دخل قطاع التعليم في المغرب منذ فترة في مشروع وصف بالكبير لتحديث القطاع و تطويره بالاعتماد على نتائج "الخبرة" التي خلص إليها مجموع الذين أوكلت إليهم مهمة النظر في أعطاب ومشاكل التعليم في إطار ما سمي بالمجلس الأعلى للتعليم و الذي تم إنشاؤه برعاية و إرادة ملكية. "" والحقيقة أن هذا "المشروع الواسع" الذي هللت الدعاية الرسمية له طويلا و جندت له الدولة الخبرات وعقدت من أجله اللجان والاجتماعات و صرفت في سبيله أموال طائلة لا سبيل لمعرفة قدرها لم يسفر في النهاية عن شيء ملموس، فأفضل عبارة يمكن بها تلخيص الحدث و نتائجه هي ما ينقل عن الفرنسيين في مثلهم الدارج "تمخض الجبل فولد فأرا". فالوضع باق على حاله بل ازداد سوءا على ما بينته التقارير الاخيرة.ان المشتغلين في الميدان لم يكونوا في حاجة للتقرير الاخير-الذي صنف التعليم المغربي في مرتبة ادنى من فلسطينالمحتلة-فقد كانوا يعرفون ان الواقع بشع وان ليس بامكان لا المجلس الاعلى للتعليم ولا عشرية التعليم ولا كل اللجان التي يحب السادة المسؤولون عقدها ان تغير شيئا. و السبب في ذلك واضح وهو الفرق الشاسع ما بين التعليم كموضوع مجرد يفكر فيه هؤلاء المسؤولون في قاعات مكيفة و مكاتب فخمة والتعليم كما يعيشه المشتغلون كواقع مؤسف في المدارس و الأقسام. ففي مقابل الحديث عن "الاستراتيجيات" و "البيداغوجيات" و "الأهداف" التي وضعتها الوزارة للنهوض ب"التنمية المستدامة" وربط التعليم ب"محيطه المجالي" و تربية التلميذ على "المواطنة" و "الحس الإبداعي" و "حقوق الإنسان" وربما الحيوان و النبات وغيرها من عبارات المعجم الخشبي المتكلس الفارغ الدلالة الذي كان و لا يزال يتبجح به المسؤولون في لقاءاتهم و حواراتهم، في مقابل ذلك، تزامن هذا المشروع "الطموح" مع عملية تسريح واسعة للأساتذة و المدراء و العاملين في إطار ما سمي بالمغادرة الطوعية-وما هي بالطوعية في شيء- وهو الأمر الذي ترك ألاف المؤسسات في البلاد شبه فارغة من الأساتذة و العاملين حتى وجدنا أكبر أكاديمية في البلاد تعرض عشر مدارس للبيع نظرا لعدم توفر الأطر الكافية لتسييرها و هي – و الحمد لله- خطوة في اتجاه تفعيل "التنمية المستدامة" و "البيداغوجيات" و "الاستراتيجيات" الخ الخ الخ... التي حددها الميثاق الوطني "للنهوض بالقطاع". و قد تزامن هذا المشروع "الطموح" أيضا مع حملة واسعة لخوصصة التعليم من خلال تشجيع التجار و المضاربين على بناء المدارس و تكوين التلاميذ. و قد أعطى الوزير السابق المثل بالملموس عن ذلك عندما عمد شخصيا إلى تأسيس مجموعة مدارس خاصة به. و لا أحد يجهل في المغرب حجم الغش و السرقة و التزوير الذي تشيعه و تمارسه هذه الدكاكين التعليمية و هو الغش و التزوير الذي يمارس على مرأى و مقربة من الوزارة الوصية، إذ تتكلف هذه المؤسسات الخاصة جدا بإعطاء التلاميذ كمقابل للأجر الشهري نقطا خاصة جدا لا تقل عن 20/18 لكل التلاميذ، بل إنها قد تصل أحيانا إلى ما يتجاوز العشرين (20) كما حصل في إحدى المدارس المشهورة في الدارالبيضاء السنة الماضية، إذ وجد أحد المراقبين أن معدل نقط بعض التلاميذ عند مراجعته يتجاوز الحد الأقصى بنقطتين، أي أنهم حصلوا على 20 / 22 دون أن تكلف الأكاديمية نفسها أمام هذه السابقة العالمية التي انفردت بها بلادنا أن تنذر المؤسسة المعنية، بل صارعت إلى طي الملف قبل أن يتسرب إلى الإعلام. و في مقابل الأجر الشهري أيضا، يمكنك ألا تحضر كتلميذ بتاتا إلى القسم و أنا أعرف شخصيا تلاميذ مسجلين بقسم الباكالوريا بمدارس خاصة يتابعون دراستهم بها رسميا وهم يشتغلون في نفس الوقت و يقيمون في فرنسا و إيطاليا. و لا يسألني أحد منكم عن دور المفتشين و المشرفين في المراقبة إذ أن هؤلاء، إلا بعضهم، ينحصر دورهم في الدخول إلى إدارة المؤسسات الخاصة للحصول على بعض الأظرفة الخاصة طبعا، قبل الرجوع من حيث أتوا معززين مكرمين بعد احتساء القهوة في مكتب السيد المدير. ليس بالخطب الرنانة الأشبه بالإستمناءات اللغوية التي يتشدق بها المسؤولون في مكاتبهم المغلقة و أمام الميكروفونات ولا بالكتب البيضاء و الصفراء و البنية التي تصدرها الوزارة يمكن معالجة الوضع بل بالنزول للميدان و معالجة الجزئيات اليومية الملموسة وتوفير الشروط المادية للعمل. ففي الوقت الذي كان الوزير السابق يصرف فيه 40.000 درهم شهريا على ورود وشكلاطة مكتبه الوثير إن كان الوزير الحالي كان بعض الزملاء و لا يزالون في بعض الأقسام يضطرون لطلاء الحائط بالصباغة السوداء للكتابة عليه نظرا لعدم توفر السبورة. لن يتحقق إصلاح حقيقي ما لم يتوجه الأوصياء لمعالجة المشاكل من جذورها العميقة، و البداية تكون من مدارس تكوين المعلمين والأساتذة و التي هي عبارة عن مؤسسات لابتزاز الطلبة معنويا، و أحيانا ماديا، من خلال مساومتهم و مساومة مستقبلهم المهني بالخضوع و التذلل للأساتذة المكونين و هو الأمر الذي عايناه كواقع في "المدرسة العليا للأساتذة" بمكناس، حيث كان بعض الأساتذة –في شعبة الفلسفة- يصفون حساباتهم مع بعض الطلبة في النتائج النهائية. ولن يتحقق الإصلاح أيضا ما لم تعد الجهات الوصية النظر في تركيبة و مهام اللجان التي تعد و تختار المقررات الدراسية وهي اللجان التي، كما أوضح ذلك بعض الزملاء مؤخرا في الإعلام، تعتمد الزبونية و المحسوبية معيارا في اختيار المقررات وأصحابها، بغرض الاستفادة من كعكة التعويض المالي الذي تقدمه الوزارة. ولن يتحقق الإصلاح أخيرا، و ليس آخرا، دون التوجه إلى تجهيز المؤسسات بالكراسي والنوافذ والسبورات والطاولات والمراحيض الحافظة لكرامة الآدميين عوض أن يضطر بعض التلاميذ و الأساتذة في المؤسسات القروية النائية إلى الخروج من القاعات إلى الخلاء أو استعمال الأكياس البلاستيكية السوداء قصد قضاء حاجاتهم، أو للخروج إلى المقاهي المجاورة كما هو حاصل في أقدم و أعرق ثانوية في نيابة عين السبع في الحي المحمدي بالبيضاء. فلو حصل أن صرف على تجهيز و إصلاح المؤسسات و الأقسام ما صرف في كل اجتماعات "الخبراء" و "المسؤولين" ما بين الحلويات و المياه المعدنية و تعويضات النقل، لكان ذلك أجدى و أنفع. الإصلاح يا سادتي يحتاج إلى قليل من الخطب و لاجتماعات و إلى كثير من الأفعال وإلى قدر أكبر من الغيرة الوطنية و النية الحسنة.