إن دراسة مكونات مجتمع ما وخاصة محاولة حصره في طبقات اجتماعية متباينة اعتمادا على معايير علمية موضوعية بعيدة عن كل مزايدات أو تمويهات سياسية لمن شأنه تنوير وتوجيه السياسة الاقتصادية العمومية وطنيا وجهويا في الاتجاه الذي يضمن تجنب العشوائية في صياغتها وجعلها متميزة بالمرونة وخصوصا جعلها تتماشى ومتطلبات ليس فقط كل شريحة اجتماعية معينة ولكن، من الأنجع، الحديث عن كل جهة من جهات البلد علما بأن لكل ساكنة جهة ما متطلبات وخصوصيات تميزها عن سكان الجهات الأخرى وبالتالي وجب الحديث عن سن سياسات عمومية اقتصادية جهوية عوض الحديث عن سياسات اقتصادية "طبقية". لأن الجهوي أكبر وأعم وأهم مما هو "طبقي". فالجهوي يشمل ويضم "الطبقي". "" وبمعنى آخر، فليست كل الجهات ولا كل المجتمعات تتميز بتواجد ثلات طبقات (الفقيرة – المتوسطة – الغنية) إذ ثمة جهات ومجتمعات لا تعرف هذا التصنيف. علاوة على أنه من الصعب، لانظريا ولاتطبيقيا، إعطاء تعريف يحض بإجماع كل الباحثين (لاختلاف اهتماماتهم وميولاتهم ولاختلاف مجتمعاتهم...) لمختلف المكونات "الطبقية" للمجتمع، لاداخليا ولا بين البلدان، بغية المقارنة وبغية سن سياسة اقتصادية عمومية ناجعة. علاوة على هذا، فالمقاربة الجهوية المحلية ستهين على الباحثين والمسئولين ليس فقط من الحصر الأمثل والواقعي لمكونات ساكنة الجهة (وبالتالي مجموع ساكنة الوطن) وخاصة الطبقة المتوسطة، بل ستجعل من مسألة توسيع نسبة الفئة المتوسطة، جهويا ووطنيا، والرقي بها لتكون محركا للاقتصاد الوطني، أمرا هينا نسبيا بالنسبة للحكومة من خلال سن سياسة عمومية جهوية محلية موجهة لهذا المبتغى. في مجالات متعددة يمكن الجزم بأن استهداف واحتواء الجهوي المحلي يكون أهون وذو فعالية ونتائج إيجابية من استهداف الوطني في شموليته. بالتأكيد أن الرؤيا الجهوية أكبر وأعم وأهم من الرؤيا الطبقية المبهمة وذات أهداف واستغلال سياسي أكثر منه اقتصادي. وحتى إذا ما آمنا بتواجد طبقات اجتماعية عبر كل جهات المغرب، فمسألة إيجاد توازن اقتصادي واجتماعي وسياسي... بينها لا يمكنه أن يتأتى إلا بتبني النظرة الجهوية. أي من خلال سن مخطط تنموي جهوي توجيهي يتضمن البرامج (الاستعجالية والمتوسطة والبعيدة المدى) التنموية الملائمة للجهة والموارد المالية اللازمة لتحقيق هذه البرامج. وبالموازاة مع هذا المخطط الذي يجب أن يكون مرنا أي قابلا لإقحام بعض التعديلات حين بروز معطيات اقتصادية واجتماعية لم تكن مرتقبة، وجب، وهذا المشروع/المقترح أصبح ضرورة مؤكدة ومعاصرة، سن قانون مالية سنوي خاص بالجهة يهم المشاريع خاصة الاستعجالية والمتميزة بالواقعية وبالإمكانية الفعلية للإنجاز. فقانون مالية الجهة ستتم بالطبع صياغته من طرف كل الفاعلين الجهويين وفقا لمتطلبات تنمية جهتهم وفي نفس الوقت تماشيا والمحاور الاستراتيجية الكبرى للسياسية الاقتصادية الوطنية لنتمكن من ضمان توافق وانسجام بين ما هو جهوي وما هو وطني شامل. والإيجابي في قانون مالية الجهة كونه سيشكل معيارا بالغ الأهمية بالنسبة للسياسة الاقتصادية والاجتماعية التآزرية الواجب تفعيلها من خلال الخطاب الرسمي. وتتضح أهمية اللجوء إلى البعد الجهوي من خلال توجيهات ملك البلاد، خلال خطاب العرش، والتي تحث على إقامة "جهوية متقدمة، نريدها نقلة نوعية في مسار الديمقراطية المحلية". جهوية، يضيف جلالته، متجاوزة "للعقليات المركزية المتحجرة". قد تكمن أهمية التقرير الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط المتعلق بمحاولته تعريف وتصنيف الشرائح الاجتماعية المكونة للمجتمع المغربي، في الجدل الذي أفرزته، نظريا وعلميا، حول المفاهيم المعتمدة والمنهجية المتبناة والإحصائيات الصادرة عن هذا التقرير وبالتالي التوصيات المقترحة... . فهذا التقرير يقر بأن المجتمع المغربي مصنف إلى ثلاث طبقات اجتماعية: الفقيرة 34 % والمتوسطة 53 % والغنية %13 مركزا اهتمامه على "الطبقات" المتوسطة في المغرب. أولا، وحفاظا على التناغم المصطلحي المتبع، وجب تبني مصطلح الطبقة المتوسطة المتعددة الخاصيات عوض الطبقات المتوسطة دلك أنه إدا تبنى المفهوم الأول فعلى التقرير، منهجيا، إبراز والحديث عن الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة وعدم حصر صيغة الجمع على مصطلح الطبقة المتوسطة فقط. ففي غياب هذا التوضيح المصطلحي، قد ينزلق البعض إلى الاعتقاد بأن المجتمع المغربي يتميز بطبقات متوسطة غير متجانسة وبطبقتين الفقيرة (كطبقة متجانسة المكونات) والغنية كذلك. ولا أعتقد أن هذه التشكيلة المجتمعية ذات مصداقية علمية. وفي نفس السياق، فكما عمد التقرير إلى إبراز مكونات "الطبقات المتوسطة" كان عليه تنوير المهتمين والباحثين بمكونات "الطبقة" الفقيرة و"الطبقة" الغنية. وهذا التوضيح جد مهم لكونه سيبرز من هي الطبقة المساهمة فعليا في الناتج الوطني وبالتالي سيساعد على بلورة سياسة عمومية (politique de redistribution) تساهم في ضمان استفادة كل مواطن مغربي، كل في جهته، من ثروات البلاد والتي هي في الواقع محصول مجهود كل المغاربة في كل الجهات. فالتوازن في التوزيع بات ضرورة ملحة للرقي بالمستوى المعيشي للمواطن المغربي وضرورة ملحة لضمان السلم الاجتماعي وضمان نمو معدل الاستثمار. فإذا كانت النسبة المئوية، حسب التقرير، "للطبقات المتوسطة" تنحصر في 53 % علما بأن دخل مكوناتها يتراوح بين 2800 درهم و 6736 درهم، فهذا يعني بأن 48% من هذه الطبقات هم النشيطون المشتغلون أي المساهمون في إنتاج ثروة البلاد ويتحملون عبء 8،3% من العاطلين إضافة إلى 43،7% من الساكنة غير النشيطة. وفي هذا الباب أتفق مع استنتاجات التقرير حين يؤكد على لجوء هذه الفئة إلى الاقتراض لأنها تعول أكثر من طاقتها باضطرارها للجوء إلى الاقتراض ( هذا إذا كان الأمر هينا عليها لأن اللجوء إلى البنوك ليس في متناول كل "الطبقات المتوسطة" التي أشار إليها التقرير). فإذا كان واقع هذه الطبقة على هذا النحو، فمن البديهي أن نجزم بأنه ليس بإمكانها الادخار ولا بإمكانها تراكم الادخار أي تكوين رأسمال وبالتالي ليس بإمكان البلاد الاعتماد على هذه الطبقة، في الوقت الراهن، كي تنجز استثمارات وتساهم في الرفع من معدل النمو. فالمسألة إذن واضحة بالنسبة للسياسة العمومية الواجب سنها لفائدة هذه الطبقة قصد التخفيف من العبء الذي تتحمله لكونها تعول نسبة أكثر من نسبتها ولجعلها تشكل، على المدى المتوسط، قاطرة التنمية في البلاد. فإذا ما تقبلنا احتساب الفئة العاطلة ضمن "الطبقات المتوسطة" لكونها مدعوة للإشتغال عند توفر فرص العمل (مع ضرورة التوضيح أن التقرير، بالنسبة لهذه الفئة، لم يحترم معيار الدخل ولكنه اعتمد معيارا آخرا خاصا بتعريف الفئة العاطلة والمعترف به دوليا من طرف B.I.T)، فلا يمكن استيعاب أن تدرج فئة غير النشيطين والمتكونة من الساكنة غير النشيطة (ربات البيوت، الطلبة، كبار السن والمتقعادين وآخرين لم يتم تحديدهم... ضمن "الطبقات المتوسطة" التي تتقاضى، حسب التقرير، دخلا يتراوح بين 2800 درهم و 6736 درهم. فنسبة هذه الفئة يجب، وبكل موضوعية، أن تستثنى من نسبة "الطبقات المتوسطة". النسبتين المتعادلتين في هذا التقرير هما نسبتي البطالة لذى الطبقة الغنية ولدى الطبقة الفقيرة. الفرق يكمن في طبيعة البطالة، فلدى الطبقة الفقيرة تعتبر البطالة غير إرادية بالمفهوم الكينيزي للمصطلح (chômage involontaire). أما بالنسبة للطبقة الغنية، فمفهوم مصطلح البطالة يصبح كلاسيكيا (chômage volontaire ). وللفرق بين هذا وذاك تفسيرات وتأويلات ومعاني شتى وخاصة الانعكاسات السلبية المتعددة الجوانب التي من الواجب تخطيها من خلال سياسة التآزر كما جاء في الآية الكريمة "...كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم..." ومن خلال سن سياسة عمومية جهوية تولي الأولوية للجهات ذات معدلات بطالة مرتفعة مقارنة ليس مع معدل البطالة الوطني ولكن مقارنة مع معدلات البطالة على صعيد باقي جهات البلاد. فالمقاربة يجب دائما أن تكون جهوية قبل أن تكون وطنية شمولية. وكذلك الشأن بالنسبة لسياسة الحد من البطالة. هذا، وعلاوة على اكتفاء بلورة إحصائيات هذا التقرير على الدخل أو المستوى المعيشي في علاقته مع ثروة البلاد وتوزيعها لا يمكننا من التوفر على معطيات حقيقية بمفهومها العلمي وبمفهوم واقع الاقتصاد المغربي. ذلك أن الدراسات أثبتت أن معيار ثروة البلاد أو الناتج الداخلي قد أصبح متجاوزا خاصة في الاقتصاديات التي يصعب فيها احتساب بعض الأنشطة غير المهيكلة بصفة عامة. أضف إلى هذا عدم الدقة التي تميز بعض إحصائيات هذا التقرير إذ أنه يشير إلى كون 40% من "الطبقات المتوسطة" تشكل من الفلاحين دون التلميح إلى نوعية الفلاحين (الكبار والصغار). فالفلاحون الصغار هم الأغلبية ومحصولهم خاضع في معظمه للتقلبات المناخية وبالتالي فعائدات محاصيلهم غير قارة وبالتالي بقاءهم ضمن فئات "الطبقات المتوسطة" غير قار وغير مضمون. أما الفلاحون الكبار والذين غالبا ما يكون محصول زراعتهم موجه للتصدير، فتسويق محصولهم هو أيضا خاضع لتقلبات اسعار السوق وأسعار العملات والمنافسة وغيرها وبالتالي، فحصر كل الفلاحين ضمن خانة واحدة واعتبارها فئة من الطبقات المتوسطة،وفقا للمعايير المتبعة، أمر غير مقنع. كما أن توزيع نسبة "الطبقات المتوسطة" حسب جهات المملكة، كما أعلنت عنه جريدة "الحياة الاقتصادية" La Vie Economique ، لا يشير إلا إلى سبعة جهات من بين الستة عشر جهة. فهذا التقصير في الإحصائيات يكاد يجعل الباحث يجزم بعدم تميز كل جهات المملكة ب"الثلاثية الطبقية" (الفقيرة - المتوسطة - الغنية) المشار إليها في التقرير. كانت ستكون لهذا التقرير بالغ الأهمية، عمليا، لو أنه أخذ بعين الاعتبار خصائص ساكنة كل جهة واستنتاج إحصائيات جهوية تكون ذات واقعية للمساهمة في، أولا، حصر علميا الطبقة المتوسطة في المغرب وتنوير الحكومة في سن سياسة عمومية تجعل من هذه الشريحة من المجتمع محركا فعليا للاقتصاد الوطني. وثانيا، مواكبة التوجه الجديد للسياسة الاقتصادية والاجتماعية العمومية للبلاد والتي تهدف أساسا إلى الرقي بالجهة وجعلها فاعلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فعالا وحقيقيا على الصعيد الوطني. ولن يتأتى هذا المبتغى إلا : *بسن مخطط تنموي جهوي توجيهي يتضمن البرامج (الاستعجالية والمتوسطة والبعيدة المدى) التنموية الملائمة للجهة والموارد المالية اللازمة لتحقيق هذه البرامج، مع العمل على جعله مرنا أي قابلا لإقحام بعض التعديلات حين حدوث تغير غير مرتقب للمعطيات الاقتصادية والاجتماعية التي صيغ على أساسها. *بإقرار قانون مالية جهوي يتم إعداده وتنفيذه من طرف كل الفاعلين النشيطين داخل كل جهة من جهات المملكة، *وبتواجد وتجسيد الجهة داخل البرلمان بهدف تعزيز وترسيخ أسس ومبادئ مسار الديمقراطية الجهوية والمحلية في المغرب بحيث ستعمل كل جهة داخل البرلمان على ضمان جلب التأييد لقانون ماليتها الجهوي والعمل على تفعيله بعد حصوله على التزكية من طرف الإدارة المركزية بصفتها دستوريا المحاور الوحيد والأوحد للجهاز التشريعي لضمان، فقط، دون تأويلات، انسجامها وتكاملها، أولا، مع باقي قوانين المالية الجهوية المقترحة من طرف مجموع جهات المملكة و،ثانيا، ضمان تماشيها والتوجهات الرئيسية الأساسية للاقتصاد الوطني في شموليته. * باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية