رؤية واضحة عن المداخيل والتمويلات المتاحة وتقييم الآثار الموازناتية متعددة السنوات الناجمة عن القرارات التي تقرر. فميزانية البرامج تسمح، خصوصا، بالإجابة عن هذه التحديات طالما أنها تمكن من تجميع الأنشطة التي تصبو إلى تحقيق غاية موحدة ذات أهداف محددة بواسطة موارد مهمة، وتشكل تمثيلا مندمجا وموجها لاعتمادات الميزانية. ومن جهة أخرى، إذا كانت للنفقة العمومية في الدول المتقدمة ذات الاقتصاديات المهيكلةٌ آثار مرئية، فإنها لا تعدو أن تكون كذلك في الدول السائرة في طريق النمو، بما فيها المغرب، حيث لا تحقق النفقة العمومية ما ينتظر منها من آثار. لهذا السبب، يتوجب ربط ميزانيات البرامج بنموذج تنموي على المستويين الوطني والجهوي. وفي هذا الصدد، وبالاستناد إلى خلاصات التقرير الأخير للبنك الدولي المعنون ب"تغير الثروة لدى الأمم 2018" يتبين أن الناتج الداخلي الخام الفردي بالمغرب سجل ارتفاعا مهما ناهز 45 بالمائة في الفترة ما بين 2005 و2014. ويرجع هذا النمو إلى ما راكمه بلدنا من رأسمال منتج (العقار والبنيات التحتية..) و ما يتوفر عليه من رأسمال طبيعي (الغابات والموارد المنجمية على سبيل المثال). لكن يبقى الرأسمال البشري الحلقة الاضعف، حيث لم تتجاوز مساهمته في الثروة الكلية حدود 41 بالمائة سنة 2014، فيما وصلت 59 بالمائة في مصر و65 بالمائة في لبنان. حري بالذكر أن هذه الدراسة تطرقت إلى تطور الثروة في 141 بلدا بين سنتي 1995 و2014، باعتبار الرأسمال الطبيعي (الغابات والموارد المنجمية)، والرأسمال البشري (دخول الفرد خلال مدة حياته) وكذا الرأسمال المنتج (العقار والبنيات التحتية إلخ)، بالإضافة الى الأصولات الخارجية الصافية. في هذا الاطار، يتضح أنه من الضروري أن تترجم ميزانيات البرامج والميزانيات العملية للبرامج أسس نموذج اقتصادي بالمغرب، خصوصا على المستوى الجهوي، كما دعا إليه جلالة الملك خلال افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان سنة 2017. أما في فرنسا، النموذج الذي تستلهم منه جميع الدول الفرانكفونية إصلاحاتها، فقد انتهت حاليا من وضع جيل جديد للإصلاح الموازناتي الذي بدأته سنة 2006، بعد المصادقة على بنود القانون التنظيمي لسنة 2001. هذا الإصلاح الأول من نوعه ينبني على إعداد ميزانيات البرامج، وبلورة أهداف خصوصية وتحديد مؤشرات نتائج حوالي 150 مديرية (50 مديرية من 200 أصل مديرية تم إلغاؤها او إدماجها) في سنة 2009 في إطار المراجعة العامة للسياسات العمومية. إضافة إلى ذلك، قامت فرنسا بعملية إدماج الوزارات وضيقت من المندوبيات الترابية بهدف تمكين تناسب حجم البرنامج بالمحيط الإداري المعني. ويجب الإشارة إلى أن الإصلاح الإداري في فرنسا يمكن اعتباره أكبر تحد واجهه البلد خلال ولاية نيكولا ساركوزي. منذ ذلك الحين، نلاحظ أيضا أن هناك استقرارا على مستوى عدد ومضمون البرامج والأهداف، إضافة إلى المؤشرات التي لم تعرف تغييرات نوعية منذ سنة 2009، وهوما يترجم إرادة هذا البلد وطموحه لإنجاح وضع ميزانيات البرامج الكفيلة بتحقيق النتائج المنتظرة. القاسم المشترك بين كل التجارب الدولية، بما فيها التجربة الفرنسية، هو توفر إرادة سياسية قوية وتفعيل دور البرلمان لتصور إصلاح بدأ بسن إطار قانوني واضح ومُفصًّل كمقترح لقانون تنظيمي للمالية، مرورا بالمراجعة العامة للسياسات العمومية ووصولا إلى وضع صيرورات كلية. بفضل هذا الإصلاح تمكنت فرنسا من المرور إلى الجيل الثاني لإصلاح الميزانية بإرساء صيرورات كلية تهدف إلى خلق توازن لمكونات الجيل الأول من إصلاح الميزانية. يستشف من تحليل الإحصائيات أن عدد المهام وعدد البرنامج وعدد الأهداف لكل برنامج ثم عدد المؤشرات عرف على العموم استقرارا، مما يعني أن فرنسا انطلقت برؤية واضحة فور المصادقة على قانون تنظيمها سنة 2001. فنسبة المؤشرات الثابتة على مر السنوات منذ سنة 2009 هو 88 بالمائة. من جهة أخرى، لم يتجاوز معدل عدد الأهداف لكل برنامج هدفين ونصف، مما يعني أن الأهداف الخصوصية للبرنامج يجب أن تكون على العموم مقلصة وتعبر عن المكونات الرئيسية للبرنامج. أما مؤشرات تتبع درجة تحقيق الأهداف فلم تتجاوز معدل مؤشرين لكل هدف. وهذا المعدل منطقي بحكم أنه يجب انتقاء مؤشرات النتائج وليس مؤشرات الوسائل أو مؤشرات النتائج. لكن لا شيء يمنع من انتقاء أكثر من مؤشرين إلى حدود ستة بالنسبة لبعض الأهداف التي تتطلب مزيدا من الضبط والتتبع إن اقتضى الحال. ثمة إجراءات جريئة أخرى تم اتخاذها كحذف أكثر من 30600 منصب على إثر الإحالة على التقاعد ومنع تحويل الاعتمادات إلى الأجور منعا باتا وتطوير المراقبة على تطور كتلة الاجور. وفي مجال التكوين عملت وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية على تكوين 10000 موظف حول كيفية تدبير ميزانيات البرامج شملت، على حد سواء، التقنيين والأطر العادية والمسؤولين. أما من جانب الأنظمة المعلوماتية فقد تم تطوير أنظمة معلوماتية عديدة ككوريس وإيليو من أجل مواكبة الإصلاح وتسهيله. وأخيرا وليس آخرا، قامت فرنسا بخلق لجنة بيوزارية للتدقيق في البرامج Comité d'Audit et d'Evaluation des Programmes, CIAP وهو عبارة عن مؤسسة عمومية مستقلة تقوم بتحديد السقف المنتظر بلوغه لكل مؤشر، وكذا خلق مصالح المراقبة الداخلية للتدبير في كل وزارة وكذا لجن التدقيق الداخلية. *أستاذ جامعي ومفتش إقليمي سابق بوزارة المالية. صوت خبراء "البام"