لعل العامل الحزبي والبرلماني في تعيين الوزير الأول لم يكن قاعدة عامة، اللهم إن استثنينا ما حدث في الحكومة الأولى بعد دستور 1963 وحكومة أكتوبر 1977 وحكومة مارس 1998 التي تم تعيين وزيرها الأول انطلاقا من النتائج الانتخابية في مجلس النواب، وترك للأخير الحرية في التشاور والبحث عن أغلبية برلمانية تساند حكومته وحكومة عباس الفاسي عقب انتخابات 2007. وقد جعلت الدساتير المغربية الثلاثة الأولى مسألة اختيار الوزراء من اختصاص الملك لوحده، حتى أتى الدستور المراجع لسنة 1992 وجعل المسألة «مشتركة» بين الوزير الأول، الذي يعمل على الاقتراح، والملك الذي يعمل على التعيين (أخذا بتلك الاقتراحات أو لا). ولقد كانت العوامل المتحكمة في تقلد هذا المنصب تتمايز بتغير الظروف الزمانية، تتوزع بين «الثابت» و«النسبي»، كالإخلاص للملك والوطن، والمكانة الاجتماعية، والتكوين العلمي، والانتماء الحزبي والبرلماني، أو الحياد السياسي، والاحتضان بناء على العلاقات الشخصية بذوي النفوذ السياسي والاقتصادي. ولا بد من الإشارة إلى أنه منذ الوثيقة الدستورية لسنة 1992 تم التنصيص على أن البرنامج الذي تعتزم الحكومة تطبيقه أمام البرلمان يكون موضوع مناقشة يعقبها تصويت، في دلالة على التنصيب «المزدوج» للحكومة وتكريسا لمسؤوليتها السياسية أمام البرلمان كذلك، وهو ما جعل الوزراء الأولين بعد تعيينهم يبحثون عن تحالفات حكومية تضمن لهم أغلبية برلمانية تصوت بالإيجاب على برامجهم وتضمن لحكومتهم البقاء في ممارسة مهامها؛ وهو الأمر نفسه الذي كرسه التعديل الدستوري لسنة 1996. هذا وقد شهدت مرحلة التسعينيات تحولا في الممارسة لصالح الخيار الحزبي في التعيين الوزاري. وتبقى حكومة «التناوب التوافقي» ل 14 مارس 1998 أبرز تجربة حكومية عرفت تغييرا على مستوى تفعيل دور الوزير الأول في تشكيل الحكومة واختيار مكوناتها السياسية. ثانيا: إعفاء الحكومات بالمغرب.. العوامل والتداعيات نصت جميع الدساتير المغربية على حق الملك في إعفاء الحكومة من مهامها، بمبادرة منه أو عند تقديم استقالتها، سواء تعلق الأمر بالحكومة ككل أو ببعض أعضائها. وتبرز التجربة الحكومية أن لا علاقة للبرلمان بإعفاء الحكومات؛ إنما تبقى المسألة تقديرية، للملك أن يستعملها في «الظروف» التي تملي ذلك. وإن كان يصعب حصر الأسباب، مثلا، في إعفاء وزير أول، فإن بعضها كان مرتبطا بانتهاء المهمة التي عين لأجلها الوزير الأول، وبرز هذا العامل في مجمل الحكومات التي كان على رأسها كريم العمراني، كحكومتي 11 أبريل 1985 و17 نونبر 1993. وبرز كذلك عامل فقدان الحياد السياسي، وتعلق الأمر على الأرجح بوزيرين أولين، الأول هو أحمد عصمان سنة 1979 والذي طلب إعفاءه قائلا: «.. أجدني مضطرا إلى أن ألتمس من جلالتكم السماح لي بالتفرغ بصفة كاملة لتنظيم التجمع الوطني للأحرار، وترسيخ وتحصين جذوره...». وقد كانت صفة الحياد السياسي أهم صفات الوزير الأول بالمغرب قبل 1998، وإن استثنينا أحمد ابا حنيني، الذي أسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهو وزير آنذاك. أما الوزير الأول الثاني فكان المعطي بوعبيد حين أظهرت مسألة إعفائه أن قيادة العمل الحكومي وقيادة حزب سياسي غير «مرغوبة» في الحياة السياسية بالمغرب. يقول الملك الراحل الحسن الثاني: «... السيد المعطي بوعبيد، إنك الآن كوّنت حزب الاتحاد الدستوري ودخلت المعمعة الانتخابية... فلم تبق غير منتم، فمن النزاهة والفضيلة السياسية أن تترك مقعدك لآخر يمكن أن يظهر في مظهر غير المتحيز.. ولذا سأطلب من السيد المعطي بوعبيد أن يتخلى عن مهامه كوزير أول». وعرفت التجربة السياسية بالمغرب إعفاء مجموعة من الحكومات أو من الوزراء الأوائل الذين تقدموا بطلب استقالتهم أو أعفوا من مهامهم، (إما بسبب حالة الاستثناء أو تجديد النخب أو الانتخابات التشريعية أو انتهاء المهمة أو فقدان الحياد السياسي أو بسبب المرض أو التجديد عبر التناوب...). كملاحظة جوهرية، فالبرلمان المغربي لم يستطع إسقاط حكومة ما على الرغم من «الحق» الذي خولته إياه الدساتير، وإنما اكتفى بتقديم ملتمسي رقابة باءا بالفشل، سنتي 1964 و1990. ويتضح، استقراءً لتجارب إعفاء الحكومات أو بعض من أعضائها في المغرب، العدد الهائل من التعديلات الحكومية، وكذا العدد الكبير من الوزراء، كحكومة عبد الرحمان اليوسفي التي وصل عدد أعضائها إلى 41 وزيرا، وحكومتي محمد كريم العمراني ب39 عضوا... إلخ. وما يلفت النظر هو أن أغلب الأشخاص الذين يغادرون في الغالب منصبا حكوميا يتولون منصبا حكوميا أو مؤسساتيا آخر، في دلالة على الدائرة الضيقة لنخبة الدولة. ويبقى عدم الاستقرار الحكومي سمة بارزة جدا في الحياة السياسية بالمغرب، إذ عبر 48 سنة (من 1963 إلى 2011) عرف المغرب 18 حكومة، بمعدل 2.6 سنة لكل حكومة، إضافة إلى تغييرات عدة همت تشكيلات أعضائها. وبخصوص حكومات تصريف الأمور الجارية، لم تعرف تجارب ما قبل سنة 1992 ذلك كثيرا، إذ الحكومات كانت تعين في اليوم الذي تعفى فيه سابقتها، اللهم حكومة 20 نونبر 1972 التي مارست تسيير الأمور الجارية ما بين 5 و10 أكتوبر 1977، ويعود السبب الأساس إلى كون الفصل 24 من الدساتير الثلاثة الأولى كان يمنح للملك حق تعيين الوزير الأول وبقية الوزراء دونما قيد أو شرط. وبعد الدستور المراجع لسنة 1992، الذي نص على تقدم الوزير الأول، بعد تعيينه، باقتراحاته بخصوص أعضاء الحكومة إلى الملك، وما يتطلبه ذلك من مشاورات بين الوزير الأول والأحزاب السياسية، من جهة، وبينه وبين الملك، من جهة ثانية. وهي المسطرة التي قد تطول، الشيء الذي يتطلب بقاء الحكومة السابقة في مهامها من أجل تسيير الأمور العادية؛ إذ نجد، مثلا، أنه تم تعيين عبد اللطيف الفيلالي وزيرا أول في 30 ماي 1994 ولم يتم تعيين بقية أعضاء حكومته إلا يوم 14 يونيو 1994. وتبقى أكبر مدة بقيت فيها الحكومة تمارس مهام تسيير الأمور العادية هي حكومة عبد اللطيف الفيلالي (الثانية)، وذلك من 4 فبراير 1998 إلى حدود 14 مارس 1998. ومع إقرار المراجعة الدستورية لسنة 2011، بدأت بوادر نقاش حول مداخل تدبير المرحلة الانتقالية وإعمال الوثيقة الدستورية، بما يحفظ الشرعية الدستورية للمؤسسات القائمة والمنتظرة. وإن كان النص الدستوري عادة ما يميز بين السلط الدستورية والمؤسسات الدستورية الممارسة لتلك السلط، كلا أو بعضا، مع تنظيم العلاقات بين المؤسسات في ممارستها للاختصاصات المرتبطة بالسلط الدستورية، إلا أن نثر خيوطه حول مسألة بقاء المؤسسات الدستورية، والمنتخبة منها في ظل الدستور المنتهية صلاحيته، بمجرد اعتماد النص الدستوري الجديد (في 29 يوليوز 2011)، أثار على هذا المستوى مدى الشرعية السياسية للحكومة التي من المفترض أن تقوم بالتنزيل القانوني والعملي للإصلاح الدستوري؟ وإشكال استمرار اشتغالها وفق الدستور الذي انبثقت في ظله، أو وفق الدستور الصادر الأمر بتنفيذه؟ المحور الثاني: الحكومة الحالية في ظل المراجعة الدستورية لسنة2011 أولا: المحيط العام للحكومة وصناعة الأغلبية: منحت لمؤسسة الحكومة صفة «السلطة التنفيذية»، وتمت دسترة المجلس الحكومي وإقرار مبدإ تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، وتعيين أعضائها باقتراح من رئيسها؛ كما تم تقييد سلطة إعفاء الوزراء بضرورة استشارة رئيس الحكومة. وهي المقتضيات الدستورية التي أقرت مبدأ التنافسية في تقلد المناصب الوزارية، متجاوزة حالة «اللاتنافسية» التي كانت سائدة قبل هذا التعديل، في انتقال ضمني من «حكومة الملك» إلى «حكومة رئيس الحكومة». هذه المقتضيات الدستورية منحت الحزب الأول صلاحية التفاوض مع مختلف مكونات المشهد الحزبي المغربي بغاية تشكيل أغلبية حكومية، وهو التفاوض الذي انبثقت عنه الحكومة الحالية التي تشكلت، بالإضافة إلى حزب العدالة والتنمية، من حزب الاستقلال والحركة الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية. إلا أن الممارسة السياسية شهدت مجموعة من الاختلافات والمزايدات بين مكونات هاته الأغلبية، هددت الانسجام بين جل مكوناتها، كان آخرها بلاغ المجلس الوطني لحزب الاستقلال، الذي أعلن انسحاب الحزب من الحكومة الحالية، داعيا إلى اللجوء إلى الفصل 42 من الدستور، بغاية طلب التحكيم الملكي، الأمر الذي جعل الأغلبية الحكومية ومعها الرأي العام يعيشان مرحلة موسومة بالانتظارية لما ستحمله الأيام من سيناريوهات، تتوزع بين الدستوري والسياسي. ثانيا: البحث عن الاستقرار الحكومي -حكومة الأقلية مخرجا- يقصد بحكومة الأقلية تلك الحكومة التي لا تحصل -أو فقدت- الأغلبية المطلقة الداعمة لها في البرلمان، وتشكل سندا لها من قبل أحزاب أخرى لتصل إلى أكثر من عدد نصف مقاعد البرلمان، وهي، دستوريا وقانونيا، حكومة شرعية ومشروعة. ففي ظل بعض الديمقراطيات ذات النظام البرلماني التي لا تستطيع حكوماتها توفير أغلبية تدعهما في البرلمان، نجدها تسعى إلى تدبير الاستقرار الحكومي عبر حكومات الأقلية، (مثل دول بلجيكا وكندا وإيطاليا وإيرلندا وإسبانيا...).
طه لحميداني قطيفة القرقري باحثان في العلوم السياسية