تعتبر المبادرة السياسية السامية الرامية لسن أسس جهوية مغربية متميزة وتفعيلها تتويجا سياسيا للمسار الذي شهدته مسألة الجهوية في المغرب. ويمكن اعتبارها خطوة بالغة الأهمية من ناحية الثقة التي يوليها ملك البلاد الساهر والضامن لوحدة هذا الوطن في الكفاءات والمؤهلات البشرية الجهوية من خلال تشريفها بتدبير شأنها العمومي الجهوي. بالغة الأهمية كذلك لكونها ستبرز مدى عبقرية الفكر المغربي في بلورة وصياغة نموذج للجهوية المغربية. نموذجا متميزا، لا مقتبسا ولامستوردا، بل متسما ببصمات فكر مغربي وطني. فهذا المشروع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمؤسساتي الطموح سنت له التوجيهات السامية أربعة ركائز أساسية لتشكل عموده الفقري وصلبه. أولا: التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها، في وحدة الدولة والوطن والتراب، التي نحن لها ضامنون، وعلى صيانتها مؤتمنون. فالجهوية الموسعة، يجب أن تكون تأكيدا ديمقراطيا للتميز المغربي، الغني بتنوع روافده الثقافية والمجالية، المنصهرة في هوية وطنية موحدة. فهذا المرتكز لا جدال بشأنه لكون كل المغاربة أينما كانوا وكيفما كانوا متشبثون بالعرش العلوي المجيد من خلال البيعة الراسخة بين الشعب المغربي والملك. فالبيعة افتخار وتقليد أصيل ومتميز للشعب المغربي اتجاه العرش العلوي الذي يؤمن، هذا الشعب، أنه في ظله ووفقا لتوجيهاته ومواكبة لمبادراته، سيؤمن استمرارية نعمة وحدته وتماسكه تحت شعار الله، الوطن، الملك. فهذا الشعار إنما هو الوطنية المغربية الأصيلة أي الإسلام أولا كدين لكل المواطنين ومرجعية دستورهم ومنهج تعايشهم مع الديانات السماوية الربانية الأخرى داخل وخارج هذا الوطن. الدين الذي وجدنا جدودنا متشبثين بمبادئه والبعيد كل البعد عن الفتاوى والتحويلات والتأويلات السياسوية والتي هي في صلبها تهدف زعزعة الوحدة الدينية للشعب المغربي. فالإسلام هو دين رباني هباه الله لعباده تاركا لعباده الحرية في إتباعه – وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر/ الكهف الآية 29 -. أما بروز حزب يدعي أنه يمتلك الاسلام ويعمل على فرضه في هذا البلد فهذا أمر عجاب لأنه يحمل في طياته عدة تناقضات ذلك أنه كيف يمكن فرض تبني ديانة وهي موجودة سائرة في عروق هذا الشعب منذ القدم حتى قبل أن يصحو هؤلاء المتزعمون لامتلاكهم النسخة الصحيحة لهذا الدين الرباني. فهذا التناقض ومآرب أخرى في أدهانهم تجعل من مزاعمهم أمرا سياسيا محضا ولا علاقة له بالدين الرباني ولا حاجة للمغاربة به ولا أساس لمثل هذه الأحزاب أن تتواجد وتتوالد في هذا البلد المسلم أبا عن جد. فالأصل بين وجلي، والاعوجاج وأهداف زرع الفتنة بينة. من الناحية الدينية، فالمغاربة حافظون لدينهم بعد الله الذي شاء جل جلاله أن جعل بينهم أمير المؤمنين إمامهم الوحيد والأوحد الضامن لوحدة البلاد واستقرارها والساهر على ضمان الحريات العامة للشعب المغربي بمختلف مكوناته. ثانيا : الالتزام بالتضامن. إذ لا ينبغي اختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات، بين المركز والجهات. فالتنمية الجهوية لن تكون متكافئة وذات طابع وطني، إلا إذا قامت على تلازم استثمار كل جهة لمؤهلاتها، على الوجه الأمثل، مع إيجاد آليات ناجعة للتضامن، المجسد للتكامل والتلاحم بين المناطق، في مغرب موحد. من الوجهة العملية إذا ستترجم الجهوية الموسعة إلى إعادة النظر في توزيع السلطات وهيكلتها بين المركز والجهات. وهنا تبرز نقطتين أساسيتين: أولاهما، على أي أساس أو أسس ستتم إعادة هيكلة الجهة في المغرب لتكون متميزة؟ ثانيهما، لمن ستولى تدبير شؤون الجهة وكيف؟ لقد تم التركيز في مقال سابق أن الأولوية التي يجب أن تولى لما هو اقتصادي ذلك أن الجهوية الموسعة يجب أن تنطلق من منظور اقتصادي محض وواقعي وليس من منظور سياسي حزبي أو أمني كما كانت جل الأقلام تشير إلى ذلك. بمعنى أن التخطيط للجهوية الموسعة يستلزم تشخيصا دقيقا للمؤهلات والمعيقات الطبيعية والمادية والمالية والبشرية وغيرها لكل الجهات الحالية لتتلو هذه المرحلة مرحلة موالية أي مرحلة دمج أوتوسيع، في إطار تضامني وتآزري وتكاملي، مثلا بين جهتين الأولى تعرف نموا وازدهارا بسبب تفوق مؤهلاتها على معيقاتها والثانية تعرف تعثرا لتغلب معيقاتها على مؤهلاتها لتشكلا، كلتا الجهتين في نهاية الأمر، قطبا جهويا متكاملا ومتضامنا اقتصاديا. وعلى هذا النحو يمكن أن نجزم بأن التكامل والتضامن الاقتصادي بين الجهات سيضمن النمو الاقتصادي المتكافئ والذي بدوره سيضمن النمو والاستقرار الاجتماعي الذي سيضمن النضج السياسي في مغرب واحد موحد ومتشبثا وفخورا بهويته ووطنيته بعيدا عن القبلية والعرقية والتصلب الفكري والتعنت الحزبي والديني. في ظل هذا المناخ ستبرز أطر مؤهلة أي ما ورد في خطاب جلالته، بانبثاق مجالس ديمقراطية، لتدبير الشأن العمومي الجهوي متبناة للبعد الجهوي وانسجامه وتناسقه والبعد الاقتصادي الوطني. حينئذ سيمكننا الحديث عن بلورة قانون مالية جهوي يتم إعداده من طرف الأطر الجهوية المؤهلة لذلك تماشيا واقتصاد الجهة وتماشيا كذلك والخطوط العريضة للسياسة الاقتصادية للبلاد. ومن هنا يمكننا الحديث عن إمكانية تعزيز تمثيلية الجهة داخل البرلمان لتعليل قانون ماليتها والمصادقة عليه. ثالثا : اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات، وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها، بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات. فهذا المرتكز سيجعل، من الناحية المجالية، من تفعيل الحكامة وضبطها أكثر فعالية جهويا من ناحية المراقبة لصرف الميزانيات العمومية الجهوية وتدبير الصفقات العمومية وتجنب بروز اقتصاد ريع جهوي وتتبع ومحاسبة كل الخروقات والتجاوزات وتحمل المسؤوليات فعليا وقانونيا. فعلاوة على تعزيز الدور الجهوي للمجالس العليا للحسابات والمحاكم الادارية والتجارية والسلطات المحلية وغيرها وجب التحلي بروح الوطنية المغربية المتميزة بالتشبث بالتضامن والتآزر. فالحكامة الجيدة قبل أن يتم إرساءها من خلال ترسانة قانونية، فهي أولا أخلاق وسلوك وتعامل وضمير يقض مؤمن ومتشبع بحبه لوطنه ولملكه والتي بدونها تضل الترسانة القانونية دون فاعلية. وثانيا، فهي مؤهلات بشرية وجب حسن توظيفها وإدماجها ومنحها الفرصة للمساهمة الفعلية والفعالة في تشييد نمو جهتها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا. فالحكامة لن تكون سلطوية بل وجب تمريرها من خلال تناسق الرؤى والأهداف والمناهج والتفاعل الايجابي بين المكونات البشرية الجهوية من جهة، ومن جهة أخرى التفاعل الايجابي بين مختلف المشاريع القطاعية وبين الجهات ليكون المبتغى حكامة ترابية ناجعة بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي وهي المرتكز الرابع. فهذه المحاولة المتواضعة لفهم الركائز الأربعة السامية تجعلنا نستنتج أنها في الواقع نقطة انطلاق عمل اللجنة التي شرفها عاهل البلاد بصياغة نموذج لجهوية موسعة مغربية المميزات، وفي نفس الوقت جوهر ثمرة عملها. عمل ومجهود فكري وإبداعي في إطار التشاور وإشراك كل الفعاليات الاقتصادية والسياسية والقانونية والمجتمع المدني. في ظل هذه التشاورات ومن خلال تتبعنا لما تعبر عنه بعض الأحزاب السياسية من خلال صحفها نجدها تكتفي باقتراحات لتبني بعض النماذج الغريبة والبعيدة عن خصوصيات بلدنا كاقتراحها للنموذج الايطالي أو الاسباني أو الانجليزي أو ما شابه ذلك. ففي الوقت الذي كان مفروضا فيه أن تكون هذه الأحزاب، لكونها كانت تنادي بجهوية موسعة سياسيا، متوفرة على نموذج أو تصور مغربي متميز جاهز وقابل للنقاش والتفعيل، نجدها تكتفي بالمناداة بإلباس الجسد المغربي لباسا غريبا وغير ملائم لجسده. وهذا الأمر إنما يعكس المستوى الفكري والإبداعي الرديء لهذه الأحزاب وحتى عدم قدرتها على استيعاب مضمون التوجيهات السامية التي تدع إلى الابتكار ولا إلا الاقتباس. كان من الايجابي أن تقوم الأحزاب المغربية بتعبئة الشعب المغربي وتوعيته من خلال تجمعات وأيام دراسية وابواب مفتوحة وفتح مقراتها والقيام بجولات للقاء مناضليها كتلك التي كانت تقوم بها خلال حملاتها الانتخابية بهدف شرح وتبسيط مفهوم المشروع السامي للجهوية الموسعة لتكون هذه المبادرة الحزبية موازية لعمل ومجهودات اللجنة المكلفة بصياغة آليات تفعيل هذا المشروع الذي يعتبر في حد ذاته تتويجا سياسيا لمسار تطور الجهوية واللامركزية في المغرب. آه، ربما نسيت أن فاقد الشيء لا يعطيه. إذا كانت بعض الأحزاب ملتزمة الصمت من خلال جرائدها حول هذا المشروع، منشغلة ومحتاطة في نفس الوقت من انبعاث حركة تصحيحية من صلبها، فإنها تنتظر كالمعتاد ما ستثمره مجهودات اللجنة لتقوم آنذاك بتسليط سهام انتقاداتها الجوفاء اتجاهه. بالفعل إن الابتكار أمر ليس في متناول الجميع ولا بالأمر الهين ولكن الكل بإمكانه النقد السلبي غير البناء )كما يقول المثل الشعبي المتداول: عندما تسقط البقرة، تكثر السكاكين(. ويمكن اعتبار هذا الأمر، أي الضعف والتخلف الفكري والابداعي والابتكاري، كإحدى خصائص بعض الأحزاب السياسية المغربية وهذا ليس بجديد ولا بغريب ... لأنها آيلة للزوال لكونها أصبحت عبء على المشهد السياسي المغربي. لا مكانة في مغرب اليوم إلا للأصح وللأصلح وللغيور على وطنيته ومغربيته في ظل التوجيهات السامية الداعية للتضامن والتآزر. فهل بإمكاننا إدراج هذا التضامن والتآزر في إطار المشروع السامي للجهوية الموسعة؟ إن التضامن والتآزر والتكامل بين جهات البلد على أساس اقتصادي محض، بعيدا كل البعد عن الحسابات والحساسيات السياسية الضيقة المتخذة من الجهة خزانا للأصوات خلال الحملات الانتخابية كما تمت الإشارة إليه سابقا، أمر واقعي وجدي وعملي وقابل للنقاش والتحقيق إذا كان شغلنا الشاغل هو تحقيق نوع من التوازنات بين جهات المملكة. فبإمكاننا، تصويب تفكيرنا اتجاه نموذج جهوي قائم على الاندماج بين جهة أو جهتين أو ثلاث)الجهات الحالية( حسب التكامل الاقتصادي والاجتماعي المتاح والممكن بناء على دراسة دقيقة لمؤهلات ولمعيقات نمو كل جهة و كذا إمكانية التكامل والاندماج بينها لتشكل جهة واحدة موحدة متكاملة وقابلة للتفاعل مع الجهات المجاورة. وبالتالي ستكون لدينا جهات عدديا قليلة، جغرافيا موسعة، متجاوزة للعرقية والقبلية والحزبية، متمتعة)وهذا تكليف نبيل وراق ومسؤولية وأمانة( باختصاصات موسعة ومتعددة، ومتكاملة اقتصاديا تدبر شأنها المحلي الجهوي مرتكزة على مؤهلاتها البشرية وخاصة مجالسها الجهوية التي ستنبثق ديمقراطيا تماشيا والإرادة السامية . ويمكن عنونة هذا التصور المتواضع بجهوية موسعة من زاوية التفويض للاختصاصات والتدبير الإداري من المركز لفائدة الجهة مع التقليص العددي لجهات المملكة مراعاة لانسجامها وتكاملها. (*) باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية