يبقى مسارُ الدولة الوطنية الحديثة قصيرًا جدًا في التجربة المغربية، لأن عُمر الدُّوَلِ لا يُقاسُ بعمر الأفراد، فمنذ الاستقلال إلى الآن بَلغت التجربةُ الوطنية 68 سنة فقط. واعتبارًا للبِنيات الاجتماعية والمناطقية القديمة الموروثة والمستمرة في التجربة الحديثة الراهنة، فإن فُرصَ وإمكانياتِ التحقُّقِ ما تزال في الغالب مقتصرةً وحِكرًا على مناطق وروافد اجتماعية وطبقية معينة. يكفي مرورٌ أفقي وجيزٌ على المعدلات والمستويات الرسمية لإنتاج وتوزيع الثروة الوطنية، ومسحٌ لأصولِ وانتماءاتِ المسؤولين في المناصب العليا، سواء في مجال التعيين أو الانتخاب، حتى نرى أن مناطق ومدنًا، وأحيانًا عائلات بعينها تحتكر حظوظَ وأَسهُمَ المُشارَكة. من داخل هذا الواقع الهيكلي القديم الجديد بَرزتْ عبر تاريخ المغرب استثناءاتٌ وفلتات بين الفينة والأخرى هنا وهناك، وغالبًا ما كانت عِصاميةً عكس الوراثة المجالية أو العائلية، فحفرتْ في الصخر وانتزعت الاعترافَ مُراهِنةً على التكوين والمعرفة. في ضوء ما تقدّم وارتباطًا بالتعديل الحكومي الأخير على تشكيلة حكومة السيد عزيز أخنوش التي دخلت العَدَّ العكسي، وينتظرها الكثير لتجويد الأداء وتطوير الخطاب التواصلي، أسترجع هنا حظَّ مدينة سوق الأربعاء وضواحيها، أي دائرة الغرب. فمنذُ الاستقلال، وضمن أولِ حكومةٍ سنة 1955، حصل المرحوم أحمد بن منصور النجاعي (سوق ثلاثاء الغرب) على حقيبةِ وزارة الفلاحة، قبل أن يتم حَلُّ الحكومة في أكتوبر 1956 بعد سنة واحدة فقط من تشكيلِها. بقي الانتظارُ الغرباوي سيدَ الموقف منذ ذلك الحين حتى تشكيل حكومة السيد سعد الدين العثماني سنة 2017، حيث حصلت السيدة فاطنة الكحيل (عرباوة) على منصبٍ حكومي كاتبةَ دولةٍ مُكلَّفة بالإسكان، وقد كانت لي فُرصةُ عُضويةِ ديوانِها لفترة. وفي أكتوبر من سنة 2019 خرجتْ من الحكومة بعد التعديل الذي ألغى مناصب كُتّاب الدولة وقلّص أعضاء الحكومة. بالعودة إلى التعديل الحكومي الأخير في أكتوبر 2024، فإن سوق الأربعاء قد تشرّفتْ بحصول السيد كريم زيدان على حقيبةِ وزير الاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية. والملاحَظ أن فُرصة منطقة الغرب الأولى والثانية في الحكومة كانت عند التشكيل، بينما الفرصةُ الثالثةُ الحالية جاءت في منتصف الولاية. وبين هذه المشاركات هناك خمسُ سنوات في المجمل: سنةٌ أولى مع النجاعي، سنتان مع الكحيل، وسنتان مرتقبتان مع زيدان. بذلك يكون مجموعُ مُشاركة المنطقة في الحكومة هو 5 سنوات، أي ما يعادل ولايةً حكومية كاملة من الناحية القانونية والدستورية. مما لا شك فيه أن سنةً أو سنتين كتجربةٍ في أي حكومةٍ لا تكفي المسؤولَ للاشتغال وفق تصوّراتِه ورُؤيته القطاعية الكاملة، سيما في ظل إكراهاتِ منظومةِ البُنى والذهنية الإدارية التي ما تزال ورشة مفتوحة في سبيل إرساء دولة وذهنية المؤسسات. غير أن الكفاءة العالية والمِراس الذي أتى به السيد وزير الاستثمار من عالم الصناعات والمال والأعمال بعد تجارب طويلة ومُخَضرمة بين كبار أهل الاختصاص بالخارج، ومع الروح الوطنية العالية التي جاء بها السيد زيدان إلى المغرب، زاهدًا في مناصب ومسؤوليات في المَهجر، لا بُدَّ أنها مُجتمعةً ستجعل له بصمةً مميزةً خلال ما تبقّى من هذه الولاية الحكومية، على أمل الاستمرار وتعزيز الحضور والثقة في المستقبل السياسي. كما أن انفتاح المغرب والحكومة والحزب على الكفاءات والأطر في شخص كريم زيدان كواحدٍ من خِيرةِ مغاربة العالم، هو في حدِّ ذاته نجاحٌ رمزيٌ للمشهد الوطني والسياسي العام لا بد من تقديرِه وتثمينِه والسيرِ على خُطاه. وهو إشارةٌ صحيةٌ بليغةٌ ونقطةُ ضوء في ظلام الرزايا البشرية التي جاءت بها سَيْلُ الحملةُ الانتخابية الأخيرة وتهافُت صُنّاع القطاع السياسي اللحظي غير المهيْكَل. أما بالنسبة لسوق الأربعاء ومنطقة الغرب، باعتبارها مَرجعَ انتماءِ السيد الوزير الجديد، فإنها تُلَوِّحُ له بيدِ شكرٍ وافتخار، لأنه رتَقَ إحساسَ الغُبن والانتقاص الهوياتي والرمزي الذي يُلازِم أهلَها. إن رمزيةَ ودلالةَ هذه الثقة المولوية الكريمة والتعيين الحكومي لواحدٍ من أبناء سوق الأربعاء جاءت بمثابة تكريمٍ معنوي جماعي، كما لو أنه أبرزها وثبّتَها على خارطةِ الوطن، ورفع من شأنِها وأعطاها الإحساسَ والجَدوى المجالية التي تفتقدُها أمام كَتائب الخراب المُتعاقِبة على تَوَلِّي شؤونِها وتبخيسِ قيمتِها والعَبث بصورتِها في سوق التداوُل التُّرابي الوطني. إن الإنسان والمجال لا يُحقّقان الكينونةَ والوجودَ السَّوي المُتَوازِن إلا بإحقاقِ القيمة ونَيْلِ الاعتراف والتقدير الذاتي. لهذا، فإن ما صَنَعه كريم زيدان على المستوى الرمزي بسمعته ومسارِه وصولاً إلى هذا التعيين له أثرٌ غائرٌ في مُصالحةِ المواطن الغرباوي مع ذاتِه ومَجالِه الخاص، وتعزيزِ انتمائِه الوطني العام. أما إذا استطاع السيد كريم زيدان تقديمَ وتخليدَ أثرٍ محليٍ ما، سواء في قطاعِه الوزاري أو غيره من المجالات بحكم موقعِه في صُلب دائرة القرار – وهذا هو المُتَوَقَّع المأمول – فإن التاريخ المحلي سيبتسم ويُلَوِّح له بدُموع الفرح.